حاكمية الإله أم حاكمية البشر .. بقلم: سماء معاوية
بقلم: سماء معاوية هيكل

إن ما يميز حركات الإسلام السياسي في العصر الراهن هو قدرتها على الحشد السياسي والتجنيد التربوي، وذلك في محاولة لتدارك فشل مشاريع التحديث والتنمية من ناحية، وما تعلنه وما تمثله من رفض التبعية الثقافية والحضارية للمخالف من جانب آخر. ولهذا فقد تستخدم النصوص الدينية لتقوم بدور الأيديولوجيا المعارضة ضد التعنت في نظم الحكم سعيًا لتحقيق حلم الوصول للسلطة، فيطرح مفهوم الحاكمية والتي تعني – ضرورة الاحتكام للشريعة – سواء في روافدها الأولى من القرآن والسنة أو في الفقه – فقه أهل السنة – الذي يمثل ثورة على الواقع المتأزم.
وبما أن النصوص وحدها ليست كافية ولابد لها من سلطة تفرض على الناس الالتزام بتعاليمها وتوجيهاتها، فيكون الإذعان والطاعة من واجبات المخاطب بها. ولكن في بعض الأحيان تستخدم السلطة خطابا ثوريًا ضد السلطة القائمة في تناقض جلي، فينحصر المسلم المستسلم المذعن والمنطوي تحت جناح التأويلات السياسية النفعية للفقه والعقيدة، وتتجذر الفجوة بين مثالية النص المستخدم وبين واقع هذا الفكر بشقيه الرسمي أو المعارض ويظل السؤال هنا، أين موقع الإنسان من هذا السلوك؟ وهل تبرر الغايات استخدام تلك الجهات أي وسيلة ممكنة لتحقيقها فعلًا؟ هل تؤخذ بالحسبان النتائج المترتبة على ما ستحدثه هذه السياسات من كوارث وأزمات، أم أنها ستترك وتدفن لتصطدم معها الأجيال القادمة؟!
يفترض هذا التصور في البداية صلاحية حلول الماضي لإصلاح مشكلات الحاضر، فيتم الاستناد إلى سلطة السلف باعتبارهم المثال والنموذج، فتُعتمَد النصوص بوصفها نصوصًا أولية تتمتع بقداسة النصوص الأولية، وتكمن فاعليتها في الواقع بإسعافها له، فكان من طرح مثلا مفهوم الحاكمية من الأمويين، طرحه بسبب افتقار هذا النظام للشرعية التي يقوم عليها أي نظام سياسي فيكون إسعافًا لهم في واقع الخصومة السياسية حين استجاب معاوية لنصيحة ابن العاص وأمر رجاله برفع المصاحف على أسنة السيوف في دعوة منه إلى الاحتكام إلى كتاب الله، وهنا نقل الصراع من سياقه السياسي والاجتماعي إلى مجال النصوص.
وهذا المعنى – الاحتكام لكتاب الله – يختلف عن الجاهلية التي تعني الاحتكام إلى البشر، يعني ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة، بمعنى أن تلك النصوص ليست مجرد مرحلة تاريخية وانتهت؛ لكنه موقف فكري قابل للتكرار دائما كلما تأزم المجتمع وانحرف عن نهج الإسلام في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء.
وبما أن الحاكمية تعني الاحتكام لنصوص الله فجوهر وجود هذه النصوص في من يفهمها ويؤولها وأولى الناس بذلك هم رجال الدين وهم بشر لهم أهواؤهم وانحيازاتهم وأيديولوجياتهم، وفي دائرة أبعد ينظر إليهم السياسي – إلى رجال الدين – فيميل لتطويع واستثمار الفكري لصالحه، فيستخدم كل وسائل الترهيب والترغيب لأولئك الرجال لإدماجهم في منظومة السلطة، فمن خلالهم يسهل تنويم وتوجيه العامة للإذعان والإنصات، أما إذا استعصى الدخول في هذا العمل يعتبر أيضا خارجا عن الملة فيضطهد ويسجن ويعذب، ليكن عبرة لمن لا يعتبر وفي التاريخ وقبله واقعنا أمثلة شتى بمثل هؤلاء وهؤلاء على طرفي النقيض.
ربما لا يتمكن الإنسان عموما في أن يتصالح مع واقعه إلا بعد تغييره، وهكذا قد يتعامل المسلم، فبما أن الإسلام يستحيل أن يتصالح مع أي نمط من أنماط الفكر أو أي تصور من التصورات الوضعية المعاصرة بسبب وضوح نظرته وتفسيره للوجود، لأن الحق لا يتعدد وما عداه هو الضلال. فإما حكم الله أو حكم الجاهلية؛ لهذا لم يجئ الإسلام ليربت على شهوات الناس في تصوراتهم وحقوقهم ورؤاهم وعاداتهم، إنما جاء لينسف هذا كله وينسخه نسخًا ويقيم الحياة البشرية على أسسه وهكذا تتبدد واقعية الإسلام كما يطرحها الخطاب الديني ذاته.
هذا بخلاف التوتر الدائم بين المثال والواقع منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي فينتهي الخطاب الديني بعزل الإسلام عن الواقع والتاريخ معًا مع أن الوحي ومن ثم الإسلام واقعة تاريخية. ونتيجة لذلك فيشعر الإنسان بالاغتراب والخطر لأنه لا يتمكن من أن يتواجد في واقعه ويتفاعل معه ويفكر فيه بقدر ما هو يجتر حلول قديمة لمشكلات هي بنت اللحظة الحالية.
في سياق آخر يميل هذا الخطاب إلى الإشارة لتاريخية النصوص ولكن بهدف إثبات واقعية الإسلام وصلاحيته للتطبيق في الزمن الحاضر، فيستعرض مسائل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وغيرها من باب تأكيد الواقعية في التدرج والإصلاح، لكنه في مستوى آخر يتجاهل ذلك عندما يستدعي علاقات المسلمين الأوائل بواقع مجتمعهم فيتطابق تصوره للمسلمين في عصر الوحي. تلك الصورة المثالية أو النموذج الممثل أكثر في السنة النبوية، حينها يدرك التمايز عن معاصريهم في كل شيء فتتشكل الدعوة إلى الله وترتبط بالانفصال عن الواقع واعتزاله والاستعلاء عليه فليست مهمتنا أن نتصالح مع واقع المجتمع الجاهلي أو ندين له بالولاء لأنه بهذه الصفة التي هي صفة الجاهلية غير قابل لأن نتصالح معه، إنما مهمتنا أن نصلح من أنفسنا أولا حتى نغير هذا المجتمع وأولى الخطوات هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته وفي الوقت نفسه لا نحيد عن قيمنا وتصوراتنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق فإننا وإياه على مفترق الطريق وحين نسايره خطوة واحدة فإننا وقتها نفقد المنهج كله ونفقد الطريق.
في السبعينات لم يكتشف التعارض بين الخطاب الديني وبين ممثليه إلا في النهاية حين تبين لهم أن الدعم والتأييد الذي شملهم كان دعما مشروطًا بتأييده ومحاربة خصومه السياسيين والقضاء عليهم إذا أمكن، فالدعم كان بهدف تحجيم نشاط القوى السياسية الأخرى الناصريين والشيوعيين تحديدًا لأنها وقتها كانت تشكل خطرًا على تصورات النظام.
وفي سبتمبر١٩٨١ بدأت أوسع عملية اعتقالات منذ قيام النظام الجمهوري في مصر وامتلأت المعتقلات حينها بكافة الاتجاهات السياسية المعارضة للنظام، كما ضمت أعضاء من الجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين، ثم بعد حادث المنصة ضجت المعتقلات فرحًا بالتكبير ليبدو أنه صدامًا مع شخص الحاكم لا مع نظام حكمه، لتبدأ حملة أخرى من الاعتقالات شاملة كل شباب التيارات الإسلامية؛ لكن مفهوم الإسلامي للحاكمية يختلف عن مفهوم النظام؛ فتأويل النظام يعتمد على احتكار سلطة الحكم له هو بخلاف تأويل الخطاب الديني له؛ لكن كلاهما يكرسان لمعنى ديكتاتوري يوازي الخطاب السياسي الرسمي في علاقاته بالقوى السياسية الأخرى المحلية فتصبح العلاقة دائما في حالة تغير من أعلى وأسفل إلى أسفل وأعلى من سيد وعبد إلى عبد وسيد على حسب من في يده القوة.
وتبدأ جولة أخرى من الصراع، ليتجلّى لنا كيف لا يكون هذا التوتر الذي نشهده بين النظام السياسي ومؤسساته من ناحية أو بين التيار الإسلامي والنظام من ناحية أو بين التيارات الإسلامية وبعضها من ناحية، كيف لا يكون بهذا القدر صراعًا إيديولوجيًا حول الأفكار والمفاهيم والحقوق والمواطنة بقدر ما هو صراع بين القوى التى تتقارب فكريا حول السلطة والسيطرة والتحكم لتنشأ مفاهيم تقدم كحلول مسعفة تحقق وجود وفاعلية في وقت غابت فيه الدولة بل انشغلت بإسكات كل صوت مخالف ولجأت عبر التاريخ لسياسة تقديم البدائل لتحل رموز محل رموز وجماعة محل جماعة وسلطة محل سلطة تروج من خلالها لقضايا هامشية تدور أساسها في فلك وتوجيهات الأجهزة الأمنية.
الأزمة هنا أن الخطاب الديني يجعل من الحاكمية أساسًا ينسحب على مجالات التشريعات التي نحتاج في استنباطها للاجتهاد والتأويل، فيكون الاختلاف بحسب اختلاف المصالح وحسب اختلاف العوائد والعادات وهذا يؤول إلى العبودية لأحكام بعض البشر بالخضوع لاجتهاداتهم وهو التقليد الذي في سياق آخر قد نهى عنه الإسلام وحرمه بعض الفقهاء بل قاربه بالشرك.
يعني إذا نادى الخطاب الديني بالحاكمية للقضاء على الاستبداد والاستعباد فهو ينتهي على المستوى التطبيقي إلى تحكيم البشر ولكن بشر من نوع خاص بشر يزعمون لأنفسهم احتكار حق التعاطي والتحاور والتناول والشرح والتفسير والتأويل ثم الحكم. الأزمة هنا أن النضال ضد حاكمية البشر يمكن التفاعل معه وتبنيه بأساليب إنسانية مختلفة أما النضال ضد حاكمية الفقيه ورجل الدين هو وصم بالكفر والجنون والزندقة والإلحاد.
وبسبب هذا الخطاب التبريري الدائم للعجز والقهر والاستغلال السياسي والاجتماعي وتجاهل الأبعاد الاجتماعية للإنسان واستدعاء معنى المقارنة، مقارنة الإنسان الدائمة مع الإله دائمًا فلا يصمد أمام تلك السلطة وتلك القوة القاهرة فتضيع ثقته في قدرته وإمكاناته ويركن إلى التواكل والسلبية أو إلى الانزواء والخوف ويشعر أنه دائما على الحافة فيتحد مع الألم وينفصل عن الزمان ليصير ريشة في مهب الريح ويستقر في جب السلطة أيا كانت.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
2 comments