حول تشظي اللعبة .. بقلم: إسحاق إبراهيم محمد

المُتبصِّر بالوجود هو لاعب سيرك مأساوي؛ فهو يرحل بعيدًا عن العالم نحو متاهات أُخرى، إنه كائن له أشباحه ومقبرته.

إسحاق إبراهيم محمد

d8a5d8b3d8add8a7d982-d8a5d8a8d8b1d8a7d987d98ad985-d985d8add985d8af        حول تشظي اللعبة .. بقلم: إسحاق إبراهيم محمد

1- المرض الميتافيزيقي

إذا كانت الميتافيزيقا تَعرِض في تاريخها (سؤال الوجود)، فمن الممكن أن نُعرِّف الميتافيزيقا بأنها سؤال اللعبة أو علم اللعبة أو العلم الذي يبحث في أصول اللعبة؛ لعبة الوجود. والدافع للإنسان للبحث في أصول اللعبة هو المرض الميتافيزيقي؛ التَبصُّر بالوجود ينشأ عن مرض ميتافيزيقي بالأساس؛ فالمُتبصِّر لديه نظرة مَرَضية تجاه الوجود، وهي ما تدفعه نحو البصيرة والبحث عن خلاص. إنه إنسان يضيق بالعالم، فيحاول أن يَنسلِخ منه نحو ما وراء مقبرته؛ أن يتعلم موته من خلال مرضه؛ شرخ الإلقاء به في العالم.

إن المرض الميتافيزيقي ليس اختيارًا، إنه مثل حادثة اصطدام سيارة برجل كان يعبر الطريق؛ فالمرض الميتافيزيقي هو شيء كامن في الوجود، يطوف العالَم فيُصيب الإنسان فيحدُث تشوُّه في اللعبة. يحدُث هذا التَصدُّع للإنسان كمصير للوجود بدون إرادة منه؛ إنها “القدرية السوداء” كما هو الحال في مسرحية “نهاية اللعبة” لصمويل بيكيت. “نحن ضحايا اللعبة الكونية” كما يقول سيوران.

يقول فتحي المسكيني كما فعل بيكيت في افتراض الكينونة في العالم بوصفِها تُشبِه مُعتَقلًا”، لكن هناك خلاص من الاعتقال، لكن ذلك الخلاص ليس ثابتًا؛ فبين الميلاد والموت هو تأرجح الخلاص، ولا يعرف أي أحد على أي شيء سوف يموت. في ظل ذلك الصراع الميتافيزيقي

يقول بيجوفيتش “لقد أُطلِق سراحه دون اختيار له في العودة”، عندما يتحول تأويل الوجود إلى صراع ميتافيزيقي بين الإله/البعث والعدم، يتصور الإنسان أن الرجوع إلى العدم هو الخلاص الوحيد من سجن العالم ومن تَصدُّع المقبرة، فيتمنى الإنسان لو أنه كان بإمكانه الرجوع إلى العدم، حتى وإن كان يؤمن بالبعث ويعرف أن ذلك الخلاص مستحيل. “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ”، [ ق: 16].

إنها خطيئة الميلاد؛ يقول بيكيت “الخطيئة الأصلية والأبدية للإنسان ولكل شركائه في الشر، خطيئة مولده على الأرض”، إنه تكفير تراجيدي عن الخطأ الميتافيزيقي الذي بدأ بانقطاع الحبل السُّري؛ إذا كان انقطاع الحبل السري عند الميلاد يُشير إلى شيء، فهو جُرح الكينونة الذي لا يندمل حتى الموت، وأن وجود الإنسان على الأرض نفسه مُلطخٌ بالدماء، تكمن تلك المأساة في أن الإنسان لا يستخدم حبله السري بشكلٍ صحيح؛ لو أن الإنسان قد شنق نفسه بحبله السري عند مولده، لم تكن نبوءة العالَم لتَحدُث.

2- ضبابية اللعبة

نحن نحتاج إلى كتابة الو-جود مشطوبًا؛ في كتاب “في الروح- هايدجر والسؤال” يتحدث جاك دريدا بصدد مفهوم اللعب في العالم عند هايدجر، حيث يقول “ففي مناقشته “لسؤال الوجود”، وبعد خمسة وعشرين عامًا فيما بعد، عزَم هايدجر على كتابة كلمة “الوجود” تحت خط من المحو بصيغة الإلغاء”، “يكشف لنا هايدجر عن معنى غامض لمفهوم اللعب في العالم إشارة في هذا السبيل إلى محو “الوجود” وعن التمفصُلات المُتكونة والمُتصيرة لهذا العالم”.

هذا المحو لكتابة كلمة الوجود هكذا “الو-جود”، هو تعبير عن اختفاء الو-جود وغيابه وضبابيته، إنه انسلاخ من تصور الإنسان للوجود وبين تاريخ الو-جود بحد ذاته، وذلك ما فعله هايدجر بعد المُنعطَف؛ انعطاف من الدازاين (الإنسان وتصوره عن الوجود) إلى فكر تاريخ الو-جود، وهنا يتم التبصر بالو-جود بحد ذاته كشبح غائب ضبابي، وتكون الكتابة عن الو-جود هي “كتابة لها جذور وسُلالة وأشباح” مثلما يقول جاك دريدا؛ لأن الو-جود هو سر ميتافيزيقي يكتنفُه التَحجُّب والغموض، وذلك ما يدفع الإنسان نحو التيه؛ الذي هو صراعٌ باطنيّ يحدث في الإنصات إلى الو-جود والتحدث معه، إنه حديث مع الأشباح والموتى.

الإنسان يُبصِر الو-جود كشبح غائب من خلال انفتاحِه على الموت؛ أي انفتاحه على تصور ضريح العدم؛ ففي محاضرة “الشيء” يقول هايدجر “أن الموت هو الدولاب الذي يُصان فيه العدم، هو دولاب ما ليس أبدًا مجرد كائن وما هو مع ذلك يَحدُث، يحدث بصفته الوجود ذاته، فالموت كدولاب للعدم يحتضن الوجود ذاته في حدوثه؛ الموت كدولاب للعدم هو حضن الوجود”.

3- الانسلاخ من الحيوان

يقول كامو “الإنسان هو حيوان يرفض أن يكون كذلك”، طرح سؤال الوجود هو انسلاخ الإنسان من الحيوان الذي هو عليه، إنه يحفر مقبرته ليلمح شبح الإله الذي يعبُر فيما بين العالَم وما وراء القبور، وذلك هو العهد الذي يقطعه الإنسان مع الوجود؛ أن يضع باطنه في المقبرة ليُبصِر ما الذي يحدُث هناك. “وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا”، [ الإسراء: 34].

يقول أونامونو “الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يختزن موتاه”، فصون الموتى وطقوس الدفن والشعائر الجنائزية هي ذِكر الله والقيامة؛ فالذِكر هو انتظار القيامة. من أراد أن يعرف ما الذي يحدث في القبور فعليه أن يعرف أولًا ما الذي يحدث في الوجود؛ لأن سؤال الوجود يتمركَز حول سؤال المقبرة.

إذا كان المرض الميتافيزيقي يشوه اللعبة أو جزء من اللعبة، فربما يكون ذلك التشوه هو المَعبَر الوحيد نحو الخلاص؛ مثلما يقول سيوران ‏”للإنسان فُرَصٌ للخلاص عن طريق الجحيم أكثر مما لهُ منها عن طريق الفردَوس”.

المصادر:

1- صمويل بيكيت، نهاية اللعبة.

2- إميل سيوران، رسالة في التحلل.

3- فتحي المسكيني، ما معنى أن نفكر في اليأس؟

4- علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب.

5- جاك دريدا، في الروح- هايدجر والسؤال.

6- مارتن هايدجر، الشيء.

7- ألبير كامو، المتمرد.

8- زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان.

9- إميل سيوران، اعترافات ولعنات.

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات