سرير بروكرست: حِكَمٌ فلسفيّةٌ وعمليَّة.. الملاءمة القسرية.. ترجمة: أنطونيوس نبيل

أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

d8a7d986d8b7d988d986d98ad988d8b3-d986d8a8d98ad984-d8b4d8a7d8b9d8b1-d988d985d984d8add986 سرير بروكرست: حِكَمٌ فلسفيّةٌ وعمليَّة.. الملاءمة القسرية.. ترجمة: أنطونيوس نبيل

الحلقة الأولى: الملاءمة القسرية

كان بروكرست في الأساطير اليونانيَّة هو المالك الطاغية لضيعةٍ في كوريدالوس بأتيكا على الطريق بين أثينا وإليوسيس حيث كانت تُؤَدَّى الطقوسُ السِّريَّة. وكان بروكرست لديه تصوُّرٌ عجيبٌ عن الاحتفاء بالضيف: كان يخطف المسافرين ويوفِّرُ لهم وجبةَ عشاءٍ تنطقُ بسخائه، ثُمَّ يدعوهم إلى قضاء الليل في سريرٍ فريدٍ مِن نوعِهِ. وكان يرغب في أن يُلائِمَ سريرهُ المسافرَ بإحكامٍ. فأولئك الذين كانوا مديدي القامةِ بُترت أرجلهم بفأسٍ مَشْحُوذةٍ؛ وأولئك الذين كانوا قصيري القامةِ مُطُّوا (يُقال أن اسمه كان داماستِس، أو بوليفِمون، ولكنَّ لقبَهُ صارَ بروكرست ومعناه “الذي يَمُطُّ”).

ومن سخرية القدر أنه وقع في شرِّ أعماله ولَقِيَ حتفه بالطريقة ذاتها. كان أحدُ المسافرين هو الجَسُور ثيسيوس الذي ذَبَحَ المَيْنُوتُور فيما لَحَقَ مِن سيرتِه البُطُوليَّة. فبعد العشاء المعهود جعل ثيسيوسُ بروكرست يستلقي على سريره. ثم قطع رأسَهُ ليُلائِمَ السريرُ بروكرست بالإحكام المنشود. وهكذا اقتدى ثيسيوس بسَنَنِ هِرَقل في الجزاء من جنس العمل.

كان بروكرست في رواياتٍ أكثر شؤمًا (مثل تلك المذكورة في مكتبة أبولودورس الزائف) يمتلك سريرين، أحدهما رَحْبٌ والآخرُ ضيِّقٌ؛ ليجعلَ قِصَارَ ضحاياه يستلقَون على السَّريرِ الرَّحْبِ وطِوَال ضحاياه على السَّريرِ الضيِّق.

كُلُّ حِكْمَةٍ هنا تتقصَّى سريرًا بروكرستيًّا إلى حدٍّ ما؛ فنحن البشر في مواجهتنا لحدود المعرفة، والأشياء التي لا نلحظها مما لا تدركه الأبصار ولا تتبيَّنه العقول، نُلَّطِفُ من حدة توترنا بحَشْرِ الحياة والعالَم في أفكارٍ مُسَلَّعةٍ سافرة وفئاتٍ اختزالية ومفرداتٍ محدَّدة والسرديَّات المُعَلَّبة سلفًا، والتي قد تُفضي إلى عواقب انفجاريَّة في أحايينَ مُبَاغِتَةٍ. بالإضافة إلى ذلك يبدو أننا غافلون عن هذه الملاءمة العكسية، بالضبط كالخياطين الذين يغالون في الفخر بتسليم ملابسَ ملائمة على نحوٍ مثاليٍّ، أبدعوا في إحكامها عَبْرَ تعديل أطراف عملائهم جراحيًّا. على سبيل المثال، قليلٌ مِنَّا مَن يُدركُ أننا نُغَيِّرُ أدمغة أطفال المدارس دوائيًّا لنجعلهم ملائمين للمنهج الدراسيّ، عِوضًا عن القيام بالعكس.

بِمَا أن الحِكَمَ يُفْقِدُها التفسيرُ سِحْرَها؛ فإنني أكتفي هنا بالتلميح إلى الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب وأحيلُ المزيدَ مِن المناقشات إلى تذييل الكتاب. هذه أفكارٌ قائمةٌ بذاتها ومضغوطةٌ تدور في فلكِ تصوُّري المحوريّ حول كيفيَّة التعامل مع ما نجهله والسُّبُل الواجب علينا أن نَتَّخِذَها في تعاملنا هذا، وهي مسائل نُوْقِشَتْ بمزيدٍ من العُمْقِ في كتابَيّ “البجعة السوداء” و”مخدوعٌ بالعشوائية”.

– لا يخشى المرءُ أن يُعارَضَ أحدًا قَدْرَ نفسِهِ.

– تصبحُ الفكرةُ مبشِّرةً بالإثارة، حينما يُفْزِعُكَ الوصولُ بها إلى نهايتِها المنطقيَّة.

– تَبْرَعُ شركاتُ الأدوية في ابتكار أمراضٍ تُلائِمُ الأدويةَ الموجودة، عِوضًا عن ابتكار أدوية تلائمُ الأمراضَ الموجودة.

– تَأَمَّلْ كيفَ أن خسارتَك لثروتِك كلها أقلُّ إيلامًا بكثير مِن خسارتِك لنِصْفِها؛ كي تفهمَ التأثير التحرُّري للزهد.

– كي تُفْلِسَ أحمقًا؛ زَوِّدْهُ بالمعلومات.

– إن النشاطَ الأكاديميّ مقارنةً بالمعرفة، كما الدَّعارة مقارنةً بالحبِّ، يبدوان متشابهين ظاهريًّا، ولكنهما متباينان حتمًا في نظر العاقل.

– في العِلْمِ تحتاجُ إلى أن تفهمَ العالَمَ، بينما في مجالِ الأعمالِ تحتاجُ إلى أن يُسِيءَ الآخرون فَهْمَهُ.

– أظنُّ أنهم أعدموا سقراط؛ لأنهم وجدوا أنَّ التفكيرَ المُفرِطَ في وضوحِهِ، شيءٌ كريهٌ ومُنَفِّرٌ ولا إنسانيٌّ.

– الحكيمُ يجعله التعليمُ أكثرَ حكمةً بقليل، ولكنه يجعلُ الأحمقَ أكثرَ خطورةً بكثير.

– إن اختبار أصالة فكرة ما، ليس في غياب سابقةٍ لها، وإنما في حضورِ سوابق لها عديدة ولكن متنافرة.

– إنَّ العقوبةَ المزدوجة للحداثة تكمنُ في أنَّها تجعلُنا نشيخُ مبكرًا ونُعَمِّرُ طويلًا.

– إنَّ واسعَ المعرفةِ يُظْهِرُ أقلَّ مما يَعْرِفُ، بينما الصحفي والاستشاري على النقيض.

– يكون عقلك في ذروة ذكائه عندما لا تُملي عليه ما يجب فعله.
هذا ما يكتشفه أحيانا بعض الأشخاص أثناء الاستحمام.

– إن قَلَّ غضبُك فقد قارفتَ ظُلْمًا وإن زادَ فقد قاسيتَ ظُلْمًا.

– هل يلاحظُ الذين يُدافعون عن الكَرَمِ مِن أَجْلِ ثوابِهِ، ما في الأمرِ من تناقُضٍ، أم أَنَّ ما يدعونه كَرَمًا، ما هو إلَّا استراتيجية استثمارية جذَّابة.

– مَنْ يظنُّونَ أن الدِّينَ يدورُ حولَ “الإيمانِ” هم أناسٌ يجهلون الدِّينَ والإيمان على حَدٍّ سَوَاء.

– يُدَمِّرُ العملُ عقلَك خُلْسَةً بأن يَحْتَلَّهُ خارجَ ساعاتِ العملِ الرَّسْمِيَّة؛ فَكُنْ حريصًا في اصطفاءِ مهنتِك.

– إنَّنا في الطبيعة لا نُكرِّرُ الحركةَ ذاتها أبدًا، ولكن في الأَسْرِ (في العمل وصالة التمارين والتنقلات اليوميَّة والرياضات) تغدو الحياةُ مَرَضًا مُزمنًا من الإجهاد المتكرِّر، بلا أدنى مسحة من العشوائية.

– إنَّ اتِّخاذَك مِن عجزِ الآخرين عن الفَهْمِ السليم عُذرًا لك، هو في حدِّ ذاتِه عجزٌ عن الفهم السليم.

– إنَّ الانصياعَ لقيودِ المنطق الأرسطيّ الضيِّق وتجنُّبَ التناقضاتِ الحتميَّة، ليسا بالصِنْوَيْنِ.

– ليس بمقدورِ الاقتصاد أن يُدركَ أن الجماعيّ (والتراكميّ) أقلُّ قابليةً للتنبؤ مِن الفرديّ.

– لا تتحدَّثْ عن التَّقدمِ بمصطلحاتِ طولِ العُمْرِ والأمانِ والراحةِ قبل أن تُقارنَ بين الحيوانات المأسورة لغرض العَرْضِ وتلك الطليقة في البريَّة.

– إنْ كنتَ تعلمُ صباحًا مسارَ يومِك بأيّ قَدْرِ مِنَ الدِّقَّةِ فإنَّك ميتٌ بعضَ الشَّيءِ، وكلما زادَ قَدْرُ دِقَّتِك زَادَ موتُك.

– ليس هناك حالةٌ وسيطةٌ بين الماءِ والثَّلْجِ، ولكن هناك حالةٌ وسيطةٌ بين الحياةِ والموتِ، هي الوظيفةُ.

– إنْ كانَ أكثرُ ما تخشاه، له وجهُ مغامرةٍ مثيرةٍ؛ فحياتُك قد كَفَّنَتْهَا المعاييرُ.

– الإرجاءُ هو تمرُّدُ الرُّوحِ على الحبائلِ التي تتصيِّدها.

– لا أحدَ يَوَدُّ أن يكون شفافًا بصورةٍ تامَّة: ليس أمامَ الآخرين، وبالطبع ليس أمام نفسِهِ.

– إن إقناعَ الكاذب بأنَّك تُصَدِّقُهُ فيما يقول، لهو أفضلُ انتقامٍ منه.

– عندما نُريدُ القيامَ بأمرٍ ما، ونحن على يقينٍ بفشلنا في تحقيقه بلا وعيٍ مِنَّا، فإننا نلتمسُ النصيحةَ مِن الآخرين؛ كي يكون في وسعنا تحميلهم مسئولية فشلنا.

– إنَّ قَوْلَ “لا” وأنت تقصدُها حقًّا، أصعبُ مِن قَوْلِها وأنت لا تقصدُها.

– لا تقل “لا” مرتين إن كنتَ صادقًا فيها.

– لا يضرُّ بسُمعتِك شيءٌ قَدْرَ حديثك للمُنافَحَةِ عنها.

– التعريف الموضوعي الوحيد للشيخوخة هو بَدْؤُكَ في الحديثِ عنها.

– سيحسدونك على نجاحك وثروتك وذكائك ومظهرك ومكانتك، ولكنهم لن يحسدوك على حكمتك إلَّا فيما ندر.

– جُلُّ ما ندعوه تواضعًا هو كبرياءٌ مُسْتَتِرة.

– إن أردتَ أن يقرأَ الناسُ كتابًا، فأخبرهم بأنه مُغالًى في تقييمه.

– لن تُحرزَ النصرَ في محاورةٍ، حتَّى يبادروا بالطعن في شخصك.

– الترتيبات والمثالب والمهادنات والعلاقات “المؤقتة” لا شيء أكثر دوامًا منها، ولا شيء أكثر تأقيتًا من “الدائم” منها.

– ليست الأوقاتُ التي تنفقها في مخالطة أشخاص مُضْجِرِين هي الأشدّ إيلامًا، بل الأوقات التي تنفقها في مخالطة أشخاص مُضْجِرِين يَسْعَون جاهدينَ حتَّى يكونوا مُمْتِعِين.

– ما البغض إلا محبة، يكمن في نَصّ برمجتها خطأٌ ما، يَسْهُلُ تصحيحُه ويكاد العثور عليه أن يكون مستحيلًا.

– أتساءلُ عمَّا إذا كان عدوي اللدود سيُصابُ بالغيرةِ، إن اكتشفَ أنني أزدري شخصًا آخر.

– السِّمة المميزة للخاسر هي أنُّه بصورةٍ عامَّة يشجبُ بالنواحِ عيوبَ البشريَّة وتحيزاتِها وتناقضاتِها وحماقاتِها، دون أن يستغلها من أجل متعتِهِ ورِبْحِهِ.

– لتَخْتَبِر إذا ما كنتَ مُعْجَبًا حقًّا بكتابٍ ما؛ فانْظُرْ هل أعدتَ قراءتَه (وكم مِن المرات فعلت)، ولتختبر إذا ما كنتَ مُعْجَبًا بصحبةِ شخصٍ ما؛ فانظر هل أنت مستعدٌّ لملاقاته مرارًا وتكرارًا- وكلُّ شيءٍ سوى هذا، فهو إمَّا محضُ رَوغان وإمَّا ذلك النوع من العاطفة الذي يُسمَّى الآن “تقديرَ الذات”.

– إنَّنا نسألُ “لِمَ هو غنيٌّ (أو فقيرٌ)؟” ولا نسألُ “لِمَ هو ليس أغنى (أو أفقر)؟”؛ كما نسألُ “لِمَ الأزمة عميقة جدَّا؟” ولا نسألُ “لِمَ هي ليست أعمق؟”

– التَّظاهُرُ بالكراهيةِ أكثرَ صعوبةً بكثير مِن التَّظَاهُرِ بالحُبِّ؛ فإنِّك تسمعُ عن حُبٍّ زائف ولا تسمعُ مُطلقًا عن كراهيةٍ زائفة.

– نقيضُ الشَّجَاعَةِ ليس الجُبْن، بَلْ التكنولوجيا.

– مَنْ ندعوه “مُسْتَمِعًا جيدًا” هو غالبًا شخصٌ يتَّسِمُ بلا مبالاةٍ مصقولةٍ بإتقان.

– ليس ما يجعلُ البَّشَرَ لافتين للنَّظَرِ، هو غيابُ مظهرِ التَّنَاقُضِ بَلْ وجودُه.

– إنَّك تتذكَّر رسائلَ البريد الإلكترونيّ التي أرسلتها ولم يأتِكَ رَدٌّ عليها، بقدرٍ يفوقُ تلك التي أُرسلت إليك ولم تَرُدَّ عليها.

– يحتفظُ النَّاسُ بالمجاملاتِ المعتادةِ لمَن لا يُهدِّدون كبرياءهم، ويُثْنُونَ على مَن يهدِّدونَ كبرياءهم بأن يطلقوا عليه اسم “متعجرفين”.

– هناك نوعٌ مُحَدَّدٌ من الرُّشدِ بَرَزَ إلى الوجودِ منذ عهد كاتو الأكبر، يجعلُ المرءُ يُوبِّخ الجيلَ الجديدَ على “سطحيتِهِ” ويُمَجِّد الجيلَ السالفَ مِن أجلِ “قِيَمِهِ”.

– أمرٌ عسيرٌ أَنْ تَتَجنَّبَ إزعاجَ الآخرين بنصائحِك عن كيفيةِ القيام بالتَّمارين الرياضيَّة وما يُرافقها مِن مسائلَ صحيَّةٍ أخرى، ولايقلُّ عنه عُسْرًا أَنْ تلتزمَ بجدول التمارين.

– عندما تَمْدَحُ شخصًا لافتقارِهِ إلى العيوب، فإنَّك تُلْمِحُ ضِمْنًا إلى افتقارِهِ إلى الفضائل.

– حالما تجدها تَصِيحُ في وجهك “ما فعلته لا سبيلَ إلى مغفرتِه”، فاعْلَمْ أنها قد بدأتْ بالفعل في الصَّفْحِ عنك.

– ما لم تكن سريعَ المللِ، فلا مشكلة في أن تكون عقيمَ الخيال.

– الأفراد الذين يسلكون كأنهم محورُ الكون ندعوهم نرجسيين، أما مَن يسلكون تمامًا مثلهم لكن في مجموعات من اثنين ندعوهم عاشقين أو بتعبير أفضل “مباركين بالعشق”.

– الصداقةُ التي تنتهي لم تكن صداقةً، بَلْ كان أحدُ طرفيها -على الأقلِّ- أَبْلَهَ.

– إن أغلبَ الناس يَخشَونَ غيابَ المحفزات السمعيَّة والبصريَّة؛ لأنهم عندما يتفكَّرون ويتخيَّلون الأشياء بأنفسهم، يسقطونَ في أَسْرِ التكرار.

– الكُرْهُ غيرَ المُتَبَادَلِ، أكثرُ قُدرةً على إنضابِ ذاتك، مِن الحُبِّ غيرِ المتبادل؛ لأنَّك فيه عاجزٌ عن المعاملة بالمثل.

– أَيْسَرُ للرُّحماءِ أَنْ يُبَدِّلوا حزنًا مكانَ حزنٍ، مِن أَنْ يُبَدِّلوا فرحًا مكانَ حزن.

– الرَّزَانَةُ في الشَّبَابِ مَقِيتَةٌ كالطَّيشِ في الشَّيخوخةِ.

– لا يصبحُ بعضُ الناسِ ظُرفاءَ إلَّا عندما يَتَكَلَّفُونَ الوَقَارَ.

– عسيرةٌ هي مقاومةُ الرَّغبةِ المُلِحَّةِ في إفشاءِ الأسرارِ أثناءَ المُحادثاتِ؛ كأنَّ المعلوماتِ لديها الرَّغبةُ في الحياةِ والقُدرة على التناسل.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

اترك رد

ندوات