علم السيمائيات وإشكاليات الفهم والتعريب .. بقلم: د. شريف عكاشة

بقلم: د. شريف عكاشة

d8b4d8b1d98ad981-d8b9d983d8a7d8b4d8a9 علم السيمائيات وإشكاليات الفهم والتعريب .. بقلم: د. شريف عكاشة

سيماهم في وجوههم

إذا صحت فرضيتنا، التي سينصب عليها جهد الإثبات فيما سترى من منشورات، بأن الحداثة الغربية وما بعدها هما نتاج جدل الفكر واشتباكه مع الواقع وأن علم السيمائيات لعب دورا كبيرا في هذا الجدل وذاك الاشتباك فلابد إذاً أن نقف على الجلية من أمر المفاهيم الأساسية والتأسيسية لهذا العلم الخطير.

وبادئ ذي بدء أقول إن أهل اللسان العربي المعاصرين يخلطون خلطا معيبا بين أهم مصطلحين تأسيسيين في علم السيمائيات سواء على مستوى الفهم أو على مستوى النقل والتعريب. وسأتناول أولا إشكالية الفهم ثم أدلف إلى مناقشة إشكالية التعريب المتفرعة عنها بطبيعة الحال.

هذان المصطلحان هما semiology و semiotics، فتجد منهم من يستعملهما بمعنى واحد، وما هما بذلك، ومنهم من يفرق بينهما تفريقا جزافيا مرسلا كأن يقول مثلا إن أحدهما يستخدم في الدرس الأدبي ويقصد به semiotics، وهذا صحيح من الناحية النظرية، أي من ناحية ما يجب أن يكون، إلا أنه غير مطرد من حيث ما هو قائم فعلا لأن نقاد الأدب يستخدمون السيمولوجيا أيضا من حيث يريدون “السيموطيقا” !.

d981d8b1d8afd98ad986d8a7d986-d8afd988-d8b3d988d8b3d98ad8b1 علم السيمائيات وإشكاليات الفهم والتعريب .. بقلم: د. شريف عكاشة
فردينان دو سوسير

فالسيمولوجيا (وهذا مكافئ مؤقت سأغيره حالا حينما أناقش مسألة التعريب) semiology لا يعرف إن كانت تكافئ عندهم أي المصطلحين في غياب التفرقة الدقيقة، وهي في حقيقة الأمر تشير إلى المدرسة الأوروبية التي بدأها سوسير بنموذجه الثنائي المعني بالعلامة اللغوية العرفية حيث تتكون العلامة (السيما) من واسمة وموسوم أو دال ومدلول ولا مُشاحّة في المصطلح في هذا المقام، وذلك لأن الترادف جائز بين المصطلحات العلمية شريطة أن يكون مبنيا على فهم للأصل المنقول عنه وألا يحدث بلبلة مفهومية في لغة الهدف.
ونموذج سوسير اعتبر اللغة بنية واستعار منه فيما بعد ليفي شتراوس مفهوم البنية على سبيل المجاز لينقله من حقل اللغة إلى حقل الثقافة الأوسع، فأسس بذلك البنيوية التي سأتناولها بالتفصيل في موضعها من السلسلة.

d8aad8b4d8a7d8b1d984d8b2-d8b3d8a7d986d8afd8b1d8b2-d8a8d98ad8b1d8b3 علم السيمائيات وإشكاليات الفهم والتعريب .. بقلم: د. شريف عكاشة

أما السيمائيات فهي اسم يطلق على المدرسة التي أسسها الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للسيمائيات بمفهومها الممتد إلى الآن. وهو الذي أطلق على العلم semiotics وقد نقله نقلة نوعية من التركيز على العلامة اللغوية إلى العلامة الطبيعية أي نقل المجال من حقل اللغة إلى مضمار الطبيعة الأرحب من خلال نموذجه الثلاثي الذي سأتناوله بالتفصيل عند الحديث عن بيرس.

وكان لبيرس الفضل في ظهور ما عرف لاحقا بما بعد البنيوية التي ثارت على بنيوية سوسير في اللغة وشتراوس في الثقافة وتزعمها رائد المدرسة وهو جاك دريدا وتأثر بها مفكرو اليسار الفرنسي وعلى رأسهم فوكو ثم انتقل هذا التأثير إلى اليسار الأمريكي (الذي يمثله الحزب الديمقراطي) ليتحول في نهاية المطاف إلى زخم سياسي واقعي حاضر بقوة في المؤسسات الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة على ما سيرد تفصيله في جديد المنشورات حيث يركز هذا المنشور على التأصيل اللغوي والمفهومي للمصطلحات التأسيسية.

وقبل أن أنتقل إلى مسألة التعريب والمكافأة أود أن ألقي نظرة على المصطلحين في اللغات الأوروبية. فقد جاء في موسوعة السيمائيات تحت مدخل “المصطلحات السيمائية” أن أصل المصطلح يعود إلى اليونانية القديمة حيث المقطع الأساسي sema يعني العلامة وتقول الموسوعة إن أصله يعود إلى اللغة السنسكريتية وتحديدا إلى جذر هندو أوروبي افتراضي قديم هو dhya يشير إلى النشاط الذهني ثم تحولت dhy مع الوقت إلى S حيث يشيع في التطور الصوتي للغات أن يتحول صوت احتكاكي مثل dh إلى S إذا أدمج مع Y، ثم أضيف إلى هذا الجذر المقطع ma الذي يشير في السنسكريتية إلى أي ما يمكن أن يدل على هذا النشاط من سبب أو نتيجة.

وأتعجب بشدة أن تلف الموسوعة هذا اللف البعيد الذي لا يخلو من عملية ترقيع اشتقاقي لا نفهم منها إن كان أصل المصطلح يونانيا أم هنديا أم توليفة هندو أوروبية غامضة المصدر بينما تغفل ذكر اللغة العربية التي ورد فيها المقطع كاملا لفظا ودلالة دون حاجة إلى كل هذا الترقيع وبوضوح شديد في النص القرآني الذي ظهر قبل اتصال العرب بالحضارة اليونانية بقرون.
ففي “سيماهم في وجوههم من أثر السجود” و”يعرف المجرمون بسيماهم” نجد أن السيما، وهي العلامة البادية، تشي عما في نفوس القوم من نوازع الخير والشر. وهذا بالضبط هو دلالة العلامة على “النشاط العقلي” سببا أو نتيجة كما قالت الموسوعة.

وتقول الموسوعة أيضا إن هذا العلم نما وتطور في كنف علم الطب القديم في عهد أبقراط حيث ترد في كتاباته إشارة إلى الأعراض الدالة على الأمراض. وقد أثبت ابن سينا ذلك في القانون في الطب وضمن كتابه فصلا بعنوان: في تدارك أعراض تنذر بأمراض. ويبدو متأثرا في ذلك بأبقراط، أبي الطب، وورد ذكر اسمه في الكتاب 9 مرات.

أما عن التعريب أو الترجمة إلى العربية فأرى أن تتخذ كلمة “سيما” القرآنية مرتكزا أو مورفيما حرا (وحدة صرفية قائمة بذاتها) تضاف إليها لواحق أعجمية أو عربية. فيمكن أن نقول للـ semiology سيمالوجيا أما semiotics فلي مع تعريبها وقفات.

أولا لم يعد بالإمكان الآن أن نساير من عربوها سيميائيات، فقد أصابوا في شق وأخطأوا في شق آخر.
أصابوا في اعتمادهم اللاحقة الصرفية (المورفيم المقيد) “يات” المتواتر في سك المصطلحات الدالة على أسماء العلوم منذ عهود الفلسفة الإسلامية الأولى كما في طبيعيات وإلهيات ورياضيات وبصريات. وهو تدبير صرفي-دلالي يرجع إلى جمع الصفة المنسوبة فيكون المعنى “مسائل إلهية وطبيعية ورياضية ..إلخ”.
وأخطأوا في حشر ياء زائدة بين الميم والألف في المقطع الأول لأنهم أخذوه تعريبا دون تحقيق من اللغات الأوروبية مع أنهم لو فكروا هنيهة لوجدوا أن الأصل الاشتقاقي موجود بالعربية سلفا دون حاجة إلى شركاء متشاكسين! فحذف الياء الزائدة واجب.

ولكن تبقى مشكلة صرفية لابد أن تحل وهي أن سيما القرآنية أصلها سيماء وقد خففت الهمزة. فإذا اعتمدنا سيما المخففة كأساس للسك ففي هذه الحالة هي اسم مقصور رباعي ثاني حروفه متحرك وفي هذه الحالة تحذف الألف المقصورة ويستعاض عنها بياء، حسب القاعدة الصرفية، فنقول سيميّ، ومن ثم يكون التخريج النهائي للمصطلح سيميات.
وإذا استرجعنا الهمزة المخففة فيكون الأصل سيماء أي اسم ممدود وليس اسما مقصورا. والاسم الممدود هو الاسم الذي ينتهي بألف وهمزة؛ وفي هذه الحالة تقول القاعدة الصرفية إن همزة الرباعي الممدود إذا كانت أصلية لا تتغير وهي هنا أصلية غير منقلبة عن ياء أو واو لأننا لا نعرف جذرا اشتقاقيا متحققا، لا افتراضيا، لسيماء أو سيما وربما كانت كلمة أعجمية جاءت إلى العربية من اليونانية عبر الفارسية من خلال فترات الاحتكاك الحضاري، العسكري والسياسي، بين الفرس والإغريق حيث نجد الفارسية: “سیمای” (simāy)، تشير إلى المظهر أو الهيئة وربما انتقلت بعد ذلك إلى التركية لتصبح “sim” التي تشير إلى الشكل أو الصورة. وفي هذه الحالة نعتبرها من باب الاقتراض اللغوي الذي عرفته كل اللغات وليس كلمة أعجمية معربة. وهذا فرق دقيق للغاية.

ورغم الارتباط الدلالي الواضح بين سيما القرآنية والفعل العربي الأصيل وسم (سنسمه على الخرطوم) إلا أن الأمانة العلمية تقضينا القول بعدم وجود ارتباط صرفي بين الجذر الفعلي المتحقق وسم والاسم سيما وفق قواعد الميزان الصرفي التي أقرها علماء الصرف وإنما هو فقط تشابه في الأحرف.
فعلى اعتبار أن الهمزة أصلية في سيماء جاز أن نقول سيمائي ومن ثم سيمائيات. ولكن تواجهنا معضلة أخرى وهي أن الهمزة الأصلية في هذا الاسم الممدود للتأنيث وفي هذه الحالة تقلب الهمزة واوا مثل صحراء-صحراوي. فيكون التخريج النهائي الصحيح لغويا هو سيماويات وليس سيمائيات. وهذا نجده أيضا في أسماء مثل كيمياء كيماويات.

وخلاصة القول إذا خففت همزة سيماء سيكون المصطلح سيميات وقد رفضته لا لشيء إلا لغرابته وربما سيكون حظه من التداول محدودا أو منعدما نظرا لعدم تشابهه مع سيميائيات التي اعتاد عليها الناس حتى وإن كانت خطأً. والحل الوسط هو إثبات الهمزة فنكون مخيرين بين سيماويات، وهي الأدق وسيمائيات، وهي الأقرب للشائع.
وقراري النهائي أن نختار الأقرب للشيوع استنادا إلى رخصة اعتبار التأنيث في سيماء مجازيا وليس حقيقيا لاسيما مع احتمال أن تكون الكلمة أعجمية دخلت إلى العربية عن طريق الاقتراض الطبيعي.

محاضرة قدمها أ. شريف عكاشة في صالون تفكير

أما سيمولوجيا وسيموطيقا وسيميائيات “بالياء الزائدة” فهذه تعاريب من درج الكلام ولا أصل لها ولا تغني عن دلالة أو اشتقاق سليمين ولا تنتج معنى يفهم حتى من سياق الكلام.
والله أعلم.

لقراءة المقال السابق في سلسلة نقد الحداثة وما بعدها… من منظور سيمائي، اضغط على الرابط التالي:
نقد الحداثة وما بعدها… من منظور سيمائي …. بقلم د. شريف عكاشة.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

2 comments

اترك رد

ندوات