قربان …. منى حسنين.. قصة قصيرة
بقلم: منى حسنين

شرد ذهني قليلا بينما أقرأ رواية “القربان”
للشاعر الهندي طاغور داخل غرفة مكتبي المطلة على نهر النيل و أنا اتمعن منظر الغروب.
بضع لحظات من الشرود استعدت فيها ذكرى بضع سنين والتى كانت قرباني الذي قدمته للمرة الأولى.
..
لم يكن قربانا ذا رائحة شواء ليعجب آلهة الأوليمب، و لا دماء تُسفك تحت قدمي إله كآلهة الهند التي ذكرها طاغور فى روايته.
لفت انتباهي نظراته إلى أمى. كنت صغيرة ولكن حدسي أنبأني أن نظراته لم تخلو من إعجاب ذكر بأنثى. جعلتني نظراته تلك أن أشعر بالغيرة من اقرب إنسانة لدى.
لم يكن قرباني سوى دمع يضاهي في ملوحته ملوحة البحر الميت.
دموع نقية لم يخالطها ذنب ولم تدنسها خديعة. بل براءة قلب قرر أن يجرب الحب.
لن أنسى ذلك اليوم ما حييت، اليوم الذي استيقظت فيه على جلبة واضحة في الشارع حيث كانت سيارة نقل كبيرة تقف أمام بوابة عمارتنا العتيقة وبدأ الحمالون في نقل أثاث بسيط منها إلى شقة الدور الخامس. سمعت أم سعيد خادمتنا وهى تخبر أمي بما سمعته من البواب أن صاحب العمارة قرر تأجير تلك الشقة لبعض طلبة الطب والصيدلة المغتربين. لن أنسى رد أمي وقتها وقد بدت كأنها تحدث نفسها. طلبة كليات قمة أكيد منضبطين ولن يحدثوا أية مشاكل فى العمارة..
كنت ما زلت ابنة السادسة عشر ولم يخفق قلبي بمشاعر الحب من قبل. استمع لقصص صديقاتي ومغامراتهن البريئة وقتها وأتشوق لأكتب قصتي الخاصة مثلهن ومثل بطلات الروايات التي كنت أقرأها حينها حتى رأيته.
أرقبه يوميا وهو عائد من الجامعة. يبدو هادئا فى نظارته الطبية وملابسه الأنيقة. رسمت له في مخيلتي خلف ذاك المظهر الوقور صورة لشخصية متزنة قوية.
حرصت على ألا يلحظني أو يلحظ نظراتي المتلصصة وأنا أقف في شرفة غرفتي المطلة على الشارع الرئيسي. فكبريائى كان يأبى علىّ أن أعلن عن إعجابي به وأنا ابنة دكتور الجامعة المبجل سيدة المجتمع الأنيقة الرائعة الجمال التي ربما لم أرث منها جمالها الأخاذ ولكني بالتأكيد ورثت منها كبريائها وعزة نفسها.
ظللت أرقبه على مدى شهرين متتاليين. أراه يوميا لبضع ثوان وهو يعبر الشارع ليلج إلى مدخل العمارة. تقابلنا صدفة عدة مرات على سلم العمارة فى الصباح الباكر وأنا ذاهبة إلى مدرستى. تلاقت نظراتنا خلالها مرات قليلة تبادلنا خلالها الابتسام. ابتساماتي كانت مرتبكة كخطواتي والتى اعتقدت أنها فضحت ما يجول بداخلي من مشاعر بكر. مشاعر تفتحت ولأول مرة تسطع عليها الشمس.
فوجئت به وهو يطرق باب شقتنا لتفتح له أم سعيد فيطلب مقابلة أبي.

أدخلته أم سعيد الصالون وفي طريقها لمكتب أبي لتخبره عن الضيف المنتظر أومأت لي ايماءة خفية بابتسامة غامضة و غمزة ماكرة لم أفهم مغزاها حينها.
توجه أبي إلى غرفة الصالون لاستقباله وجلسا يتحدثان لنصف ساعة كاملة وأنا الفضول يكاد يفتك بي لأعرف سبب زيارته !!
ربما سرقت أم سعيد من شقتهم شيئا وهى تنظفها ؟!!
كلا فهى رغم ثرثرتها إلا أنها أمينة. ربما يحتاج مشورة أبي فى احدى المشاكل المتعلقة بالعمارة او صاحب العقار !! ربما.
بعد خروجه قام أبي باستدعاء أمي وطال حديثهم العصيّ عن الاستراق
دخلت أمى علىّ الغرفة بعد أن أنهت حديثها مع أبي. جلست بجواري وهى تنظر إلىّ نظرة متفحصة كأنها تحاول قراءة أفكاري وهى تقول:
- جالك عريس النهاردة يا منة. دكتور حازم
أطرقت برأسي و أنا أتحاشى النظر فى عينيها قائلة
- دكتور حازم مين يا ماما ؟
تطلعت أمي إلى عينى أكثر كأنها تحاول سبر أغوار عقلي
- دكتور حازم اللي ساكن في شقة الطلبة اللي فى ثالثة صيدلة
- آه
- ايه رأيك ؟ باباكي بيقول انه من عيلة كويسة. باباه وكيل وزارة الصحة فى دمنهور . بس أهله مش هيتقدموا رسمي غير بعد ما يتخرج و هو بيقول انه محبش يخون الجيرة و قال يدخل البيت من بابه
- اللي تشوفوه يا ماما و اعتقد ان دي فترة كويسة نتعرف عليه كويس قبل الارتباط
تنهدت أمي فى حيرة و هى تقول:
- ربنا يقدم اللي فيه الخير
خرجت أمى من غرفتي لتدخل بعدها أم سعيد متسللة لسبب لا أعلمه فتهمس لى من على الباب : متنسينيش فى الحلاوة ، انا اللي شجعته و فتَّحت عينيه
ثم خرجت مسرعة كأنها تخشى من أن أعاتبها على فعلتها تلك
أدركت أنها بعين الخبيرة في أمور الغرام كانت ترقبني وترقب اندفاعي للشرفة كل يوم في موعد عودته وترصد نظراتي المستترة اليه وهى التي تعمل عندنا منذ عام ونصف ، فقرَرَت أن تتطوع لتلفت انتباهه ، و لكن لا أستطيع أن أُجزم هل وصل بها خيالها المحدود إلى أن الخطوة التي سيقدم عليها حازم هى طلب يدي !!
لم يكد يمر أسبوع حتى وجدته يطرق الباب وعندما فتحت له و وجدته أمامي يتطلع إلى وجهي بنظرات جريئة أطرقت برأسي خجلة حتى خرج أبي من غرفته.
عندما أدرك أبي خجلي وسعادتى الواضحة فهم أنى أرحب بهذا الإرتباط.
توالت زياراته القليلة امتثالاً لأوامر أبي وخروجاتنا الأقل تحت إشراف أمي وأحيانا أم سعيد. لم يهدر فرصة واحدة إلا وانتهزها ببعض الهمسات أو اللمسات التى لم تكن تخلو من التطاول من ناحيته ولكني كنت ألتزم حدودي وألزمه بها. أوقات كثيرة كانت تفوح منه رائحة غريبة كنت أعتقد أنها رائحة مواد كيميائية بما أنه يدرس صيدلة وأحيانا أكثر كان يتحدث بأسلوب لا يتفق مع مظهره الهادئ وبدا لى كأنه يمتلك شخصيتين.

تذكرت حديث دار بيننا جعلني لاحقا أفهم شخصيته المركبة ففي إحدى المرات سألني عن الكلية التى أرغب فى الإنضمام لها. أجبته أن ميولي أدبية فربما التحق بكلية الآداب أو إعلام قسم صحافة .
رد علىّ بشرود وهو ينظر بعيدا.
- أنا كمان كان نفسي أدرس فلسفة لكن والدى وجدى أصروا إني أدرس صيدلة و جهزولي الصيدلية اللى هفتحها بعد ما أتخرج كمان.
تعرفي إنى كنت بروح المكتبة العامة عندنا وأسرق كتب الفلسفة وكنت أقعد مع أصحابي أكلمهم عن سارتر وعن فلسفته الوجودية وهم طبعا مش فاهمين حاجة.
- تسرق !! مش شايف انها حاجة غريبة شوية !! يعني انت لو حابب تشتريها أكيد كنت هتقدر مادياً أو حتى تستعيرها من المكتبة لو مش هتقدر تشتريها.
- المتعة مش فى الكتاب. المتعة إنك تعملى حاجة محدش يتوقعها منك. إنك توصلي لأقصى حدود الخطر فى حد ذاته بيعطي معنى للحياة وللشئ اللى امتلكتيه بعد المخاطرة طعم تاني.
لم أستسغ تلك الفكرة وبدت كلماته كناقوس خطر يُصدر صوتا خفيتاً فى عقلي
لفت انتباهي نظراته إلى أمى. كنت صغيرة ولكن حدسي أنبأني أن نظراته لم تخلو من إعجاب ذكر بأنثى. جعلتني نظراته تلك أن أشعر بالغيرة من اقرب إنسانة لدى.
الكثير من التصرفات التي لم أكن أعيها وقتها بحكم قلة خبراتي فى الحياة ولكن عندما أستعيدها الآن أفهم مغزاها كما فهمت الآن بعد دراساتي واطلاعي على بعض فروع علم النفس أنه كان يعانى من بعض سمات اضطراب الشخصية الحدية كما أكدت لي ما آلت اليه قصتنا.
فبعد أن انهى حازم اختبارته عاد لبلدته دون حتى أن يودعني. أيام وأسابيع انقضت دون أن يهاتفني. اتصلت على الرقم الذي أعطانى إياه فكان رقما خاطئاً. ظننت أنى قد أخطأت فى كتابته عندما أملاه علىً فاتصلت بالدليل واستطعت الحصول على الرقم المسجل باسم والده وقد كان رقم مغاير تماما للرقم الذي اعطانيه.
اتصلت به وسمعت صوته وعندما تحدثت أُصيب هاتفه بالخرس ثم أغلق الخط. بكيت وبكيت . ما الخطأ الذى ارتكبته ليغضب منى هكذا !!!
جلست استعيد حديثنا الأخير. لم يكن به شيئا يثير غضبه.
دخلت علىّ أمى وأنا أبكى فقصصت عليها ما حدث. أخذت أمى الرقم واتصلت عليه فرد عليها صوت أنثوى وقور عرفنا أنها والدته.
قصت عليها أمى ما حدث و كيف أنهم وثقوا بكلمته و وعده الذى وعدهم به أن يأتي بأهله بعد التخرج لإتمام الخطبة. و كانت الطامة الكبرى عندما أخذت والدته في الإعتذار والشكوى منه ومن تصرفاته الرعناء ومن إدمانه للمخدرات، اعتذرت هى كثيرا وبكيت أنا كثيرا. لشهور طويلة لم تجف دموعي أو قربانى.
قربانى الذى قدمته مبكرا و تقبله الإله ليهبني حياتي السعيدة التى أعيشها الآن.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد