نورت مصر.. بقلم: محمود عماد .. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد ج2

هذه سلسلة مقالات تنشر أسبوعياً عن تجربة ذاتية لمغترب بعد العودة إلى مصر ورصد التغيرات التي حدثت وتحدث على مدار السنوات، وقد تتشابه تلك التجربة مع تجارب ملايين المصريين المغتربين في شتى بقاع الأرض!

محمود عماد

d985d8add985d988d8af-d8b9d985d8a7d8af نورت مصر.. بقلم: محمود عماد .. عودتي إلى الوطن الذي لم يعد ج2

كنت أشاهد مباراة الديربي بين الأهلي والزمالك في نهائي من النهائيات الكثيرة التي تلعب خارج الأراضي المصرية بدون سبب واضح، سوى جمع أموال أكثر من الخليج، وكان المعلق الخليجي بطبيعة الحال يوصف مدى حبه وعشقه لتراب مصر وطيبة الشعب المصري ويقول: دا حتى يا أخي وأنت داخل في المطار تلاقي كل الناس بتقولك نورت مصر، نورت مصر. هو في أحلى من كدا! 

تذكرت ماحدث معي في ليلة العودة. هذا الرجل يخفي نصف الحقيقة، ولا يكمل الجملة. صحيح يقول الواحد منهم حمد لله عالسلامة نورت مصر ثم يردف بالجملة الأكثر شهرة لدينا “كل سنة وأنت طيب يا باشا” ويرمقك بالنظرة ذات الأبعاد اللولبية إياها، وإذا لم تفهم سيباغتك بالقاضية “شوف لنا أي حاجة حلاوة الوصول بالسلامة، أي عملة معاك مش مهم مصري ولا دولار” 

هذه هي باقي الجملة، هذه هي باقي الحقيقة. كل من يؤد خدمة الآن يطلب مقابلها إكرامية/ بقشيش/ حلاوة/ تيبس سمها كما تشاء المهم أن تعطيني نظير ما أقوم به من خدمة، يطلبها بأدب أو بقلة أدب أو بعد أدب فهناك من يحب الاستعطاف والابتزاز النفسي وهي حيلة تنفع جدا مع النساء. وهناك من يفضل الإحراج وهذه هي الطريقة المثالية للضغط على الجالسين أمام الكورنيش. وهناك البلطجي الذي يفرض عليك خدمة لم تطلبها أصلا ثم يطالبك بدفع ثمن استخدامها.

قبل سفري من مصر كنت أدفع إكراميات لكن ليس في كل مرة عندما تعجبني الخدمة وأجد مقدمها قد قام بواجبه بشكل رائع أو حتى عندما يكون لدي ما يكفي من المال وهذا لم يحدث كثيراً فغالبا يكون أيام العيد لكني كنت أعرف ثقافة البقشيش منذ الصغر. بينما وجدتهم خارج مصر لا يطلبون إلا مقابل الخدمة فقط.

عندما عدت في تلك الإجازة ووجدت ظاهرة البقشيش أصبحت في كل شىء في حياتنا -أو هكذا بدت لي- بدأت أسأل الناس، فكان الرد: أرجوك لا تسألني عن مرتبي فهو ضعيف لا يكفي أبداً للمعيشة حتى أن مديري قال لي سنعينك هنا بمرتب رمزي لأن ما ستحصل عليه من بقشيش كل شهر سيكون ثلاث إلى أربع أضعاف هذا المرتب لذا لا تنظر إلى المرتب ولا تنتظر مننا زيادته في المستقبل! 

كان هذا كلام خالد الذي يعمل في مطعم من المطاعم الكبيرة في الإسكندرية حينما سألته عما إذا كان سيتقاضى راتب نظير وضعه لأطباق الطعام على طاولتنا، فلماذا يطلب من الزبائن؟! 

أما الحج الطاعن في السن الذي تخطى سن المعاش بكل تأكيد لكنه مازال يجلس على باب الحمام في حديقة الحيوان فلم يستطع إجابتي عن السؤال. فحين خرجت من الحمام ولم أعطه شيئا ظل ينادي عليّ أكثر من مرة حتى عدت إليه وقال لي 2 جنية دخول الحمام فسألته وهل هناك تذكرة؟ فصمت فكررت السؤال هل هناك تذكرة لدخول الحمام؟ فشاح بنظره عني مستشعراً الحرج وقال بصوت خافت: التذاكر على البوابات وليست هنا. 

لا أخفيكم سراً فقد شعرت بالضيق لأنني أحرجت الرجل وهو بعمر جدي وليس أبي لكن انتابني ضيق أكبر من طلب الجميع مقابل أعمالهم التي يتقاضون راتبا لأجلها.

حاول أحد الأصدقاء الأعزاء شرح المسألة وقال لي إن الدولة قد رفعت يدها عن المواطنين فهي نظرياً قد قدرّت الحد الأدنى للأجور ب6 آلاف جنية لكنها لا تسعى لتطبيق هذا الحد وكل من يعمل في القطاع الخاص يقبض رقم أقل من ذلك، ولحل تلك المشكلة يحاول الشعب عمل جمعية غير نظامية أو بتعبير العبقري محمود الجندي “جمعية ودايرة” فأنا أدفع الإكراميات، وفي المقابل سأرفع قيمة السلعة التي أبيعها في محل العطارة، وهو يعطي التاكسي أكثر من قيمة العداد وهكذا.. وهكذا.. 

لقد فهمت النظرية لكني لم استصيغها، لماذا لا يتم تطبيق الحد الأدنى ولماذا لا يتقاضى الناس رواتب كافية ولماذا لا ندفع مقابل الخدمة المقدمة فقط دون زيادات أليس هذا أكثر شفافية وأقرب لتحقيق العدالة والتوازن في المجتمع، وحينما كنت أفكر في الموضوع توقفت السيارة الأجرة التي كنا نستقلها أنا وصديقي ليدفع السائق الكارتة (الرسوم) للطريق الجديد الذي تم بناؤه من قبل الدولة من أموال الضرائب التي دفعها الشعب لكن مازال على المواطن أن يدفع تمن استخدامه للطريق، الدولة هي الأخرى تطلب بقشيش لا بل تفرضه فرضا! 

وقتها فقط فهمت وجهة نظر صديقي، وحينما نظرت له ابتسم لأنه فهم ما كنت أنوي قوله وقبل أن أحرك شفتايا، سبقني برده: نورت مصر. وانفجرنا في الضحك. 

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات