هل يكون تحليل الخطاب هو فصل الخطاب لمشكلة توتر القرآن؟… بقلم: أكمل صفوت
بقلم: أكمل صفوت
طبيب استشاري علاج الأورام بمستشفى جامعة أرهوس بالدانمرك ومن المهتمين بالفكر الديني والإسلام السياسي وهموم المصريين في المهجر.

مقدمة
استخدم الفقهاء المسلمون مناهج عدة للتعامل مع توتر القرآن فأبدعوا آليات مثل الناسخ والمنسوخ، الخاص والعام، الظاهر والباطن، المحكم والمتشابه، الحقيقة والمجاز، وغير ذلك من الثنائيات الفكرية، التي تنفي إحداها الأخرى، للاختيار والتفضيل بين المعاني والدلالات التي تبدو متناقضة وللوصول إلى ما يتصورونه مقصد الشرع، أو مراد الله.
لم تنجح تلك المحاولات إلا في تحويل تلك الاجتهادات إلى ساحة للسجال الفكري، كان الانتصار فيها للأيديولوجيا والسلطوية. المشترك الفكري بين كل تلك المحاولات والآليات – وأحد أهم أسباب فشلها – هو التعامل الفكري مع القرآن باعتباره نصا (بحسب مفهوم كلمة “نص” في علوم اللغة لا الفقه).

لذلك جاءت دعوة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد (١٩٤٣ – ٢٠١٠ م) للتعامل مع القرآن بوصفه خطاب (أو خطابات) وإلى محاولة تفسيره باستخدام علوم تحليل الخطاب لتشكل اختلافا نوعيا جوهريا عن كل ما سبق.
فهل تنجح تلك النظرة وهذه المنهجية في التعامل مع معضلة توتر القرآن وحل ما فشل فيه الأقدمون؟
سيحاول هذا المقال تقديم إجابة مبدئية على هذا السؤال وذلك عن طريق عرض موجز للفرق بين مفهومي النص والخطاب، يعقبه شرح لنظرية الخطاب ولآليات تحليل الخطاب مع امثلة من العلوم غير الدينية ثم توضيح للجديد الذى يستطيع تحليل الخطاب أن يضيفه إلى عملية تأويل القرآن مستخدما اجتهادات نصر حامد أبو زيد كنموذج.
مشكلة النص
النص هو “بنية لغوية تتجاوز حد الجملة المفيدة”(1).
التعريف -كما هو واضح- مسطح ومصمت يتعامل مع النص باعتباره “مجال محدد ومغلق ومكتفي بنفسه من حيث دلالته”(2).
كان من الطبيعي إذن أن يستخدم مفسرو القرآن الذين تعاملوا معه من حيث كونه نصا، أدوات “تحليل المضمون” للنصوص المكتوبة فبحثوا في المعاني المعجمية للألفاظ، وفي غريب القرآن، وفى المجاز والاستعارة، وفي الدرس البلاغي والأدبي، إلخ.
وكان من المفهوم (حيث أن النص مكتفي بنفسه من حيث دلالته) أن ينتصر مبدأ “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” على مبحث أسباب النزول.
وكان من المنطقي أيضا -ما دمنا نحلل نصا- أن يتم تفتيت القرآن وتجزئته إلى آيات طالما تجاوزت كل منها “حد الجملة المفيدة” فأدى ذلك إلى قصور هؤلاء المفسرون عن أن يروا القرآن كسياق واحد متكامل وأن يفهموا التشريعي في ضوء الروحي والأخلاقي.
أما أهم مشكلات التعامل مع القرآن كنص فهو أن هذا المدخل -بطبيعته- يحول دون خلق أو استخدام أي وسيلة موضوعية لحسم الخلاف حول القضايا الملتبسة (مثل توتر القرآن). وذلك بسبب طبيعة الآليات التحليلية المستخدمة في تحليل النصوص.
فآلية الناسخ والمنسوخ على سبيل المثال لا يمكن حسم نتائجها موضوعيا، فأنت إما تؤمن بالنسخ وبالأدلة التراثية الداعمة لفكرته أو لا تؤمن. وحيث أن الترتيب التاريخي للآيات لا يمكن إثباته فسيظل الجدل حوله تحكمه الأيديولوجيا والرأي والتفضيل.
وفي موضوع الحاكمية مثلا ستجد مثال آخر لتحكم الأيديولوجيا ولانقسام فريقين حول تفسيرين لمعنى كلمة “يحكم” في آيات سورة المائدة “ومن لم يحكم بما أنزل الله..” وستجد إن كلا الفريقين يزعم أن تأويله هو الحقيقة المطلقة وهو مراد الله عز وجل مما أدى إلى تحويل التأويلات لسجالات ومن ثم إلى طغيان الأيديولوجيا والتأويل السلطوي.
هذا هو النص إذن وتلك هي مشكلاته. فماذا عن الخطاب؟
مفهوم الخطاب
الخطاب هو “مجموعة من الرموز اللغوية والممارسات العملية يتم من خلالها خلق، وتثبيت، وإضفاء الشرعية على “المعنى”، في سياق اجتماعي وتاريخي معين”(3). أو بتعبير آخر، الخطاب هو عملية اجتماعية تاريخية لخلق المعنى في سياق(4).
نظرية الخطاب من النظريات البينية في العلوم يستخدمها الباحثون في علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والسياسة والإعلام واللغات وعلم النفس وغيرها. النظرية تفترض أن المعنى غير مستبطن تلقائيا في اللغة لكنه “نتيجة” مرتبطة بسياق اللحظة الراهنة للخطاب وبوسيلته ومكانه والمشاركين فيه، إلخ..
الخطاب ليس وسيط محايد لتمثيل واقع موضوعي لأن الهياكل الاجتماعية وعلاقات القوة تؤثر في الخطاب وتتأثر به كذلك وقد تتغير تبعا له.
كمثال، نأخذ أبسط صور الخطاب. فكر في فعل طلب كوب من الشاي في مقهى. الخطاب المتبادل بين النادل والزبون يمكن أن يكون له أكثر من شكل وصورة بحسب نوع المكان (قهوة بلدي في حي شعبي أم كافيه في فندق ٥ نجوم مثلا)، وكذلك هيئة وسن وجنس (وأحيانا عرقية) الزبون والذي على أساسهم ستتحدد تراتبية طبقية/اجتماعية بينه وبين النادل.
الخطاب في بنيته وألفاظه وتركيبة جمله والطريقة التي يتم نطق الألفاظ بها ولغة الجسد المصاحبة سيتفاعل مع، ويتشكل بحسب كل تلك العوامل الاجتماعية. وبالتالي فجملة مثل “وعندك واحد شاي للبيه” قد تكون محايدة تماما وقد تحمل معاني مضمنة مثل المجاملة أو الحفاوة أو الود أو التنمر أو التحرش (الجنسي) أو السخرية التي قد تتعدد أسبابها فتشمل حداثة سن الزبون أو عدم مناسبة هيئته لطبيعة المكان الطبقية مثلا.
ويوضح هذا أن الخطاب كذلك “يخلق” العلاقة بين طرفي الخطاب، وهى علاقة قد تكون محايدة أو حميمية أو عدائية أو تنافسية أو سجالية، إلخ. الخطاب يخلق واقع اجتماعي جديد لم يكن موجود قبله، وهو واقع لا يمكن أن نفهمه بدقة بمجرد قراءة لنص الحوار المتبادل.
ونستطيع من هذا المثل البسيط أن نفهم تعقيد عملية فهم ودراسة الخطاب، وبمد الخط على استقامته يمكن تصور كيفية فهم خطابات أكثر أهمية وتأثيرا، كخطاب الحكومات مع المعارضة أو الحكومات مع المواطنين، أو وسائل الإعلام مع المتابعين، أو خطب الجمعة وعظات الأحد مع المتعبدين أو القرآن مع أهل الكتاب مثلا.

وعلى مستوى آخر أكثر تعقيدا، نستطيع أن نقرر أن أهم أوجه الخطاب هو قدرته على خلق ما أسماه ميشيل فوكو (١٩٢٦ – ١٩٨٤م) “النظام الحاكم للحقيقة” Regime of truth.
النظم الحاكمة للحقيقة في مفهوم فوكو هي أنواع الخطابات التي تنظم وتحدد:
1- ما هو حقيقي.
2- الآليات التي تمكن الفرد من التمييز بين الحقيقي والزائف.
3- المصادر المعتمدة لما هو حقيقي.
4- الطريقة التي يتم بها اعتماد “الحقيقة” وعقاب المنكر لها.
5- وضعية المتحدثين باسم هذه الحقيقة، وهنا يؤكد فوكو على أهمية الخطاب في خلق “الهوية” لأنه يخلق أدوارا للمشاركين فيه.
في نظر فوكو النظم الحاكمة للحقيقة التي ينتجها الخطاب نسبية وذاتية وغير موضوعية ولا يمكن فصلها عن علاقات القوة في المجتمع.
كمثال تطبيقي على ما سبق يمكننا تأمل خطاب الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في زمن العالم الإيطالي جاليليو (١٥٦٤ – ١٦٤٢) عن مركزية الإنسان في الخطاب الإلهي وكيف انبثقت منه فكرة مركزية الأرض في الكون والتي تحولت بفعل الخطاب الكنسي إلى “حقيقة” وتكون حول هذه “الحقيقة”، “نظام حاكم للحقيقة” يحدد آليات دينية تفسيرية تميز بين تلك الحقيقة والهرطقة الزائفة التي تخالفها، والمصادر التي تستقي منها تلك الحقيقة، والمتحدثين باسم تلك الحقيقة من رجال الدين وهم من أصبح منوط بهم حمايتها ومن صلاحيتهم محاكمة مهاجميها (كجاليليو) ومعاقبته.
ويمكننا أن نجد مقاربة حديثة لهذا المثال في عالمنا الإسلامي في قضايا متعددة كثيرة يمكن أن نختار منها مثلا مبدأ “قوامة الرجل” وكيف انبثق منه مفهوم “أفضلية جنس الرجال على جنس النساء”، والذي تحول بفعل الخطاب الديني إلى “حقيقة” وتكون حول هذه “الحقيقة” نظام حاكم للحقيقة يحدد آليات تفسيرية تدعمها، ومصادر معتمدة لها ومتحدثين رسميين من رجال دين معتمدين يتحدثون باسمها وتهم بالكفر أو إنكار المعلوم من الدين للمخالفين وكذلك إمكانية لمحاكمتهم (ولو معنويا) أو إنزال العقاب بهم.
هذه القدرة على خلق نظام حاكم للحقيقة توضح أهمية الخطاب ولماذا اعتبره الباحثون دائما أكثر تأثيرا من “النص”.
تحليل الخطاب: معناه ووسائله
إذا كان الخطاب هو عملية اجتماعية تاريخية لخلق المعنى في سياق، فتحليل الخطاب هو محاولة إيضاح هذا المعنى وفهم كيف تم خلقه. وفي هذا السبيل يستطيع الباحث أن يسلك عدة طرق بحسب سؤاله البحثي والمجال العلمي الذي يبحث فيه، منها مثلا:
أن يختار الباحث إحدى الأفكار المهيمنة في مجتمع ما، كفكرة أفضلية الرجل على المرأة، ثم يبحث عن الخطاب أو الخطابات التي أدت لشيوع تلك الفكرة واستقرارها كحقيقة.
كما يمكن للباحث أن يسلك الطريق العكسي فيختار خطاب محدد ما في لحظة آنية أو تاريخية، مثل الخطاب العنصري لتفوق الجنس الأبيض في الإعلام التقليدي أو في الكتب العلمية، أو في الخطاب السياسي لحكومة ما مثلا، ثم يتتبعه من لحظة ولادته في ذلك المجتمع ليفهم نوع الحقيقة (أو الحقائق) الذهنية التي أنتجها هذا الخطاب وما هي النظم الحاكمة للحقائق التي أنشأها وكيف أنشأها (الآليات التي استخدمها والمصادر التي اعتمدها) وليفهم لماذا كُتب لهذا الخطاب وتلك المعاني الوجود أو الاندثار.
كما يمكن للباحث أن يستخدم تحليل الخطاب في المقابلة بين خطابين، مثلا: خطاب الحكومات ووسائل الإعلام الغربية عن المهاجرين السوريين لأوروبا منذ سنوات قريبة وخطاب نفس الحكومات ووسائل الإعلام عن المهاجرين الأوكرانيين الآن، وذلك من حيث المفردات اللغوية، والوسائل السمعية والبصرية المستخدمة ومحتوى الرسالة والسردية التاريخية المستخدمة في الخطاب وصولا لفهم المعنى الذي تم خلقه ومدى قبول أو رفض المجتمع له.
وأخيرا يستطيع الباحث في تحليل الخطاب أن يتناول نصا ما ويبحث فيه عن خطاب خاص به أو عن دلالات تأثر بخطاب آخر. على سبيل المثال..
قامت الباحثة الأمريكية ايميلي مارتن في بحثها المنشور سنة ١٩٩١ م بتحليل الخطاب داخل الكثير من الكتب والمقالات العلمية التي تتحدث عن بيولوجيا التكاثر لتكتشف كيف تسللت الثقافة السائدة والرؤية النمطية التقليدية للذكورة والأنوثة إلى لغة تلك الكتب “العلمية”. فالحيوانات المنوية توصف بأنها، “نشيطة” و”متحفزة”، وأنها “تتنافس” و”تتسابق” في “رحلة شاقة” للوصول الى البويضة “واختراقها”.

في المقابل توصف البويضات بأنها “ساكنة”، “يتم دفعها” من المبيض و”يتم حملها” داخل قنوات فالوب إلى الرحم، حيث “تنتظر” والاسم العلمي لجدار البويضة هو “الثوب” والاسم العلمي لجزيئات البروتين على سطحها هو “تاج”.
المدهش أنه عندما أثبتت الدراسات أن تلك الأوصاف خاطئة علميا وأن البويضة ليست ساكنة أو سلبية وأن الحيوانات المنوية ليست بالقوة أو السرعة التي تصورها العلماء من قبل وإن عملية اختراق البويضة تتم عن طريق تفاعل مشترك بين الحيوان المنوي والبويضة، تم استبدال تلك الأوصاف عن البويضة بنموذج نمطي آخر للأنثى الشرسة القاتلة (femme fatale) فأصبحت البويضة “تقتنص” و “تستولي على” الحيوان المنوي و”توقعه في حبائلها” المكونة من “شبكة من الزوائد اللزجة” وأصبحت نواة البويضة “تندفع نحو” الحيوان المنوي ف”تقطع طريق رحلته” وهكذا..
تكشف نفس الدراسة أيضا في أمثلة أخرى انحياز واضح لبيولوجيا الرجل وإعجاب بقدرته على “إنتاج” الملايين من الحيوانات المنوية. مقابل رؤية متدنية لبيولوجيا المرأة و”الإهدار” الشهري للبويضات غير المخصبة. رغم أن الحساب العلمي يثبت إن لكل طفل يولد “تهدر” المرأة ٢٠٠ بويضة، بينما لكل طفل “يهدر” الرجل تريليون حيوان منوي(4).
وما هذه الدراسة إلا نموذج بسيط على ما يستطيع تحليل الخطاب أن يكشفه من رسائل مخفية ونسق فكرى في “النصوص”، وكيف يمكن لهذا الخطاب المتأثر والمتفاعل مع واقع ثقافي أن يؤثر في الوعي واللاوعي الجمعي.
وبشكل عام فسيكون على باحث تحليل الخطاب أن يجيب على أسئلة من نوع، من المتحدث، مع من يتحدث، ما هي وسيلة (أو وسائل الخطاب)، ما هي مصادر الخطاب، ما هو نوع الخطاب (ترهيبي، ترغيبي، تهديديي، سجالي، تقريري، سردي، إلخ..)، ما هي مناسبة الخطاب، ما هي آليات إنتاج المعنى، ما هو السياق الاجتماعي وما نوع علاقات القوة في المجتمع وبين المشاركين في الخطاب وكيف أثرت في – وتأثرت – بالخطاب. ويتم تحليل كل (أو أهم) تلك العناصر باستخدام وسائل نظرية وتحليلية من العلوم الاجتماعية والإنسانيات والتاريخ واللسانيات وعلم النفس وغيرها من العلوم بحسب موضوع البحث والمعلومات المتاحة للدراسة.
وكذلك من المهم التوضيح أنه متى تم استنباط نسق خطابي وإدراكه وتحليله وتدوينه فإنه من الممكن أن نضيف على كل ما سبق من وسائل، وسيلة أخرى وهي مبادئ تحليل المحتوى للنصوص المكتوبة (كالمعاني المعجمية للألفاظ والمجاز والدرس الأدبي إلخ.) فيجتمع سويا تحليل الخطاب وتحليل المحتوى. وذلك ما أوضحه نصر حامد أبو زيد حين قال “كل خطاب نص وليس كل نص خطاب”(5).
تأويل القرآن كخطاب
يصف نصر حامد أبو زيد القرآن بأنه ثمرة لعمليات من الحوار والسجال والمناظرة والرفض والقبول وأن خصائصه الخطابية لهذا السبب شديدة الوضوح والغنى والتنوع ليس فقط من حيث تعدد الأصوات ولكن كذلك من حيث أنواع الخطاب ما بين تشريعى، وتعبدي وسجالي وتهديدي وما غير ذلك(٦). الدعوة إلى النظر في القرآن كخطاب ومحاولة تأويله باستخدام آليات تحليل الخطاب تبدو لذلك دعوة منطقية وربما قال البعض إنها تأخرت كثيرا.
على المستوى النظري فمن المؤكد إن استخدام تحليل الخطاب في تفسير القرآن سيثرى آليات التأويل بمنهجيات علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس وبالمعلومات المستقاة -مثلا- من الدراسات التاريخية لواقع الجزيرة العربية في فترة نزول الوحي وما قبلها.
كما أن هذه الآلية (تحليل الخطاب) بحسب رأي أبو زيد، ستقدم تفسيرا أكثر موضوعية، مما قبلها لأنه سيكون تأويلا ناتجا عن منهجية فكرية تحليلية.
فعلى سبيل المثال (والمثال من عندي)، باستخدام تحليل الخطاب لن يكون الاختيار بين عموم اللفظ و خصوص السبب أيديولوجيا أو سلطويا أو تفضيليا، بل لن يوجد هذا السؤال أصلا وسيكون اعتماد “خصوص السبب” اتباعا لمنهجية تحليلية تستلهم السياق في الفهم والتفسير. موضوعية التفسير ستسمح بالاشتباك أو الخلاف الفكري الموضوعي مع تلك التأويلات وإنهاء حالة السجال التي سادت تراثنا الديني. غياب السلطوية والأيديولوجيا هو ما أسماه أبو زيد “تأويلية ديموقراطية”.
غير أن جدة الموضوع والاختلاف النوعي في التناول والمنهج والآليات بين تحليل الخطاب وبين كل ما سبقه من منهجيات تراثية تعتمد على رؤية القرآن كنص تجعل من الصعب التنبؤ بما يمكن لتلك المحاولة أن تخلقه من أفكار. ونتائج خاصة وقد توفي نصر حامد أبو زيد قبل أن يكمل إنتاجه الفكري في هذا المجال، ولكني سأحاول فيما تلى أن أعرض شذرات مما قدمه أبو زيد كنماذج غير مكتملة لما يمكن لتلك الرؤية أن تقدمه معتمدا في ذلك على محاضرتين ألقاهما في الإسكندرية في عامي ٢٠٠٦ و ٢٠٠٨ (٦، ٧).
المساهمة في ترتيب النزول
دخل القرآن في حوارات ومساجلات مع المشركين في مكة ومع أهل الكتاب ويمكن من خلال دراسة الخطاب القرآني في تلك الحوارات والمساجلات تتبع تطور الخطاب متوازيا مع تغير العلاقة مع المخاطبين ومع الأحداث التاريخية. ويقترح نصر إن “هذا الترتيب القائم على أساس التعامل مع القرآن من منظور كونه خطابا يمكن أن يساعدنا في عملية ترتيب النزول”.
تفسير جديد للمحكم والمتشابه
“وفى تقديري إن الخطاب في الآية يتعلق بالرد على فهم النصارى لوصف القرآن للمسيح بأنه “كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه” (النساء، ١٧١) بأنه فهم سقيم غير قادر على التمييز بين الواضح الغامض – المحكم والمتشابه- في الخطاب القرآني. هكذا استطاع القرآن أن يواجه التحدي بالتناقض بإعادة تصنيف خطابه وتوجيهه وجهة الغموض بحيث يصبح هو -أي الخطاب- مرجعية التأويل. تصبح بشرية المسيح -وكونه عبدا من عباد الله- هو الأصل (المحكم)، وماورد من وصف بأنه الكلمة أو الروح تصبح الفرع (المتشابه) وتصبح مشكلة النصارى أنهم عجزوا عن التمييز بين المستويين ووقعوا نتيجة لذلك في معسكر “الذين في قلوبهم زيغ” (آل عمران، ٧)، الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل الذى لا يعلمه إلا الله.” وبالتالي فتعميم المحكم والمتشابه على مجمل القرآن مبنى على فهم القرآن كنص وتجاهل بنيته الخطابية.
المساواة في أمر الزواج المختلط
أوضح أبو زيد كيف أن مواقف الفقهاء من قضية الزواج المختلط بين المسلمين وأهل الكتاب وتفسيرهم للآيات التي تنظم تلك المسألة قد حكمها ٣ أمور:
1- نظرتهم للقرآن بوصفه نصا قانونيا لا يقبل تعدد الأحكام.
2- رؤيتهم -التاريخية- لسيادة الذكر على الأنثى.
3- اعتبارهم مجال النشاط الاجتماعي – الذى ميز فيه الخطاب القرآني الذكور وتوجه لهم الخطاب، هو الأصل وأن المساواة (في مجال العبادات) هي الفرع.
في حين يرى أبو زيد أن بالقرآن خطاب “تباعد وانفصال” (نجد له أمثلة في سور البقرة والكافرون على سبيل المثال) أعقبه خطاب “تعايش ومشاركة” (كما في سورة المائدة) وأنه في ظل التعايش تم تحليل الطيبات من الأكل والتزاوج. ويفهم أبو زيد خطاب القرآن للذكور في مجال النشاط الاجتماعي في سياقه التاريخي وفى ظل علاقات القوة لعصر التنزيل كخاصية خطابية قد استثمرت تاريخيا لصياغة حقوق للذكور تتجاوز حدود قصد الخطاب ذاته. في حين إن الأصل الأصيل هو خطاب المساواة كما يتبدى في الآيات التعبدية، وأنه يتعين علينا أن نمد حكم الأصل على الفرع.
وقد أوحى أبو زيد من خلال ذلك – وإن لم يكتب صراحة – أن في هذا الخطاب ما يمكن أن يسمح بزواج المسلمة من الكتابي.
فهم اللاهوتي في ضوء نوع الخطاب
انقسم المفسرون كثيرا حول تفسير آية “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا” (الإسراء، ١٦).
واجتهدوا في تحليل لفظ “أمرنا” وهل هو من الفعل الثلاثي “أمر” أم من الفعل الرباعي “آمر” بمعنى “أكثر”. وذلك لكي ينفوا عن الله سبحانه وتعالى الظلم لكونه أمر المترفين بالفسوق ثم عاقبهم عليه. غير أن أبو زيد يرى خطأ منهجي أساسي في تلك الجهود حيث أنه يعتبر أن تلك الآية لم تأت في إطار خطاب إخبار الذات الإلهية عن نفسها ولكنها أتت في إطار خطاب تهديدي متوعد موجه إلى كفار مكة تحديدا. ويرى أنه من الخطأ محاولة الاستدلال على صفات لاهوتية دون أخذ نوع الخطاب في الاعتبار.
رؤية المقاصد الكلية للشريعة في ضوء السياق الكلى للخطاب القرآني
في تسعينيات القرن الماضي نشر نصر حامد أبو زيد مقالة بعنوان “المقاصد الكلية للشريعة، قراءة جديدة”، اقترح فيها ٣ مقاصد كلية تستوعب المقاصد الكلية الخمسة التقليدية (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل والمال) وكذلك المقاصد الجزئية. وهذه المقاصد هي العقلانية، والحرية والعدل. أهمية تلك الدراسة المبكرة لأبو زيد تنبع من كونها أكثر من مجرد إضافة أو تعديل لأنها تقترح تغيير في بنية مبحث المقاصد ذاته.
وأزعم أن في تلك القراءة الجديدة إرهاصات جنينية لفهم نصر للقرآن من حيث كونه خطابا كما تبلور في كتاباته بعد أكثر من عشر سنوات. إذ إنها قراءة تتناول السياق القرآني في كليته، وتتجاوز حدود الدلالات اللغوية إلى تفاعل النص مع الواقع الاجتماعي والتاريخي. قراءة نصر الجديدة للمقاصد كانت نتاج محاولته لتتبع السياق القرآني المنتج لمفاهيم العقلانية والعدل والحرية بشكل لا يفصل بين التشريعي والعقيدي والقصصي. هي رؤية تفهم المقاصد كمعاني تنتجها لغة في سياق تاريخي واجتماعي. وهي في ذلك وفي ما ذكرناه من منهجية تتشابه مع دراسات تحليل الخطاب كما سبق وأوضحنا.
خاتمة
أوضحنا فيما سبق شذرات لما يمكن لتحليل الخطاب أن يقدمه من إضافات لجهود تفسير القرآن وهي إضافات نراها هامة لاختلافها نوعيا عن المناحي التي اتبعها المفسرون منذ البداية وحتى عصرنا الحديث.
هل نظن إذن أن تحليل الخطاب هو فصل الخطاب لمعضلة توتر القرآن؟
من المبكر الإجابة على هذا السؤال فما لدينا من اجتهادات لا يكفي بعد، غير أننا نستطيع أن نقول، إن تحليل الخطاب يعدنا بذلك.
هو يعدنا بذلك لأن رؤية القرآن من حيث كونه خطابا تنزع شبهة التناقض بين الآيات أو بين الأحكام وتحول “التوتر” إلى جزء من بنية القرآن وتعتبره تمثيلا لحلقات متتالية في سلسلة من الحوارات والسجالات التي كان القرآن طرفا فيها مع أطراف متعددة في واقع اجتماعي يتغير.
غير أن “فصل الخطاب” الحقيقي لن يأتي إلا بمزيد من الجهد في هذا الاتجاه ومرهون بمدى النجاح في تقديم نتائج أكثر تكاملا واتساقا.
وفي النهاية فإن تعبير “فصل الخطاب” لا يعني أبدا “نهاية الاجتهاد” ولا يعني نهاية الاختلاف بل من المؤكد إن تحليل الخطاب سيقدم العديد من التفسيرات والتأويلات والمزيد من الخلاف في الرأي. ما يمكن أن يقدمه تحليل الخطاب ليس نزع التوتر عن القرآن – لأنه جزء من بنيته – ولكن نزع التوتر عن الخلاف حول تفسير القرآن. ما يمكن أن يقدمه تحليل الخطاب هو فهم أعمق وأكثر موضوعية يحول السجال والجدال والتكفير إلى حوار ومناقشة تليق بعمق القرآن وتعقيده ورحابته.
المراجع
(1) ضياء الدين محمد، “القرآن من النص الى الخطاب، قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد“. مجلة دراسات وأبحاث، العدد ٢٧، (٢٠١٧).
(2) جابر عصفور، ”آفاق العصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب“، (١٩٩٧).
(3) melissa Johnson, Discourse analysis. International encyclopedia of human geography. (2020).
(4) Johannes Angermuller, Discourse studies. International encyclopedia of human geography. (2020).
(5) Emily Martin, How science has constructed a romance baseret on stereotypical male-female roles. Chicago Journals. (1991).
(6) نصر حامد أبو زيد، ورقة قدمت لمؤتمر حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني: كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي. ٢٠٠٦.
(7) نصر حامد أبو زيد، إعادة تعريف القرآن، محاضرة ألقيت في مكتبة الأسكندرية، ٢٠٠٨.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد