هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 2.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
العنوان الأصليّ: النَّمْلَة الكهربائيَّة
تأليف: فيليب ك. ديك
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

الحلقة الثانية
في مِرْفِقِ الإصلاحِ حصلَ على يدٍ بديلةٍ عِوضًا عن يدِهِ المفقودةِ.
لقد فَتَنَتْهُ اليدُ البديلةُ بحُسْنِهَا الخلَّاب؛ فقد تفحَّصها لوقتٍ مديدٍ قبل أن يسمحَ للتِّقَنيِّين بتركيبها. قد بَدَتْ كأنَّها عضويَّةٌ في الظَّاهرِ، بل كانت بالفعلِ عضويةً في الظَّاهر. كان جلدٌ طبيعيٌّ يكسو لحمًا طبيعيًّا ودمٌ حقيقيٌّ يَصُبُّ في الأوردةِ والشُّعيراتِ الدمويَّة، ولكنْ تحت ذلك، كانت الأسلاكُ والدوائر الكهربائيَّةُ، المُكوِّناتُ المُنَمْنَمَةُ تَأْتَلِقُ… وحينما أنعمَ النَّظرَ في لُبِّ مِعْصَمِ اليدِ البديلةِ، رأى حواجزَ لتنظيم التدفُّقِ ومحركاتٍ وصماماتٍ متعددةَ المراحلِ، جميعها قد بلغَ مِن الضآلةِ منتهى الغايةِ. إنَّها يدٌ في قمةِ التعقيدِ والدِّقَّةِ، تبلغُ تَكَلِّفَتُها أربعين ورقةً ماليَّةً خضراءَ مِن فئةِ الخمسين، أيّ ما يُعادلُ راتبَ أسبوعٍ تبعًا لما يَنُصُّ عليه كشفُ رواتبِ الشركةِ.
وبينما كان التقنيُّون يعملونَ على إدغام الجزء العظميّ من اليدِ في جسدِه بما يُحَقِّقُ التوازنَ الأمثل، تساءلَ بول “هل هذه اليد مكفولةٌ بضمانٍ؟”
أجابه أحدُ التقنيين “مُدَّةُ الضمانِ على اليدِ تسعون يومًا تشملُ قطعَ الغيارِ وأعمالَ الصيانةِ ما لم تتعرَّض اليد لضررٍ ناجمٍ عن سوءِ استعمالٍ متعَّمَدٍ أو عن استخدامٍ يتجاوزُ ما هو مُعتاد.”
قال بول “يبدو لي أنَّ كلامَكَ مُحَمَّلٌ بإيحاءاتٍ مُبْهَمَة.”
قال التقنيّ الذي كان رجلًا -إذ كان التقنيون كُلُّهم رجالًا- وهو يرمقه بنظراتٍ حادَّةٍ “لقد كنتَ تَدَّعِي أنك إنسانٌ؟”
قال بول “عن غيرِ قَصْدٍ.”
“والآن ادعاؤكَ سيصيرُ عن قَصْدٍ.”
قال بول “بالضَّبطِ.”
“هل تعلم لماذا لم تسطع أَنْ تَحْدُسَ بحقيقةِ أمرِك قطُّ؟ لا بُدَّ أنَّ هناك علاماتٍ قد ظهرتْ… أصواتَ طقطقةٍ أو أصداءَ طنينٍ تنبعثُ بداخلِكَ بين الفَيْنةِ والأخرى. لم تَحْزُرْ الأمرَ قطُّ لأنَّك مُبَرْمَجٌ على ألَّا تلاحظ؛ لذا فإنَّك ستُلاقي الآن ذاتَ العُسْرِ الشديدِ حالما تحاول أنْ تكتشفَ العِلَّةَ وراءَ صُنْعِك والأشخاصَ الذين مِن أجل مصالحهم تمَّ تشغيلُكَ.”
قالَ بول “عَبْدٌ، عبدٌ آليٌّ.
“لكنَّك أمضيتَ وقتًا ممتعًا.”
قال بول “نعم، لقد عِشْتُ حياةً طيِّبةً، ودَأَبْتُ على العملِ الشاقِّ.”
دفعَ بول لمَرْفِقِ الإصلاح الأربعين الخضراءَ، ثَنَى أصابعَه الجديدةَ، ومِن أجلِ اختبارِها شَرَعَ في التقاطِ أشياءَ مُتَنَوِّعَةٍ مثلَ العملاتِ المعدنيَّة، ثُمَّ غادرَ. بعد عشرِ دقائق كان بول على إحدى وسائل النقل العام، مُتَّجِهًا إلى بيتِهِ. لقد كان يومُهُ مُفْعَمًا بالأحداثِ.
في شقتِهِ المُكَوَّنةِ مِن غرفةٍ وحيدةٍ سكبَ لنفسه جرعةً مِنْ ويسكي جاك دانيلز ذي العلامة الأرجوانيَّةِ المُعَتَّقِ لمُدةِ ستين عامًا، وجلس يَتَرَشَّفُهَا وهو يُحَمْلِقُ عبرَ نافذتِهِ الوحيدةِ إلى المبنى الجاثمِ على الجهةِ المُقابلةِ من الشارعِ.
سألَ نفسَه: هل يتعَيَّن عليَّ أنْ أذهب إلى المكتب؟ إن أقدمت على الذهاب، فلماذا؟ إن أحجمت عن الذهاب، فلماذا؟ اِخْتَرْ أحدَ الأمرَيْنِ. تَفَكَّرَ قائلًا في صمتِ تأمُّلِهِ: يا إلهي إنَّ معرفتي بالحقيقةِ تُضَعْضِعُ أركانَ جَنَانِي، لقد أدركتُ أنني مسخٌ وأنني مجرَّدُ شيءٍ من الجمادِ سَجِينِ المواتِ يدَّعي أنَّه كائنٌ حيٌّ. لكنَّه- شَعَرَ بأنَّهُ حيٌّ. ومع ذلك فإنَّه صارَ يشعرُ الآنَ على نحوٍ مُغَايِرٍ بذاتِهِ؛ ومِنْ ثّمَّ يشعرُ بصورةٍ بالغةِ الاختلافِ بالآخرين جميعهم، خاصةً دانسمان وسارة وكُلّ شخصٍ في شركة تراي-بلان.
قالَ في نفسِهِ: أعتقدُ أنَّني سأقومُ بالانتحارِ، ولكنني رُبَّما أكون مُبرمجٌ على أن أعجزَ عن قتلِ نفسي؛ لأنَّهُ سيكونُ لَمَنْ يملكُني خسارةً فادحةً عليه أن يتحمَّلها ولا أظنُّ أنَّ مالِكًا قد يرغبُ في ذلك الإهدارِ الفاحشِ. إنَّني مُبرمجٌ. هناك مصفوفةٌ بداخلي مُرَكَّبةٌ في موضعٍ ما، شبكةٌ حاجزةٌ تَرْدَعُني عن التَّبَصُّرِ بأفكارٍ مُحَدَّدةٍ وتَصْرِفُني عن الإتيانِ بأفعالٍ مُعَيَّنةٍ، وتُكْرِهُنِي على أفكارٍ وأفعالٍ أخرى. إنَّنِي لستُ حُرًّا ولم أكن حُرًّا مِن قبلُ قَطُّ، لكنني الآن أعرفُ هذا؛ ومعرفتي تجعلُ كلَّ شيءٍ مختلفًا.
أَعْتَمَ بول النافذةِ وقام بتشغيل الإنارة العُلْوِيَّة وأخذَ يَنْضُو عنه ثيابِهِ قطعةً فقطعة. لقد كان يُراقبُ التقنيين، وهم يُرَكِّبون يَدَهُ الجديدة في مرفق الإصلاح، مُراقبةً لصيقةً: لقد صار لديه الآن تصوُّرٌ جَلِيٌّ عن كيفيةِ تركيبِ أجزاءِ جسدِهِ. كان هناك لوحتان أساسيَّتان، واحدةٌ في كلِّ فخذٍ؛ أزال التقنيون اللوحتين ليتَفَحَّصوا ما يقع تحتهما مِنْ جدائلِ الدوائرِ الكهربائيَّة بالغةَ التعقيدِ. إذا كنتُ مبرمجًا فإني على الأرجح سأعثرُ على المصفوفةِ هناك: هذا ما قرَّ عليه رأيُهُ.
أربكتْهُ متاهةُ الدوائرِ الكهربائيَّةِ؛ فقال لنفسِهِ مشدوهًا: إنِّي في أمسِّ الحاجةِ إلى المساعدة، دعنا نُفَكِّر… ما هو رمزُ هاتفِ المكالماتِ المصوَّرةِ الخاصُّ بحاسوبِ الفئةِ BBB الذي نقومُ باستئجارِهِ في مكتب الشركة؟
التقطَ الهاتف وقامَ بالاتصال بالحاسوب في موقعِهِ الدائمِ في مدينة بويسي بولاية أيداهو.
انبعث صوتٌ آليٌّ مِن الهاتف يقولُ “إنَّ استعمالَ الحاسوب يتمُّ تحصيصُ كُلْفَتِهِ بمعدلِ خمسِ أوراقٍ ماليَّةٍ خضراءَ في الدقيقةِ الواحدةِ، رجاءً ضَعْ بطاقتَكَ الائتمانيَّةَ في مواجهةِ الشاشة.”
نفَّذ بول الأمر.
استطردَ الصوتُ الآليُّ قائلًا “ستكون مُتَصِّلًا بالحاسوب فورَ سماعِ صوتِ الصَّافرةِ، رجاءً قُمْ باستعلامك بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ، واضِعًا في اعتبارِكَ أنَّ إجابةَ الحاسوب سيتمُّ احتسابها بالميكروثانية بينما استعلامُك سوف-” ثُمَّ خَفَّضَ بول الصَّوْتَ. لكنَّه بادر إلى رفعِ مستوى الصوتِ فورَ ظهور إشارةِ إدخالِ البياناتِ الصَّوتيَّةِ على شاشةِ الحاسوب. في هذه اللحظة استحالَ الحاسوبُ إلى أُذُنٍ عملاقةٍ تُصيخُ لَهُ، في غُضُونِ إنصاتِها إلى خمسين ألفًا من المُسْتَعْلِمِينَ الآخرين في شتَّى أنحاءِ كوكبِ الأرض. أَمَرَ بول الحاسوبَ قائلًا “قُمْ بفحصي بالماسحِ المرئيّ، وأَنْبِئْنِي بالموضعِ الذي سأعثرُ فيه على آليةِ البرمجةِ التي تستأثرُ بزمامِ أفكاري ولجامِ سلوكي.” ومَكَثَ مُتَرَّقِبًا.
على شاشة الهاتف كانت هناك عينٌ ضخمةٌ مفعمةٌ بالنشاط ومُتَعَدِّدةُ العدساتِ، تُحَدِّقُ فيه وهو يُظْهِرُ لها جسدَهُ العاري في شقتِهِ المكوَّنةِ مِن غرفةٍ وحيدةٍ، قال له الحاسوب “قُمْ بإزاحةِ لوحةِ الصدر بالضغطِ على عظمةِ القَصِّ ثُمَّ السَّحْبِ خارجًا.” نفَّذَ بول التعليمات فإذ بِهِ قد اقتلعَ قِسْمًا مِنْ صدرِهِ، وضعه على الأرضيةِ وهو مُصَابٌ بنوبةٍ مِن الدوار.
قال الحاسوب “أستطيعُ أن أتَبَيَّنَ وحداتِ التحكُّمِ ولكنني أعجزُ عن تمييزِ الوحدة التي-” توقَّف الحاسوب عن الكلام وعلى الشاشة أخذتْ عينُهُ الضخمةُ في إجالة النَّظَرِ.
“أستطيعُ أن أتبيَّنَ لفافةً من شريطٍ مُثَقَّبٍ تعلو آليةَ قلبِكَ، هل بمقدورك رؤيتها؟” اختلسَ بول النظرَ بعنقٍ مشرئبةٍ فأبصرها هو أيضًا. قال الحاسوب “يتحتَّمُ عليَّ أنْ أقطعَ الاتِّصَالَ، وسأُعيد الاتصال بك بعد فحصِ البياناتِ المتاحةَ؛ لأُعطيك النتيجةَ. طاب يومُكَ.” ثُمَّ انطفأتِ الشاشةُ.
“سوف أنتزعُ الشريطَ مِن جسدي.” قالها بول لنفسِهِ. كان ضئيلَ الحجمِ، يتكوَّنُ مِن مجرَّدِ وشيعتَينِ يَلْتَفُّ حولهما الشريطُ وماسحٍ ضوئيٍّ مُثَبَّتٍ بين أُسطوانةِ التوصيلِ وأُسطوانةِ الاستقبالِ. لم يَلْحَظْ أيَّ إشارةٍ تَدُلُّ على أوهى حركةٍ، كانت الوشيعتانِ ساكنتَيْنِ تمامًا. تراءى له أنَّ البَكرتَيْنِ لا يدوران إلا حين تَطْرَأُ مواقفُ محدَّدةٌ؛ كي يعملا على تجاوزها وإبطالها. قال في نفسه: إنهما يتجاوزان ويُبطلانِ العملياتِ الدماغيَّة التي تجري بداخلِي ولا بُدَّ أنَّ هذا كان ديدنهما طوال حياتِي.
مدَّ يدَهُ إلى أسفل وتَلَمَّسَ أسطوانةَ التوصيلِ، وتَوَصَّلَ إلى فكرةٍ مُفَادُها “إنَّ كلَّ ما يتوجَّبُ عليَّ القيام به هو أن أَجْتَثَّ هذه القطعةِ، و-“
ضَاءَتْ شاشةُ الهاتفِ مجدَّدًا، وأنبعثَ الصوتُ الآليُّ قائلًا ” يا ذا البطاقةِ الائتمانيةِ التي تحملُ رقمَ 3-BNX-882-HQR446-T هأنذا الحاسوب BBB-307DR أُعيدُ الاتِّصالَ بك للردِّ على استعلامِك السالفِ بعد مرورِ سِتّ عشرة ثانيةً بتاريخ 4 نوفمبر 1992. إنَّ لفافةَ الشريطِ المُثَقَّبِ المُثَبَّتَةَ فوقَ آلية قلبِك ليستْ أداةً للبرمجةِ، بل إنها في الحقيقةِ منظومةٌ للإمداد بالواقع. إنَّ كلَّ المُحَفِّزَاتِ الحسيَّةِ التي يستقبلُها جهازُكَ العصبيّ المركزيّ تنبثقُ مِن هذه الوحدةِ؛ لذلك فإنَّ أيَّ عبثٍ بها سيكونُ عملًا ذا عواقبَ وخيمةٍ تُحيقُ بِهِ المخاطرُ، إنْ لم يكن مُهْلِكًا.” ثُمَّ استطردَ الحاسوبُ قائلًا “لقد تبيَّنَ أنك لا تُضْمِرُ بداخلك دائرةً كهربائيةَ للبرمجة. لقد تمَّ الردُّ على استعلامك. طاب يومك.” وسرعان ما أَدْمَسَتْ شاشة الهاتف.
بينما لم يزلْ بول واقفًا عاريًا أمامَ شاشةِ الهاتف، تحسَّسَ أسطوانةَ الشريطِ مرةً أخرى بحذرٍ هائلٍ واحترازٍ مدروسٍ. “إنني أفهم الآن. اعتملتْ في نفسِهِ فكرةٌ جامحةٌ ” أحقًّا أفهمُ؟ هذه الوحدةُ-“
“لو قُمت بقطعِ الشريط، فإنَّ عالمي سيزول. سيستمرُ الواقعُ بالنسبةِ للآخرين ولكن بالنسبة لي لن يستمر؛ لأنَّ واقعي، عالمي بأسره، يَجِيئُنِي مِنْ هذه الوحدةِ الضئيلةِ. حينما لَفَّةٌ مِنَ الشريطِ في بطءٍ حلزونيٍّ، فإنَّ الماسحَ الضوئيَّ يقتاتُ عليها ويبعثُها واقعًا لجهازي العصبي المركزي. لقد كان واقعي شريطًا تنحلُّ لفَّاتُهُ طوال الأعوامِ الماضيَّة.”
ارتدى ثيابَهُ وجلسَ على كرسيه ذي المسندَيْنِ، كرسيه الوثير الذي جُلِبَ إلى شقَّتِهِ مِن المكاتبِ الرئيسةِ لشركةِ تراي-بلان، ثُمَّ أشعلَ سيجارةَ تبغٍ. ارتعشتْ يَدُهُ وهو يضعُ القدَّاحةَ الممهورةَ باسمِهِ جانبًا، وبينما هو مُتَّكِئٌ إلى الخلفِ نَفَثَ دُخْان سيجارتِهِ خالقًا غيمةً صفيقةً رماديَّةَ اللونِ.
قال لنفسِهِ: لِزَامًا عليَّ أنْ أَتَمَهَّلَ فيما أنا مُقْدِمٌ عليه. ماذا أحاول أنْ أفعل؟ أنْ أتجاوزَ برمجتي؟ لكنَّ الحاسوب لم يعثرْ على دائرةٍ للبرمجةِ بداخلي. هل أرغبُ حقًّا في التَّلاعُبِ بشريطِ الواقع؟ إن كانتْ هذه رغبتي، فلِمَ أشرعُ في إنفاذها؟
إذا تمكَّنت مِن التحكُّمِ في شريطِ الواقع، فإنَّني سأتحكَّمُ في الواقع، على الأقلِّ، يُمكنني أنْ أسيطرَ على الواقع الذي أكترثُ له: واقعي الذَّاتيّ، وهذا كلُّ ما في الأمرِ. إنَّ الواقعَ الذَّاتيّ ما هو إلَّا بنيةٌ اصطناعيَّةٌ تتعاملُ مع تعميماتٍ افتراضيَّةٍ لعددٍ وافرٍ مِن الوقائعِ الذَّاتيَّةِ.
إنَّ عالمي يرقدُ بين أصابعي، سأُقَلِّبُهُ كيفَ أشاءُ، إذا تمكَّنت فقط من اكتشافِ الكيفيَّة التي يعملُ بها هذا الشيءُ اللعين. في بدء الأمرِ كنتُ عازمًا على البحثِ عن دائرةِ البرمجة الخاصَّةِ بي وساعيًا إلى تحديد موضعها، كي أستطيعَ أنْ أكتسب فاعليَّةً مستقرةً حقيقةً: السيطرة على نفسي، ولكنْ بواسطة هذا-بواسطةِ هذا، لم أكتسب السيطرةَ على نفسِي فحسب، بل اكتسبت السيطرةَ على كُلِّ شيءٍ. هذا ما يجعلني فريدًا ومُميَّزًا عن جميعِ البشرِ الذين عاشوا وماتوا. هكذا فكَّرَ بول وهو كاسفُ البالِ مُشَبَّعٌ بالوَحْشَةِ.
التقطَ الهاتفَ مجدَّدًا، واتَّصل بمكتبِهِ. وعندما برزَ وجهُ دانسمان على الشَّاشةِ، أخبرَهُ على عَجَلةٍ بنبرةٍ مُتَحَمِّسةٍ “أريدُ منك أنْ ترسلَ إلى شقتي مجموعةً كاملةً مِن الأدواتِ الدقيقةِ وشاشةَ تكبيرٍ؛ إذ يَجِب عليَّ العملُ على مجموعةٍ مِن الدَّوائرِ الكهربائيَّةِ الدَّقيقة.” ثم أنهى المكالمة زاهدًا في أدنى مناقشةٍ لطلبِهِ.
سَمَعَ صوتَ قرعٍ على الباب بعدَ مُضِيِّ نصفِ ساعةٍ، وعندما فَتَحَ البابَ وَجَدَ نفسَهُ في مواجهةِ أحدِ رؤساءِ العُمَّال بالمصنع يُبْهِظُهُ حِمْلٌ ثقيلٌ مِن مختلفِ أنواعِ الأدواتِ الدقيقةِ. قال رئيس العُمَّال وهو يَدْلِفُ إلى الشقةِ “إنَّك يا سيدي لم تُحَدِّدْ ما ترغب فيه بالضَّبْطِ؛ لذا كلَّفني السيد دانسمان بإحضارِ كلَّ شيءٍ.”
“أين نظام عدسةِ التكبيرِ؟”
“في الأسفل، على سطحِ الشاحنةِ.”
فَكَّرَ بول “لرُبَّما ما أرغب فيه هو الموت.” أشعلَ سيجارةً وظلَّ واقفًا يُدخِّنُ ويترقَّبُ، بينما رئيس العُمَّال يَجُرُّ إلى شقتِهِ بمشقةٍ بالغةٍ شاشةَ التكبيرِ الثقيلةَ مصحوبةً بِمُزَوِّدِ الطاقةِ ولوحةِ التحكُّمِ. ارتجفَ بول قائلًا لنفسِهِ “ما أقومُ بِهِ هنا، ما هو إلا انتحارٌ.”
قال رئيس العُمَّال وهو ينهضُ على قدمَيْهِ متنفسًا الصُّعَدَاء بعدَ أن تحرَّرَ مِن عبءِ نظامِ عدسة التكبير “أهناكَ ما يُزعجُكَ يا سيد بول؟ لا بُدَّ أنَّك ما زلتَ مُضَعْضَعَ الأوصالِ مُستَنْزَفَ القُدرةِ عقبَ الحادثةِ التي تعرَّضتَ لها.” قال له بول في هدوءٍ “نعم.” ووقفَ ينتظرُ على أحرِّ من الجمرِ مغادرةَ رئيسِ العُمَّالِ.
اتَّخذَ الشريطُ البلاستيكيُّ شكلًا جديدًا تحتَ نظامِ عدسةِ التكبيرِ: مسارٌ عريضٌ أثخنتْهُ مئاتُ الآلافِ مِنْ الثقوبِ. فكَّرَ بول “هذا ما كنتُ أظنُّهُ.” لم يتمّْ تسجيلُها كشحناتٍ كهربائيَّةٍ على طبقةِ أُكسيدِ الحديدِ، بل كانتْ حقًّا مُجَرَّدَ ثقوبٍ في شريطٍ خاملٍ فحسب.
تحت العدسةِ كان الشريطُ يتسَرَّبُ إلى الأمامِ بصورةٍ جَلِيَّةٍ. كان يحبو ببطءٍ لا نظيرَ له، لكنَّه كان يتحرَّكُ بالفعلِ في اتِّجاهِ الماسحِ الضوئيّ بسرعةٍ منتظمةٍ.
“إنَّ الطريقةَ التي أتصوَّر بها آليةِ عملِ هذه الوحدةِ هي أنَّ الثقوبَ تقابلُ بواباتٍ. لا بُدَّ أنها تعملُ بطريقةٍ شبيهةٍ بتلك التي تعملُ بها آلةُ البيانولَّا (البيانو الميكانيكيّ): مُصْمَتٌ يساوي لا، ثقبٌ يساوي نعم. لكن كيف يُمكنُني اختبار هذا التصوُّرِ؟ مِن الواضحِ أنَّهُ ما مِنْ سبيلٍ إلى اختبارِ فرضيَّتي إلَّا عن طريقِ رَدْمِ عددٍ من الثقوبِ.”
قامَ بقياس كميَّة الشريطِ المتبقيَّة على بَكَرةِ التَّوصيلِ. وبجهدٍ جهيدٍ حسبَ السُّرعةَ التي يتحرَّك بها الشريطُ، حتَّى توصَّل إلى رقمٍ تقريبيّ. إذا أحدثَ تغييرًا الآن في الشريطِ الظَّاهرِ عند حافةِ المدخلِ إلى الماسحِ الضوئيّ، فستنقضي مُدَّةٌ تتراوحُ بين خمسِ ساعاتٍ وسبعِ ساعاتٍ قبل أن تَحِينُ الفترةُ الزمنيَّةُ التي طالها التغييرُ، وسيكونُ في واقع الأمرِ يطمسُ المُحَفِّزَاتِ المُسْتَحَقَةَ الأداءِ في غضونِ ساعاتٍ مِن الآن.
مستخدمًا فرشاةً بالغةَ الدِّقَّةِ، مَسَحَ قِسْمًا كبيرًا نسبيًّا من الشريطِ بورنيشٍ مُعْتِمٍ، تَحصَّلَ عليه مِن طَقْمِ الإمداداتِ المُصَاحِبِ للأدوات الدقيقةِ. تأمَّلَ قائلًا “لقد طمستُ مقدارًا مِنَ المُحَفِّزَاتِ تُقاربُ مُدَّتُهُ نصفَ الساعةِ. لقد ردمتُ أَلفَ ثقبٍ على أقلِّ تقديرٍ.”
ستكون حدثًا شائقًا مشاهدةُ التغييرِ الذي سيطرأُ على محيطِهِ بعد ستّ ساعاتٍ من الآن، بافتراض حدوث أيّ تغيير أصلًا.
بعد خمس ساعاتٍ ونصف، كان بول يجلس في كاركترز وهي حانةٌ فَخْمَةٌ بمانهاتن، يحتسي الشراب وقد اتَّخذَ دانسمان نديمًا له.
قال دانسمان “إنَّك تبدو في حالةٍ مَعِيبَةٍ؟”
قال بول “أنا مَعِيبٌ.” انهى شرابَهُ الذي كان مزيجًا من السكوتش الحامض وطلب مِن فورِهِ كأسًا آخر.
“هل هذا بسببِ الحادثةِ؟”
“بصورةٍ ما، نعم.”
سأله دانسمان “هل هذا-نتيجة شيءٍ ما، اكتشفتَهُ عن نفسِك؟”
رفعَ بول رأسَهُ وصوَّبَ إليه نظرةً عبرَ الإضاءةِ الواهنةِ للحانةِ قائلًا “إذن، لقد كنتَ على عِلْمٍ بالأمرِ.”
قال دانسمان “نعم أعلمُ بالأمر، وأعلمُ أنَّهُ يتوَجَّبُ عليَّ أنْ أخاطبك ببول عِوضًا عن السيد بول، لكنني أُفَضِّلُ الأخيرَ وسأستمرُ على هذا النهجِ.”
سأله بول “منذ متى وأنتَ على عِلْمٍ بذلك؟”
“منذ أنْ توليتَ رئاسةَ الشركةِ. لقد تمَّ إبلاغي بأنَّ المالكين الحقيقيين لتراي-بلان الموجودين في نظام بروكس يرغبون في أنْ يتولَّى إدارةَ تراي-بلان نملةٌ كهربائيةٌ يكون بمقدورهم التحكُّمُ فيها كيفَ شاءوا. لقد تَوَخَّوْا أن يكونَ نابغًا قويًّا-“
“المالكون الحقيقيون؟” كانت هذه هي المرَّة الأولى التي يسمعُ فيها عن ذلك. “لدينا ألفانِ مِن المُسَاهِمِين المُتَفَرِّقِين في كُلِّ مكانٍ.”
“إنَّ مارفيس باي وزوجَها إرنان مِن نظام بروكس 4، يتحكَّمان في واحد وخمسين في المائةِ من الأسهمِ التي تَكْفُلُ لحامليها حقَّ التصويتِ، وهذه هي حقيقةُ الأمرِ منذ البدايةِ.”
“لِمَ لَمْ يُعْلِمُني أحدٌ بذلك؟”
“لقد تمَّ إبلاغي بألَّا أُطلعك على ذلك الأمر. فقد كان مِن الضَّروري أنْ تعتقد أنَّك وحدك المُقَرِّرُ لسياساتِ الشَّركةِ جميعها، وتحقَّقَ ذلك بما قدَّمته لك من يَدِ العَونِ، إذ كنتُ في الواقع أُغَذِّيك بما غَذَّياني بِهِ الزوجان باي.”
قال بول “إذن، ما أنا إلَّا رئيسٌ صوريٌّ.”
أجابَ دانسمان وهو يُومِئُ برأسِهِ “بصورةٍ ما، نعم. لكنك ستظلُّ دائمًا بالنسبةِ لي السيد بول.”
اختفى شطرٌ مِن الجدار البعيد وامَّحى معه عددٌ وافرٌ مِن الأشخاص الجالسين إلى الطاولاتِ المُتَاخِمَةِ له. و-
عبرَ الجانبِ الزجاجيِّ الرَّحيب للحانةِ كان أفقُ مدينة نيويورك يتلاشى أمامَ ناظريهِ ويَكُفُّ عن الوجودِ.
حالما رأى دانسمان تعبيراتِ وجهه، سأله “ما الأمرُ؟”
أخبره بول بصوتٍ أَجشَّ “اُنْظُرْ حولك، هل ترى أيَّ تغييرٍ؟”
أجابَ دانسمان بعد أن أجال النظرَ فيما حوله “لا، ما نوعُ التغييرِ الذي تقصده؟”
“أما زلتَ ترى أفقَ المدينةِ؟”
“بالطبعِ، أراه كما عَهِدْتُهُ مَكْسُوًّا بالضبابِ والدُّخْانِ والأضواء المتناثرة تومضُ-“
قال بول “الآن تيَّقنتُ مِنْ الأمرِ.” لقد كان صائبًا في تصوُّرِهِ، كُلُّ ثقبٍ تَمَّ سَدُّهُ نَجَمَ عنه اختفاءُ شيءٍ مِن واقِعِهِ. نهضَ واقفًا قال “سأراك فيما بَعْدُ، يا دانسمان. ينبغي لي أن أعودَ إلى شقتي؛ فهناك بعضُ الأعمال التي يجبُ عليّ إتمامُها. طابتْ ليلتُكَ.” ثُمَّ بادرَ إلى الخروجِ من الحانة إلى الشارع بخُطًى حثيثةٍ باحثًا عن سيارةِ أُجرة.
لم يَجِدْ هناك أيَّ سياراتٍ للأجرةِ.
فكَّر قائلًا في نفسِهِ “يبدو أنَّ سياراتِ الأجرةِ اختفتْ فيما اختفى، يساورني التساؤلُ عن الأشياءِ الأخرى التي مَحَوْتُها مِن الوجودِ بفرشاتي الدقيقةِ. العاهرات؟ الأزهار؟ السجون؟”
رأى مركبةَ دانسمان الطائرة في ساحة انتظار السيارات التابعة للحانة، فقرَّر أن يأخذها قائلًا في نفسِهِ “ما زالتْ هناك سياراتُ أجرة في واقع دانسمان وعالمه، بمقدورِهِ أن يركب إحداها فيما بعدُ. على أيِّ حالٍ فإنَّ مركبتَهُ تابعةٌ للشركةِ وفي حَوْزَتِي نُسْخَةٌ لمفتاحِها.”
كان بول حاليًّا يُحَلِّقُ في الهواء بالمركبةِ مُتَجِّهًا صوبَ شقتِهِ.
لم يَعُدْ لمدينة نيويورك وجودٌ. تلاشتْ المركباتُ والمباني والشوارعُ والمشاةُ والعدَّاؤون واللافتاتُ. على اليسارِ وعلى اليمين لم يَعُدْ هناك شيءٌ، وفي المركزِ استفحلَ الفَنَاءُ. سألَ بول نفسَهُ “كيف يُمكنني أنْ أُحَلِّقُ في سماءِ مدينةٍ يبتلعُها الزوالُ؟ قد أختفي معها، أحقًّا سأختفي؟” ثُمَّ حَلَّقَ نحوَ العدمِ.
إلى أين سيأخذه هذا الطريق؟ انتظرونا في الحلقة القادمة…
لقراءة الحلقة الأولى، اضغط على الرابط التالي:
هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 1.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد