هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. الحلقة الأخيرة.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
العنوان الأصليّ: النَّمْلَة الكهربائيَّة
تأليف: فيليب ك. ديك
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

الحلقة الأخيرة
ظلَّ يُحَلِّقُ دائرًا لمُدَّةِ خمس عشرة دقيقةً مُدَخِّنًا السيجارةَ تلوَ الأخرى، ثُمَّ خُلسةً عادتْ مدينةُ نيويورك للظهور مِن جديدٍ. صارَ في وسعه أن يُكْمِلَ رحلتَهُ. أخمدَ سيجارتَهُ ساحقًا عقبها في المنفضةِ (ممَّا يُعَدُّ إهدارًا لشيءٍ نفيسٍ) وانطلقَ بسرعةِ البرقِ في اتِّجاهِ شقتِهِ.
فكَّرَ بول وهو يفتح بابَ شقتِهِ “إذا أقحمتُ في الوحدةِ شريطًا نحيلًا مُعْتِمًا يخلو مِن الثقوبِ، فإنني سأتمكَّن مِن-” بُغتَةً انقطعَ حَبْلُ الفكرةِ، كان هناك شخصٌ يجلسُ على كرسي غرفةِ المعيشة ويشاهدُ مُسَلْسَلًا تِلفازيًّا للخيال العلمي. صاح في غيظٍ “سارة.”
نهضتْ سارةُ في رشاقةٍ على الرغمِ مِن بدانتِها قائلةً “لقد أتيتُ إلى هنا؛ لأنَّني لم أجدكَ في المستشفى، فما زال معي المفتاحُ الذي أَعْطَيْتَنِيهِ في شهرِ مارس بعد أن خُضْنَا في تلك المجادلةِ المُرَوِّعةِ. آهٍ… يبدو إنَّك مغمومٌ للغايةِ.” دَنَتْ مِنه وحدَّقتْ في وجهِهِ وملؤها القلقُ. “هل إصابتُك تؤلمُكَ إلى هذا الحدِّ الرَّهيب؟”
قال “ليس الأمرُ كما تَظُنِّي.” ثُمَّ نزعَ معطفه وربطةَ عنقِهِ وقيمصه ولوحةَ صدرِهِ، وبدأَ يُولِجُ يدَيْهِ –جاثيًا على رُكبتَيْهِ- في القُفَّازَيْن اللذين يتحكَّمان في الأدواتِ الدقيقة. تَوَقَّفَ بول هنيهةً وأشرفَ بعينيه إليها يتفرَّسُها قائلًا “لقد اكتشفتُ أنَّني نملةٌ كهربائيةٌ. وهأنذا أعملُ على استقصاءِ احتمالاتٍ مُحَدَّدةٍ تَوَلَّدتْ مِن رَحْمِ معرفتي بذلك.”
قبضَ أصابعه فتحرك على الفور مَفَكُّ المساميرِ المُلَوْلَبَةِ على الناحية القَصِيَّةِ مِن الوحدة اليُسرى للتحكُّمِ في الأدوات الدقيقةِ عَن بُعْدٍ، وكان هذا المشهدُ المِجْهَرِيُّ يتمُّ تضخيمُهُ عبرَ نظامِ عدساتِ التكبيرِ؛ كي يصيرَ مرئيًّا. أخبرها قائلًا “في وسعكِ أنْ تُشاهدي ما أفعلُ، إذا كنتِ ترغبينَ في هذا.”
أجهشتْ في البُّكاءِ.
سألها بنبرةٍ وحشيةٍ “ما الأمرُ؟” دون أن يصرفُ عينَيْهِ عمَّا يصنعُ لينظرَ إليها.
“إنَّني… إنَّهُ… أمرٌ يدعو للتعاسةِ. لقد كنتَ رئيسًا بالغَ الطيبةِ معنا جميعًا في تراي-بلان. إنَّنا نُكِنُّ لك وافرَ الاحترامِ ونُقَدِّرُكَ حقَّ التَّقديرِ، والآن تَغَيَّرَ كُلُّ شيءٍ.”
كان الشَّريطُ البلاستيكيُّ يمتلك في أعلاه وأدناه هامشَينِ غيرَ مثقوبَينِ؛ قطعَ بول شريحةً أُفقيَّةً بالغةَ الدِّقَّةِ، ثُمَّ في لحظةٍ مشحونةٍ بأقصى قدرٍ من التركيز قام بقطع الشريط البلاستيكيّ ذاتَهُ على بُعد أربع ساعاتٍ مِن مدخل الماسحِ الضوئيّ، ثُمَّ أدارَ الشريحةَ النحيلةَ التي قطعها لتصيرَ قطعةً بزاوية قائمةٍ بالنسبةِ للماسح الضوئي وألصقها في موضعها مستخدمًا عنصرَ تسخينٍ ذا حجمٍ مجهريٍّ، ثُمَّ أعادَ رَبْطَ البَّكْرَةِ بكلا جانبيها الأيسر والأيمن.
لقد أضافَ في الحقيقة عشرين دقيقةً مِن الفراغِ الميَّتِ إلى التيارِ المَدْحُوِّ لواقعِهِ، وسيبدأ أثرُ هذه الإضافةِ في الظهورِ وفَقًا لحساباتِهِ بعدَ منتصف الليل ببضعِ دقائق.
سألته سارةُ بنبرةٍ وَجِلَةٍ “هل تقومُ بإصلاح نفسك؟”
أجابها بول “إنَّني أُحرِّرُ نفسي.” بعيدًا عن هذا، كان لديه عِدَّةُ تعديلاتٍ تجول بذهنِهِ، ولكنَّهُ كان مضطرًا إلى اختبارِ نظريته أوَّلًا: إنَّ شريطًا فارغًا غيرَ مُثَقَّبٍ يعني عدم وجودِ محفزَّاتٍ، وفي هذه الحالةِ فإنَّ غيابَ الشريطِ…
قالت سارة ” ذلك التعبيرُ الذي يكسو وجهَكَ.” وبدأتْ في لملمةِ حقيبة يَدِها ومعطفها ومجلتها الصوتيَّة المصوَّرة المطويَّة. “سأغادرُ؛ فبمقدوري أن أستشفَّ حقيقةَ شعورِكَ إزاءَ وجودي هنا.”
ردَّ بول “اُمْكُثِي معي، سأشاهد معكِ مسلسل الخيال العلمي.” ثُمَّ ارتدى قميصه قائلًا “هل تتذكرين قبل سنواتٍ عندما كان هناك قنواتٌ تلفازيَّةٌ كثيرةٌ متاحةً، رُبَّما كان عددُها عشرين أو اثنين وعشرين، قبل أنْ تُغلقُ الحكومةُ القنواتِ المستقلَّة؟”
أومأتْ سارةُ برأسِها.
قال بول “ما الذي كان سيبدو الأمرُ عليهِ، لو أنَّ التلفازَ عَرَضَ كُلَّ القنواتِ عبر شاشةِ الأشعة الكاثوديَّةِ بصورةٍ متزامنةٍ؟ هل كان بمقدورنا أن نَتَبَيَّن أيَّ شيءٍ وسطَ المزيجِ التلفازيّ؟”
“لا أظنُّ ذلك.”
“رُبَّما يكون في وسعنا أنْ نتعلَّمَ فِعْلَ ذلك، أنْ نتعلَّم كيفَ نصيرُ اصطفائيِّين، أن نسمو بمُهِمَّتِنا الإدراكيَّةِ بأن نصطفي ما نَوَدُّ لحواسِنَا أنْ تُدْرِكُهُ وما نكرهُ لها أنْ تُدْركُهُ. تخيِّلي ما ينجمُ عن ذلك مِن إمكاناتٍ، لو كان في استطاعةِ أدمغتنا أن تتعامل مع عشرين صورةً في ذاتِ اللحظةِ، تخيَّلي كميةَ المعرفةِ التي سيكون في وسعنا تخزينها في غضونِ فترةٍ مُحَدَّدَةٍ. إنِّي أتساءلُ عمَّا إذا كان الدماغُ البشريُّ-” سكتَ بول لوهلةٍ، ثُمَّ استدركَ وهو يستبطنُ ذاتَهُ “إنَّ الدماغُ البشريّ غيرُ قادرٍ على ذلك، ولكنْ مِن الناحيةِ النظريَّة فإن دماغًا شبهَ عضويّ قد يكون بمقدورِه أن يفعل ذلك.”
سألته سارة “أتملكُ دماغًا شبهَ عضويّ؟”
أجابها بول “نعم.”
شاهدا الحلقةَ المُذاعةَ مِن مسلسل الخيال العلمي إلى نهايتها ثُمَّ ذهبا معًا إلى الفراش.
كان بول يجلسُ متكئًا على وسائدِهِ، يدخنُ مُسْتَغْرِقًا في التفكيرِ، وسارةُ بجانبِهِ تَتَمَلْمَلُ في رقدتِها قلقًا، متسائلةً عن السَّببِ وراءَ إحجامِهِ عن إطفاء الإضاءة.
الساعةُ الآن الحادية عشرة وخمسون دقيقة. سيقعُ الحَدَثُ الآن في أيِّ لحظةٍ.
قال “سارة أريدُ منكِ المساعدةَ، سيحدثُ لي شيءٌ غريبٌ في غضون دقائقَ قليلةٍ مِن الآن، لن يستمرَّ الأمرُ طويلًا، لكنني أَوَدُّ مِنكِ أن تراقبيني بإمعانٍ مِن كثبٍ. فلتُلاحظي ما إذا كنتُ سأُظهرُ أيُّ تغييراتٍ-” كان يُلَوِّحُ بيديه وهو يُكْمِلُ قائلًا “ما إذا كنتُ سأبدو مستغرقًا في النومِ، أو ما إذا كنتُ سأهذي في كلامي، أو-” أرادَ أن يقول: ما إذا كنتُ سأختفي، ولكنه أمسكَ عن القولِ.
“إنَّني لن أتسبَّبَ لكِ في أيِّ أذًى، لكنني أعتقدُ أنُّهُ مِن الأفضل أن تتزوَّدي بسلاحٍ. هل في حَوْزَتِكِ المسدسُ المقاوِمُ للسَّرقةِ؟”
” نعم، في حقيبتي.” لقد صارتْ سارةُ الآن يَقِظَةً بتمامِ جوارحِها، جالسةً في الفراش تُحَدِّقُ فيه بعينَيْنِ مُتْرَعَتَيْنِ بالرُّعبِ الوَبِيلِ وكَتِفَاها المُكْتَنِزَتَانِ تبدوانِ في إضاءةِ الغرفةِ سَفْعَاوَيْنِ نَمْشَاوِيْنِ. جَاءَها بول بمسدسٍ.
غَرَقَتِ الغرفةُ في بحرٍ غامرٍ مِن الجمودِ المُطْبِقِ، ثُمَّ استنزفَ الزَّوَالُ جميعَ الألوانِ، وتَقَلَّصَتِ الأشياءُ حتَّى امَّحَتْ كالدُّخْانِ في طرفةِ عينٍ وسطَ لُجَّةٍ من الظِّلَالِ. تَدَثَّرَ كُلُّ شيءٍ بالظلامِ بينما الأشياءُ التي بالغرفةِ تتمادى في اضمحلالها فتصيرُ أوهى فأوهى.
أدركَ بول أنَّ أواخِرَ محفزاتِه تُحْتَضَرُ.
شَخَصَ عينَيْهِ محاولًا أن يرى عبرَ أهدابِ جَفْنَيْهِ المَزْمُومَيْنِ، فلم يَلْمَحْ إلَّا سارةَ جالسةً على الفراش: شكلًا ثنائيّ الأبعادِ هناك مسنودًا كالدُّميةِ في جلستِهِ كي يذويَ ويتضاءلَ.
كانت زوابعُ مِن مادةٍ غَيرُ مُجَسَّمَةٍ، تُدَوِّمُ على غيرِ هُدًى في سُحبٍ لا تَنِي تتداعى، العناصرُ تتلاحمُ وتتهاوى ثُمَّ تتلاحمُ مرَّةً أخرى، ثُمَّ فجأةً تبدَّدَ الرَّمَقُ الأخيرُ للحرارةِ والطاقةِ والنورِ، وانكفأتِ الغرفةِ وانطبقتْ على نفسها كأنَّها قد صارتْ مُحَرَّمَةً على الواقع ومحظورةً على الوجودِ. في تلك اللحظة، حَلَّ ظلامٌ مُطْلَقٌ مَحَلَّ كَلِّ شيءٍ، فضاءٌ بلا غَوْرٍ مُشَبَّعٌ بجمودِ الموتِ وقساوةِ القبرِ وأَرْحَمُ ما فِيهِ صِبغةُ الليلِ.
بالإضافةِ إلى ذلك كان الصَّمتُ مُسْتَحْكِمًا، فلم تَصِل أدنى نأمةٍ إلى مسامعِ بول.
كابدَ مِن أجلِ أنْ يلمسَ شيئًا ما، لكنَّه لمْ يَعُدْ يملكُ ما يُمكِّنُهُ مِن الوصولِ إلى أيِّ شيءٍ؛ إذ كان وعيُهُ بجسدِهِ قد غادرَهُ في صُحْبَةِ كُلِّ شيءٍ في العالمِ. قد رَحَلَتْ يداهُ عنه، وحتَّى إن ظلَّتا معه فما مِن شيءٍ باقٍ لتَشْعُرَا بِهِ.
قالَ لنفسِهِ “ما زلتُ مُحِقًّا فيما يتعلَّقُ بالآليةِ التي يعملُ بها الشريطُ اللعين.” قالها مستخدمًا فمًا لا وجودَ لَهُ ليُبَلِّغَ رسالةً محجوبةً لا ظاهرَ لها.
سأل نفسَهُ “هل سينقضي هذا في غضونِ عَشْرِ دقائقَ؟ هل الصَّوابُ يُحالفُني في هذا أيضًا؟” وانتظرَ… لكنه أدركَ بصورةٍ بَدَهِيَّةٍ أنَّ إحساسَهُ بالزمنِ قد غادرَهُ في صُحْبَةِ كُلِّ شيءٍ آخرَ، أدركَ أنَّهُ “ليس في وسعي إلَّا الانتظارُ.” راجيًا ألَّا يطول بِهِ الانتظارُ.
“سأبدأ في إنشاءِ موسوعةٍ كي أُهَدِّئَ مِن رَوعي وأروِّضُ مِن وَجَلِي، سأحاولُ أنْ أضعَ قائمةً تشتملُ على كافةِ الأشياءِ التي تبدأُ بحرف الألف.” أمعنَ في التفكيرِ بتؤدةٍ. “ألف… أبل، أوتوموبيل، أكسترون، أتموسفير، أتلانتك، أيس كريم، إعلانات.” ظلَّ يُفَكِّرُ بلا تَوَقُّفٍ في أشياءَ يُضيفُها إلى قائمتِهِ بينما الفئاتُ المتشعِّبةُ منها تزحفُ كالأفاعي عبرَ عقلِهِ المسكونِ بالذُّعِرِ.
فجأةً باغتَهُ بصيصٌ من الضوءِ.
كان راقدًا على الأريكة في غرفةِ المعيشةِ وضوءُ الشمسِ الوَدِيعُ ينسكبُ الهُوَيْنَا عبرَ نافذتِها الوحيدةِ، وقد انكفأَ علَيْهِ رجلانِ كلاهما تَغُصُّ يَدَيْهِ بالأدواتِ، أدركَ أنهما مِن عُمَّالِ الصِّيانةِ وأنَّهما قد كانا عاكفَيْنِ على العنايةِ بِهِ. قال أحدهما “لقد استعادَ وعيَهُ.” ثُمَّ نهضَ وتراجع؛ كي تأخذ سارةُ الذاهلةُ مِن فرطِ القلقِ مكانَهَ على الأريكةِ.
قالتْ بنبرةٍ خَنَّاءَ وهي تتنفَّسُ بمشقَّةٍ في أُذنِ بول “حمدًا لله. لقد كان رُعْبِي لا حدَّ له؛ فقمتُ في النهاية بالاتِّصال بالسيد دانسمان بشأنِ-“
قاطعها بول بقسوةٍ “ماذا حدث؟ ابدأي من البدايةِ وبالله عليكِ تمهلي في الحديثِ؛ ليكونَ في وسعي أن أستوعب الأمرَ.”
تماسكتْ سارةُ قليلًا، فركتْ في صمتٍ أنفَها ثُمَّ اندفعت قائلةً في اهتياجٍ “لقد غِبتَ عن الوعي. لقد كنتَ مستلقيًا هناك كأنَّك ميَّتٌ، انتظرتُ حتَّى الساعة الثانية ونصف ولم يصدر عنك أدنى حركةٍ، فاتصلت بالسيد دانسمان مُوقِظَةً لَهُ للأسف، فاتَّصل بالمُخْتَصِّين بصيانةِ النملِ الكهربائيّ- أقصدُ، الذين يعتنونَ بالروبوتاتِ العضويَّةِ، ثُمَّ جاء هذان الرجلان قُرَابة الساعةِ الرابعةِ وخمسِ وأربعين دقيقة، ومنذ قدومهما وهما يعملانِ على مُدَاوَاتِك. الساعة الآن السادسة ورُبْع صباحًا، إنني أشعرُ بالبرد القارس وأحتاجُ إلى النومِ، أظنُّ أنني غيرُ قادرةٍ على الذهابِ إلى الشركةِ هذا اليوم، لا طاقةَ لي حقًّا بالذهابِ.” أعرضتْ عنه ولأنفاسها صوتٌ لا يفارقُهُ النَّخِيرُ، صوتٌ نَغَّصَ عليه لحظتِهِ.
قال أحدُ عُمَّال الصيانةِ ذوي الزيّ المُوَحَّد “لقد كنت تعبثُ بشريطِ الواقعِ الخاصِّ بك.”
ردَّ بول “نعم.” لِمَ قد أنكرُ ذلك؟ مِن البيِّنِ أنهما قد عثرا على الشريطِ الصلبِ الذي قُمتُ بإقحامِهِ. استطرد قائلًا “لَمْ يكنْ مِن المًتَوَقَّعِ أن أغيبَ عن وعيي كلّ هذه الفترةِ، إذ أنني أقحمتُ شريحةً مِن الشريطِ مُدَّتُها عَشْرُ دقائقَ فحسب.”
قالَ التِّقَنِيُّ مُفَسِّرًا لَهُ الأمر “لقد تسبَّبتْ هذه الشريحةُ المقحمةُ في إيقافِ حركةِ نَقْلِ الشريطِ ممَّا جعلَهُ لا يتقدَّمُ قيد شعرةٍ إلى الأمام. لقد انحشرَ الشريطُ نتيجةً للشريحةِ المقحمةِ؛ فحدثَ لَهُ توقُّفٌ تلقائيٌّ لحمايةِ الشريط من التمزُّقِ. لِمَ ترغبُ في العبث بالشريطِ؟ أَلَا تعرف ما قد ينجمُ عن عبثِك هذا؟”
قال بول “لستُ مُتَيَّقِنًا.”
“لكنك تملكُ فكرةً كافيةً عن الأمر.”
قال بول بحدَّةٍ “لهذا أفعلُ ما أفعلُهُ.”
ردَّ رجلُ الصيانةِ قائلًا “ها هي ذي فاتورةُ حسابِكَ: المبلغُ المطلوبُ منك تسديده يُقَدَّرُ بخمسِ وتسعين ورقةً نقديَّةً خضراءَ، والمبلغُ قابلٌ للدفع على أقساطٍ إنْ شئت ذلك.”
قال بول “لا مشكلةَ.” ثُمَّ جلس مُتَرنِّحًا وفَرَكَ عينَيْهِ بوجهٍ مُكْفَهِرٍ. كان رأسُهُ يؤلمُهُ ومَعِدَتُهُ ليس بها إلَّا رِيقُ الفراغِ.
قال التقنيُّ الرئيسُ “في المرَّةِ القادمة عليك أنْ تَسْحَج الشريطَ، بهذه الطريقةِ لن ينحشرَ ويتوقَّفَ. ألمْ تتكهَّنْ بأنَّ وحدةَ الواقعِ تشتملُ على صمامٍ للأمان؟ لذا فإنِّها ستتعطَّل عِوضًا عن-“
قاطعَهُ بول قائلًا بصوتٍ خفيضٍ يملؤه الحذرُ “ماذا يحدثُ إن لم يكنْ هناك شريطٌ يمرُّ تحتَ الماسحِ الضوئيّ؟ لا شريطَ- لا شيءَ على الإطلاقِ. هل ستشعُّ الخليةُ الضوئيَّةُ عاليًا دون معاوقةٍ كهربائيةٍ؟
اختلس التقنيَيْنِ نظراتٍ مُتَبَادَلَةً بينهما وقالَ أحدهما “حينئذ ستتخطى الدوائرُ العصبيَّةُ كافةَ الفجواتِ في قفزاتٍ مخبولةٍ ويحدثُ تماسٌّ كهربائيٌّ.”
سأل بول “ما معنى هذا؟”
“معناهُ نهايةُ الوحدةِ وختامُ الآليةِ.”
ردَّ بول “لقد فحصتُ الدائرةَ جيِّدًا ووجدتُها لا تحملُ مِن الجهدِ الكهربائيّ القدرَ الكافي لحدوث ذلك، لن ينصهرَ معدنُ القاطعِ نتيجةً تلك الأحمالِ الطفيفةِ من التيارِ الكهربائيّ، حتَّى إن كانت أطرافُ التوصيلِ في حالةِ تلامُسٍ. إنَّنا نتحدَّث عن تيارٍ تبلغُ قدرتُهُ جزءًا مِن المليون من الواط على طول قناةٍ من السيزيوم يبلغُ طولُها جزءًا مِن ستةَ عشرَ جزءًا من البوصةِ تقريبًا. فلنفترض أنَّ هناك مليارَ توليفةٍ مُمْكِنَةٍ تولَّدتْ في لحظةٍ واحدةٍ من ثقوبِ الشريطِ، لحظتئذ فإنَّ الناتجَ الإجماليّ للطاقةِ لن يكونَ تراكميًّا؛ إذ أنَّ شدَّةَ التيارِ تعتمدُ على خصائصِ البطاريةِ المُرَكَّبة بالوحدة، والقوةُ الدافعةُ لبطاريةِ هذه الوحدةِ ليست بالكبيرة، حتَّى في حالةِ فتحِ جميعِ البواباتِ وتَدَفُّق التيارِ عبرها.”
سأله أحدُ التقنيَّيْن وقد أسقمَهُ السَّأمُ “أتعتقدُ أنَّنا نكذبُ؟”
ردَّ بول “ولِمَ لا؟ إنَّني هنا أملكُ فرصةً عليَّ اغتنامها: أنْ أختبر كلَّ شيءٍ في آنٍ كي أسبرَ غورَ الكونِ وأفهمُهُ ككُلٍّ واحد، وأنْ أصبح على اتِّصالٍ بالواقعِ بأكملِهِ في كلِّ لحظةٍ. إنَّه شيءٌ فريدٌ ما مِن إنسانٍ يستطيعُ إنجازَهُ: نوتةٌ سيمفونيَّةٌ لا يَحِدُّها الزمنُ تَلِجُ عقلي، كلُّ نغماتِها تصدحُ وكلُّ آلاتِها تشدو في لحظةٍ واحدة بكُلِّ السيمفونيَّاتِ. هل تصوَّرتما الأمرَ؟”
ردَّ التقنيَّانِ بصوتٍ واحد “إنَّه شيءٌ سيدمِّرُك حتمًا.”
قال بول “لا أظنُّ ذلك.”
دخلت سارة قائلةً “سيد بول، هل ترغبُ في فنجانٍ مِن القهوة؟”
قال بول “نعم.” أنزلَ ساقَيْهِ عن الأريكةِ ووَطِئَ الأرضيَّةَ بقدمَيْهِ المقرورتَيْنِ؛ فألمَّتْ بِهِ رجفةٌ. نهضَ واقفًا فأحسَّ بالألمِ ينبجسُ مُتَفَرِّقًا مِن جميعِ أنحاءِ جسدِهِ، قالَ في نفسِهِ “لا بُدَّ أنهم تركوني مستلقيًا على الأريكة طوال الليلةِ الماضية، على العموم كان بمقدورهم أنْ يصنعوا أفضل مِن ذلك.”
كان جارسون بول يجلسُ إلى طاولةِ المطبخِ في الرُّكنِ القصيِّ مِن الغرفةِ يحتسي قهوتَهُ قُبَالةَ سارة، وكان التقنيَّانِ قد غادرا المنزلَ منذ فترة طويلة.
سألتْهُ سارة بنبرة يمتزجُ فيها الرَّجاءُ باليأسِ “إنَّك لن تحاولَ القيامَ بمزيدٍ مِن التجارِبِ على نفسِك، أليس كذلك؟”
قال بول بصوتٍ يبعثُ الرَّعدةِ في النفسِ “أريدُ أن أتحكَّم في الزمنِ، أن أعكسه.” استطرد في فكرتِهِ صامتًا: سأبترُ شريحةً مِن الشريطِ ثُمَّ ألصقها به مقلوبةً أعلاها أسفلها، بعدها ستنسابُ التَّسلسلاتُ السَّببيَّةُ في الاتِّجاهِ المعاكسِ، وبذلك سأمشي القهقرى: سأنزل من ساحةِ السَّطحِ مدبرًا على درجاتِ السُّلَمِ متجهًا نحو البابِ وأدفع الباب المغلق بظهري فينفتح، سأسيرُ إلى الخلفِ نحو الحوضِ الذي سأُخْرِجُ منه كَوْمَةً من الأطباقِ المُلَطَّخَةِ بالوَضَرِ وأجلسُ إلى الطاولة أمام كومةِ الأطباق وأملأُ كُلَّ طبقٍ بطعامٍ تنتجُهُ معدتي… وبعد ذلك سأنقلُ الطعامَ إلى الثَّلَّاجةِ، وفي اليوم التالي سأُخْرِجُ الطعامَ مِن الثلاجةِ وأقومُ بتَعْبِئَتِهِ في أكياسٍ وأحملُ الأكياسَ إلى السُّوقِ المركزيَّةِ وأُوَزِّعُ الطعامَ هنا وهناك في أنحاءِ المَتْجَرِ، وأخيرًا عند المنضدةِ الأماميَّةِ للمتجر سيدفعون لي مقابلَ الطعام ِنقودًا يسحبونها مِن درجِ خزنتهم. سيقومون بتعبئةِ طعامي مع أطعمةِ أخرى في صناديقَ بلاستيكيَّةٍ كبيرةٍ، ويتمُّ شَحْنُهُ خارجَ المدينةِ على متنِ سُفُنٍ إلى المزارعِ المائيةِ بالمحيطِ الأطلنطيّ، ويُعادُ مرَّةً أخرى إلى الأشجارِ والآجامِ أو يُرَدُّ إلى أجسادِ الحيواناتِ النافقةِ أو يُزَجُّ بِهِ في عُمْقِ التُّرْبَةِ. ولكن، عَلَامَ يُبَرْهِنُ كلُّ هذا؟ شريطٌ مصوَّرٌ يعملُ بشكلٍ عكسيٍّ… مِن خلالِهِ لن أعرفَ أكثرَ ممَّا أعرفُهُ الآن وليسَ بكافٍ لي. ما أريدُهُ هو أنْ أعرفَ الحقيقةَ القاطعةَ المُطْلَقَةَ للحظةٍ، بل للُحَيظةٍ لا تتجاوز جزءًا مِن المليون من الثانية، بعدها لا شيءَ أكترثُ له ولا شيءَ يدَّخرُ لي نفعًا ولا ضرًّا، لأنَّ كلَّ الأشياءِ ستصيرُ جَلِيَّةً، بلا حجابٍ يكتنفُها، بريئةً ممَّا يتطلَّبُ فهمًا أو رؤيةً.
قال لنفسِهِ: قد أحاول القيامَ بتغييرٍ آخر، قبلَ أنْ أشرعَ بقطع الشريط. سوف أستحدثُ ثقوبًا جديدةً في الشريطِ لأرى ما قد ينجمُ عن ذلك في واقعي، سيكون أمرًا شائقًا لأنني سأكون جاهلًا بما تُضْمِرُهُ الثقوبُ الجديدةُ مِن معنًى.
قام بإحداثِ عِدّة ثقوبٍ في الشريطِ بشكلٍ عشوائيٍّ مستخدمًا في ذلك أداةً دقيقةً ذاتَ طرفٍ مُرْهفٍ، وبقدر المُستطاعِ صنعَ الثقوبَ الجديدةَ على مقربةٍ مِن الماسح الضوئيّ، لأنَّهُ لم يَعُدْ راغبًا في الانتظارِ.
قال بول لسارة “أتساءلُ عمَّا إذا كنتِ سترَيْن ما هو آتٍ.” بقدرِ ما تَيَسَّرَ لَهُ مِن استقراءٍ كان على يقينٍ مِن أنَّها لن ترى. “رُبَّما يظهرُ شيءٌ ما.” استطرد قائلًا لها “أريدُ فقط أن أُنَبِّهُكِ إلى ذلك؛ لأنني لا أُريدُكِ أن تجزعي.”
“يا إلهي.” همستْ سارةُ بصوتٍ واهنٍ.
أنعمَ النظرَ في ساعةِ يَدِهِ. مضتْ دقيقةٌ واحدةٌ، ثُمَّ مضتْ الدقيقةُ الثَّانيةُ ثُمَّ الثالثةٌ، ثُمَّ-
ظهرَ في منتصفِ الغرفةِ سِرْبٌ مِن البَطِّ الأخضرِ والأسودِ. نعقَ البطُّ في سخطٍ صاخبٍ منطلقًا مِن الأرضيَّةِ. رفرفَ نحوَ السَّقفِ في كتلةٍ مرتجفةٍ مِن الريشِ والأجنحةِ مهتاجًا إلى حدِّ الجنونِ وقد ألهبتْهُ رغبةٌ عارمةٌ في الفِرَارِ.
صاحَ بول وقد ألمَّتْ به الدَّهشةُ “بطٌ، لقد صنعتُ ثقبًا لجمهرةٍ مِن البطِّ البريّ.”
والآن ظهرَ شيءٌ آخر، مَقْعَدٌ في حديقةٍ، يجلسُ عليه رجلٌ مُسِنٌّ يرتدي ثيابًا رَثَّةً، يتصفحُ جريدةً مهترئةً مُغَضَّنَةً. رفع الرجلُ ناظريه وحالما تبيَّنَ بمشقَّةٍ ملامحَ بول الباهتةَ، ابتسم ابتسامةً مُقْتَضَبَةً تَكْشِفُ عنِ أسنانٍ صناعيَّةٍ رديئة، ثُمَّ غضَّ بصرَهُ نحو جريدتِهِ المطويَّةِ ليستأنفَ القراءةَ.
سأل بول سارَّةَ “هل ترين الرجلَ والبطّ؟” في تلك اللحظة اختفى سِربُ البطِّ وتوارى مُتَشَرِّدُ الحديقةِ، لم يبقَ منهم شيءٌ ألبتَّة، لقد وَلَّى سريعًا الفاصلُ الزَّمَنيُّ للثقوبِ التي أتاحتْ لهم الوجودِ والظهورِ.
قالت سارَّةُ “لم يكونوا حقيقيّين، أليس كذلك؟ فكيف إذن تَمَكَّنتُ أنا مِن رؤيةِ.”
قاطعها بول قائلًا “أنتِ لستِ حقيقيَّة، إنَّكِ مجرَّدُ عاملٌ مُحَفِّزٌ في شريطِ الواقع الذي أحملُهُ في صدري، محضُ ثقبٍ في الشريطِ بمقدوري أنْ أطمسَهُ. هل لديكِ وجودٌ في شريطٍ للواقعِ آخرَ أو في واقعٍ موضوعيّ مستقلٍّ عن الأشرطةِ؟” لم يكنْ بول يعرفُ جوابًا شافيًا على سؤالِهِ هذا، وربما سارة لم تكنْ تعرفُ أيضًا. ربما يكونُ لها وجودٌ في أَلْفِ شريطٍ مِن أشرطةِ الواقعِ، ربما في كُلِّ شريطٍ مِن أشرطةِ الواقعِ تكون دومًا سارةُ موجودةً.
قال بول “إذا قطعتُ الشريطَ فستكونين في كلِّ مكانٍ ولن تكوني في أيِّ مكانٍ، مثلُ كلِّ شيءٍ آخرَ في الكون، حَسَبَ ما أُدْرِكُهُ على الأقلِّ.”
قالت سارةُ مُتَلَعْثِمَةً “أنا حقيقيَّةٌ.”
ردَّ بول “إنني أرغبُ في أنْ أعرفكِ تمامَ المعرفةِ، ولتحقيقِ ذلك ينبغي لي أن أقطعَ الشريطَ، فإن لم أقطعه الآن فسأفعل ذلك في وقتٍ لاحقٍ، فإنَّه أمرٌ مَحْتُومٌ أنْ أفعلَ ذلك في نهاية المطاف.” سأل بول نفسَهَ: لِمَ إذن أنتظرُ؟ فهناك دومًا احتمالٌ راجحٌ بأن يكونَ دانسمان قد قدَّم تقريرًا عني إلى مَنْ أنشأوني، وبذاك سيَحِثُّهم إلى اتِّخاذ كافة الخطواتِ اللازمة لاعتراض سبيلي وردعي عمّا أفعلُهُ؛ لأنني رُبَّما أُجازفُ بشيءٍ مِن ممتلكاتهم-بنفسي.
قالت سارَّةُ عابسةً وقد أسدلتِ الكآبةُ ظلالًا على وجهِهَا “لقد جعلتني أندمُ على أنني لم أذهبْ إلى المكتبِ بعد كُلُّ هذا.”
قال بول “اِذْهَبِي.”
“لا أريدُ أنْ أتركك وحيدًا.”
“سأكونُ بخير.”
“لا، لن تكونَ بخيرٍ. ستفصلُ تيارَ الحياةِ عن نفسِكَ أو ستفعل شيئًا شبيهًا بذلك، ستقتلُ نفسك لأنَّك اكتشفتَ أنَّك محضُ نملةٍ كهربائيَّةٍ ولستَ بإنسانٍ.
بادرها قائلًا “رُبما سأفعل. رُبما يكونُ في ما سأفعله جوهرُ الأمرِ يتجلَّى وقد تطهَّرَ مِن كلِّ كَدَرٍ وغُثَاءٍ.”
قالت سارَّةُ “ولا أستطيعُ أنْ أَصُدَّكَ عن فعلِ ذلك.”
“لا.” أومأَ بول مُصَادِقًا على ما قالتْ.
قالت سارَّةُ “لكنني سأمكثُ معك، حتَّي إذا كنتُ لا أستطيعُ ردعَك عمَّا تَوَدُّ فعلَهُ؛ لأنني لو غادرتُ وقتلتَ نفسَكَ فإنني سأظلُّ طوال حياتي أتساءلُ عمَّا كان سيحدثُ لو كنتُ بقيتُ ولم أَدَعْكَ وحيدًا. هل تُدرِكُ ما أقصدُهُ؟”
أومأَ برأسِهِ مجدَّدًا.
قالت سارةُ “اِمْضِ فيما أنتَ فَاعِلُهُ.
قامَ مُنْتَصِبًا على قدمَيْهِ قائلًا لسارَّةِ “ثِقِي في أنَّ ما سأقومُ بِهِ لن يُصِيبَني بأيِّ ألمٍ، على الرغم مِن أنَّهُ قد يبدو لكِ خلافَ ذلك، ولا تَغْفَلِي عن حقيقةِ أنَّ الروبوتاتِ العضويَّةَ تحوي داخلها الحدَّ الأدنى مِن دوائر الألمِ. إنني سوف أختبرُ ما لا نظيرَ لقسوتِهِ مِنْ-“
قاطعته سارةُ على الفورِ قائلةً “لا تخبرني بالمزيد، كفى بما قُلْتَ نذيرًا، اِفعلْ ما تَنْوِي فعلَهُ أو لا تفعلْ إنْ كنتَ لا تنوي.”
أدخلَ بول يدَيْهِ –بحركاتٍ مضطربةٍ رعناءَ تنُمُّ عن خوفِهِ- في القفازات المسؤولةِ عن التعاملِ مع الأدوات الدقيقةِ، مدَّ يدَهُ كي يلتقطَ أداةً بالغةَ الضآلةِ: شفرةً مشحوذةً للقطعِ. قال بول وهو يحدِّقُ خلال نظام عدساتِ التكبيرِ “سأقطع شريطًا مُثَبَّتًا في جوف صدري. هذا كلُّ ما في الأمرِ.” ارتجفتْ يدُهُ اليسرى فورَ رفعها لشفرةِ القطع. قال لنفسِهِ “إنني لن أستغرقَ إلَّا ثانيةً واحدةً كي أُنْجِزَ مُهِمَّتِي. سأنتهي مِن الأمرِ وسيكون لديَّ وقتٌ كافٍ كي أُعيدَ لَصْقَ الأطرافِ المقطوعةِ للشريطِ مجدَّدًا، في حالةِ أنْ تَبَدَّلَ رأيي، سيكونُ لديَّ بعدَ القطعِ نصفُ ساعةٍ على الأقلِّ.”
قَطَعَ الشَّريط.
همستْ سارةُ وهي تحملقُ فيه مرتعدةً من الخوفِ “لم يحدث شيءٌ.”
قال لها “ما زالَ لديَّ ثلاثون دقيقةً أو أربعون.” ثُمَّ عاد للجلوسِ إلى الطاولة حالما خَلَّصَ يدَيْهِ مِن سجنِ القفازاتِ. لقد لاحظ أنَّ صوتَهُ كان يرتجفُ، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ سارَّةَ قد انتبهتْ لذلك؛ فاستشاطَ سُخْطًا على نفسِهِ لمعرفتِهِ بأنَّهُ قد أفزعها.
قالَ بصورةٍ خرقاءَ “أنا آسف يا سارة.” وقد استحوذتْ عليهِ رغبةٌ قاهرةٌ في أنْ يعتذر إليها.
صاحَ بنبرةٍ مُتْرَعَةٍ بالفزعِ “ربما يتوَّجبُ عليكِ أن تغادري.” ونهضَ واقفًا مرَّةً أخرى، فعلتْ سارة مثله بسرعةِ رَدِّ الفعلِ كأنها تقومُ بمحاكاتِهِ: نهضتْ مُتْخَمَةً بالقلق وقد انتابَ قلبَها خفقانٌ قاسٍ. صاح مجدَّدًا “عُودِي إلى المكتب حيث ينبغي لك أن تكوني، حيث ينبغي لكلينا أن نكونَ.” ثُمَّ أخبرَ نفسِهِ صامتًا “سأُعيدُ لصقَ الأطرافِ المقطوعةِ للشريطِ، فقد صارَ التوترُ هائلًا عاتيًا لا أستطيعُ معه صبرًا.”
مدَّ يدَيْهِ نحوَ القفازاتِ يَتَلَمَّسُهَا ليُقْحِمَ فيها أصابعَهَ المُنْهَكَةَ.
حدَّقَ في الشاشةِ المُكَبِّرةِ فرأى شعاعًا من الوميضِ الكهرضوئيّ ينطلقُ إلى الأعلى مُتَّجهًا مباشرةً إلى الماسحِ الضوئيّ وفي ذاتِ اللحظةِ رأي نهايةَ الشريطِ تتوارى تحت الماسحِ الضوئيّ… وحالما رأى ذلك أيقنَ أنَّ الأمرَ قد حُسِمَ، ولا سبيلَ إلى تَدَارُكِهِ مِنْهُ بعدَ فواتِ الأوانِ.
قال في نفسِهِ “لقد اجتازَ الشريطُ سريعًا كلَّ المسافةِ الزمنيَّةِ المتبقيةِ حتَّى بلغتْ نهايتُهُ الماسحَ الضوئيّ. لقد باغتني الشريطُ بدوارنٍ تفوقُ سرعتُهُ السرعةَ التي قَدَّرْتُهَا. إذن فقد أزفتِ الآزفةُ وداهمتني اللحظةُ التي فيها-
لقد رأى التفاحَ والحَصَى والحُمُر الوحشيَّةِ، وأحسَّ بالدفءِ وبالملمسِ الحريريِّ للثيابِ، وشعرَ بالمُحيطِ المتلاطمِ الأمواجِ يُجَابِهُهُ وبريحٍ صَرْصَرٍ قادمةٍ من الشمالِ تجتثُهُ مِن موضعِهِ كأنَّها تقتادُهُ إلى مكانٍ ما. وفي كُلِّ مكان كان بِرُفْقَتِهِ سارةُ وكذلك دانسمان. كانت نيويورك تتلألأُ في الظلامِ، والمركباتُ تهرعُ مِن حولَهُ، تتواثبُ في سماواتٍ يتعاقبُ عليها الليلُ والنهارُ وتتقافزُ فوق أراضٍ يتوالى عليها الطوفانُ والقَحْطُ.
لانتِ الزُّبدةُ على لسانِهِ وذابتْ وفي ذاتِ اللحظةِ اجتاحتْهُ روائحُ كريهةٌ وطُعُومٌ مُنَفِّرةٌ: الحضورُ اللاذعُ المُشَبَّعُ بالمرارةِ لسمومٍ وليمونٍ ونصالِ عُشْبٍ صيفيِّ.
لقد غرقَ وتَرَدَّى، مستلقيًا بين ذراعيْ امرأةٍ في فِرَاشٍ رحيبٍ أبيضَ، وفي ذاتِ اللحظةِ أثْخَنَ الفِرَاشُ مسامِعَهُ بصريرٍ حَادٍّ يُصِمُّ الآذان: الضجيجُ المُنْذِرُ لمَصْعَدٍ مُعَاقٍ سقيمٍ في أحدِ الفنادقِ العتيقةِ المُهَدَّمَةِ بوسط المدينةِ.
قال لنفسِهِ صامتًا “إنني أعيش، لقد عِشْتُ، ولن أعيشَ أبدًا.” اصطحبتْ أفكارُهُ كلَّ كلمةٍ وكلَّ صوتٍ؛ حشراتٌ تبعثُ صَرِيفًا هادرًا وتركضُ في سباقٍ محمومٍ، لقد غاصَ نصفُهُ في الجسدِ المُعَقَّدِ للآليَّةِ الراسخةِ في استقرارها والقائمةِ في موضعٍ ما مِن مختبراتِ شركة تراي-بلان.
أرادَ أنْ يقولَ شيئًا لسارَّةِ، فاغرًا فمه حاول جاهدًا أنْ يَتَمَخَّضَ عن كلماتٍ- أنْ يصطفي منها سلسلةً محدَّدةً يَسْتَلُّها مِن وسطِ الجمهرةِ الهائلةِ للكلمات التي تُضيءُ بوهجها عقلَهُ وتحرقُهُ بلهيبِ معناها الجامعِ المانعِ في كمالِهِ.
احترقَ فَمُهُ فتساءل عن السببِ.
كانت سارَّةُ بنتون مصعوقةً وظهرُها لصيقُ الجدارِ. فتحتْ عينَيْها فرأتْ خيوطَ الدُّخانِ المُلْتَوِيَةَ تتصاعدُ من فمِ بول نصفِ المفتوح.
ثُمَّ سقطَ الروبوت العضويّ إلى الأرضِيَّةِ جاثيًا على مِرْفقَيْهِ وركبتَيْهِ، ثمَّ تمدَّدَ ببطءٍ على هيئةِ كومةٍ تالفةٍ مسحوقةٍ. علمتْ سارةُ دون أن تفحصَهُ أنَّ الشيءَ قد “مات.” مُشِيرةً إلى بول بكلمةِ الشيء.
قالتْ في نفسِها صامتةً “بول، هذا الشيءُ مسؤولٌ عمَّا آلَ إليه؛ فقد بادَ بما صنعتْ يداهُ. ما كانَ لَهُ أن يشعرَ بألمٍ، كما قال لي بنفسِهِ، أو على الأقلِّ، ما كانَ لَهُ أن يشعرَ بألمٍ عظيمٍ. على أيِّ حالٍ فالأمرُ قد قُضِيَ، لا رَادَّ لَهُ ولا مُعَقِّبَ.” قرَّرتْ سارةُ أنَّهُ مِن الأفضلِ أنْ تتصلَ بدانسمان وتبلغُهُ بما حدثَ. شقَّتْ طريقها عبرَ الغرفةِ إلى الهاتفِ وهي ما زالتْ ترتعدُ. التقطتْ الهاتفَ وطلبتْ رقمًا اِسْتَدْعَتْهُ مِن الذَّاكرةِ.
قالتْ في نفسها “هذا الشيءُ كان يعتقدُ أنني محضُ عاملٍ مُحَفِّزٍ في شريطِ واقعِهِ؛ لذلك تَوَهَّمَ أنني سأموتُ بموتِهِ، كمْ كان غريبًا. لِمَ تَخَيَّلَ ذلك؟ هذا الشيءُ لم يكنْ على صِلَةٍ بالعالَمِ الحقيقيّ قطُّ، بل عاشَ في عالَمٍ إلكترونيّ يَخُصُّهُ وحده. كمْ كان عجيبًا في شذوذِه.
قالتْ فورَ الاتصالِ بدائرةِ مكتبِ الشركةِ “سيد دانسمان، لقد هلكَ بول، لقد دمَّر نفسَهُ على َمْرأًى مني. مِن المُسْتَحْسَنِ أنْ تأتي.”
“إذن، فقد صرنا أخيرًا مُحرَّرَيْنِ مِن ذلك الشيءِ.”
“نعم، أليسَ هذا بأمرٍ جيِّدٍ؟”
قال دانسمان “سأرسل رجلَيْنِ مِن المصنعِ.” ونظر عبرَ شاشة الهاتفِ إلى ما يقبعُ خلفها فتبيَّنَ منظرَ بول ممدَّدًا بجوارِ طاولةِ المطبخ. ثُمَّ قال لها بنبرةٍ آمرةٍ “عليكِ أن تعودي إلى المنزل لتأخذي قسطًا مِن الراحةِ؛ فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ كُلَّ ما مَرَرْتِ مِن أحداثٍ شاقَّةٍ قد أَنْهَكَ قُوَاكِ وأَعْيَاكِ.”
قالت “نعم إنني مُجَهدةٌ إلى حدٍّ رهيبٍ، شكرًا لك يا سيد دانسمان.” أغلقتْ الهاتفَ وظلَّتْ واقفةً بلا هدفٍ ولا غايةٍ. ثُمَّ انتبهتْ إلى أمرٍ يحدثُ.
تَدَبَرتْ سارةُ الأمرَ قائلةً “ما بالُ يَدَيَّ؟ لِمَ صارَ بمقدوري أن أرى عبرَهما؟”
صارتْ جدرانُ الغرفةِ أيضًا مُبْهَمَةَ المعالمِ.
عادتْ سارةُ أدراجها إلى حيث كان الروبوت العضويّ يرقدُ ميِّتًا، ووقفتْ بجوارِهِ ذاهلةً لا تدري ما عليها أن تفعلَهُ. ظهرتْ السجَّادةُ عبرَ ساقَيْهَا ثُمَّ صارتْ السجَّادةُ باهتةً ومِن خلالها رأتْ سارةُ طبقاتٍ أعمقَ وأقصى مِن مادةٍ مُتَهَافِتَةٍ تنحلُّ وتتهاوى. فكَّرتْ سارَّةُ “ربما إذا تَمَكَّنْتُ مِن إعادةِ لَصْقِ الأطرافِ المقطوعةِ للشريطِ مجدَّدَا” لكنها كانت تَجْهَلُ كيفَ تصنع ذلك. لقد صارَ بول بالفعلِ يتلاشى أمامَ عينَيْها.
هبَّتْ ريحُ الصباحِ الباكرِ عليها، فلم تشعرْ بها. وقد بدأتْ الآن تفارقُ كُلَّ شعورٍ.
واصلتْ الرياحُ هبوبَها.
لقراءة الحلقات السابقة، اضغط على الروابط التالية:
هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 1.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
هَلْ قَلْبُ العَالَمِ بَيْنَ أَصَابِعِ نَمْلَةٍ.. حلقة 2.. قصة.. ترجمة: أنطونيوس نبيل
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد