أبقارٌ رأسماليَّةٌ.. قصة تأليف: ديمون نايت … ترجمة: أنطونيوس نبيل

أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

d8a7d986d8b7d988d986d98ad988d8b3-d986d8a8d98ad984-d8b4d8a7d8b9d8b1-d988d985d984d8add986 أبقارٌ رأسماليَّةٌ.. قصة تأليف: ديمون نايت ... ترجمة: أنطونيوس نبيل

أبقارٌ رأسماليَّةٌ

توقفت السيارةُ الفارهةُ البرَّاقةُ، مصحوبة بأزيزِ التوربينات ونَفْثَةٍ من الغبارِ.
كانت اللافتةُ التي يحملُها قائمٌ على جانب الطريق، مكتوبًا عليها: سَلَّاتٌ وتحفٌ. وبعدها بمسافةٍ، كانت هناك لافتةٌ أخرى، يحملُها مبنًى ريِّفيٌّ ذو واجهةٍ زجاجيَّةٍ، تُعْلِنُ: مطحنة بُن السَّيد كروفورد، فلتجَرِّبوا كعكنا. وخلفَ ذلك، بعيدًا عن الطريق، كان هناك مرعًى يشتملُ على حظيرةٍ وصومعةٍ.

جَلَسَ الكائنان الفضائيَّان بهدوءٍ يقرآنِ اللافتاتِ، كان لكليهما جلدٌ ثخينٌ وعيونٌ صفراءُ ضيِّقةٌ. كانا يرتديان بِذْلَتَيْنِ رماديَّتَيْنِ باهظتي الثَّمنِ، ولهما جسدانِ يبدوان بَشَرِيَّيْنِ على وجهِ التقريبِ، ولكنَّك لا يُمْكِنُكَ رؤيةُ ذقونهما؛ فقد غطَّى كُلٌّ منهما ذَقَنَهُ بلِفَاعٍ برتقاليِّ اللونِ.

هُرِعَتْ مارثا كروفورد من المنزلِ إلى حامل السَّلَّاتِ وهي تُجفِّفُ يَدَيْهَا في مِئْزَرِهَا. وفي أعقابِها جاء زوجها لويلين كروفورد، وهو لا يزالُ يلوكُ رقائقَ الذُّرة المُكْتَظَّةَ في فَمِهِ.
سألت مارثا بتَوترٍ “بِمَا تأمرُ يا سيدي- سيدتي.” واختلستْ النظرَ إلى زوجِها التماسًا للعَوْنِ، فرَبَّتَ على كتفِها. لم يسبقْ لهما مِنْ قبلُ أَنْ شاهدا كائنًا فضائيًّا على هذه الدَّرجةِ مِن القُرْبِ.

خرج أحدَ الفضائيَّيْنِ بِتُوَدَةٍ من السيارةِ حالما رأى الزوجَيْنِ كروفورد خلفَ رَفِّ البَيْعِ. كان هذا الشخصُ أو هذا الشيءُ يُدَخِّنَ سيجارًا محشورًا في ثقبٍ يخترقُ اللِّفَاعَ البرتقاليّ.

قالتْ السيدة كروفورد بعصبيَّةٍ “صباح الخير. أَتُرِيدَ سَلَّاتٍ أَمْ تُحَفًا؟” أشارَ الفضائيُّ بعينيه الصفراوين في رَصَانةٍ بينما سائرُ وجهِهِ لم يطرأ عليه أدنى تغييرٍ، أمَّا ذَقَنُهُ وفمُهُ فيحجبهما اللفاعُ، بافتراضِ أنَّ لهما وجودًا أصلًا.

البعضُ قال أنَّ الفضائيِّين ليس لهم ذقونٌ، والآخرون قالوا أنَّ الفضائيِّين يملكون عوضًا عن الذقون شيئًا شائهًا بَشِعًا لا أحدَ مِن البشر يُطيقُ رؤيتَهُ. وكان النَّاسُ قد أطلقوا عليهم اسمَ “الهيركيُّون” لأنهم أتَوا مِن مكانٍ يُسمَّى: هيركليس زيتا.

استرق الهيركيُّ نظرةً إلى السَّلَّاتِ والحُلِيِّ البَهْرَجِ الرَّخيصِ المُعَلَّقِ فوق رَفِّ البيع، ثُمَّ مَجَّ دُخْانَ سيجارَهُ وقال بصوتٍ غامضٍ ولكن يُمْكِنُ فَهمُهُ “ما هذا الشيءُ؟” مُشِيرًا إلى الأسفلِ بيدٍ وحيدةٍ ذاتِ جلدٍ جاسئٍ وثلاثةِ أصابعَ. قالتْ مارثا بصوتٍ ما زالَ يَحْتَدُّ إلى أَنْ صارَ صريرًا “أتقصدَ المَهْدَ المحمول الذي يعودُ إلى السُّكَّانِ الأصليِّين أم التقويمَ المصنوعَ يدويًّا مِن لحاءِ أشجارِ البتولا؟”
“لا، بل ذاك الشيء.” قالها الهيركيُّ مشيرًا إلى الأسفلِ مجدَّدًا. هذه المرة اشرأبَ الزوجان كروفورد فوق الرَّفِ ليريا بالضبطِ إلى ما يُشيرُ، فإذ بهما يَرْمُقَانِ شيئًا رماديًّا على شكلِ قُرْصٍ رَحْرَاحٍ مُلْقًى على الأرضِ.
تساءل لويلين مُرتابًا “ذاكَ؟”.
“نعم، ذاك الشيء.”
احمرَّتْ وجنتا لويلين استحياءً “لِمَ؟ ذاك مُجرَّدُ رَوْثِ بَقَرٍ، لا بُدَّ أنَّ بقرةً من مزرعةِ الماشية قد أفلتتْ من القطيع أَمْسِ، وأسقطتْ ذاك الشيءَ على غفلةٍ منِّي.
“كم ثمنُهُ؟”
حملق الزوجان كروفورد طويلًا في الفضائيّ عاجِزَيْنِ عن استيعابِ الأمر، إلى أَنْ سأله لويلين أخيرًا “كم ثمنُ ماذا؟”
زمجرَ الفضائيُّ حول سيجارِهِ قائلًا “كم ثمنُ روثِ البقرِ؟”
تبادل الزوجانِ النظراتِ. قالتْ مارثا بصوتٍ خفيضٍ “لم أسمع قَطُّ-” لكنَّ زوجَها عَجَّلَ بإسكاتِها ثُمَّ تَنَحْنَحَ “ماذا عن عَشَرةِ سِ-” وبدلًا من أَنْ يُتِمَّ كلمةَ سنتاتٍ استطرد قائلًا “حسنًا، لستُ أريدُ خداعَك، ماذا عن رُبْعِ دولارٍ؟”

أَخْرَجَ الفضائيُّ محفظةً كبيرةً للفَكَّةِ من النُّقود، وطرح رُبعَ دولارٍ على رَفِّ البيعِ وبنبرةٍ هامسةٍ تمتمَ بشيءٍ ما، لرفيقه الجالس في السيارة.

خرج الفضائيُّ الآخر من السيارة وقد جلبَ معه صندوقًا خزفيًّا على شكلِ مكعَّبٍ ومجرفةً ذاتَ مقبضٍ من الذهبِ، ثمَّ جَمَعَ (أو جمعتْ؛ فقد يكون ذكرًا أو أنثى أو محضَ شيءٍ) روثَ البقرةِ بعنايةٍ بالغةٍ مستخدمًا المجرفة، وأَوْدَعَهُ الصندوقَ.

ركب الفضائيَّان السيارةَ وانطلقا بعيدًا مصحوبين بِهَزِيمِ التوربينات وغيمةً مِنَ الرَّهَجٍ، راقب الزوجان رحيلَ الفضائيَّيْنِ، ثُمَّ تفرَّسا في العُمْلَةِ اللمَّاعةِ الراقدةِ على رفِّ البيعِ، فالتقطها لويلين وأخذَ يروزُهَا بِيَدِهِ، وبينما تتواثبُ العُمْلَةُ على راحةِ يدِهِ قالَ “عجبًا، يا لها مِن صفقةٍ.” وشرعَ في التَّبَسُّمِ.

غَصَّتِ الطُّرُقُ طيلة ذلك الأسبوع بالفضائيِّين في سياراتِهم الفارهةِ البرَّاقةِ. ذهبوا إلى كُلِّ مكانٍ ورأوا كُلَّ شيءٍ؛ إذ أنَّهم قد مهَّدوا طريقهم بالعملاتِ المعدنيَّةِ اللمَّاعة التي سُكَّتْ حَدِيثًا والعملاتِ الورقيَّةِ الجديدةِ التي لا طيَّةَ فيها.
كان هناك بعضٌ مِن الحديثِ يهاجمُ الحكومة لأنَّها أباحتْ لهم الدُّخول، ولكنَّ الفضائيِّين كانوا مَهَرَةً في مجالِ الأعمالِ ولم يُحْدِثُوا أيَّ مُشكلاتٍ. ادَّعَى بعضُهم أنَّهم سُيَّاحٌ والآخرون قالوا إنهم طَلَبَةٌ يدرسون علمَ الاجتماعِ وقد أتوا في رحلةٍ ميدانيَّةٍ.

ذهب لويلين كروفورد إلى المرعى المُجَاوِرِ وانتقى أربعَ رَوْثاتٍ ليعرضها بالقُربِ مِن حاملِ السَّلَّاتِ. وعندما طَلَبَ مِن أوَّلِ هيركيٌّ مَرَّ بِهِ دولارًا نظيرَ الرَّوْثَةِ الواحدةِ، كان طَلَبُهُ مُجَابًا بلا مساومةٍ.
تساءلتْ مارثا في انتحابٍ “ولكن، لِمَ يرغبونَ فيها؟”
“وأيُّ فَرْقٍ ستُحْدِثُهُ معرفتُنَا بالسَّببِ؟” سألها زوجُها، وأكملَ “ما الأمرُ إلا أنَّهم يرغبونَ فيها ونحنُ نُحضرها لهم- إن اتَّصَلَ إد ليسي مرَّةً أخرى مطالبًا بإيفاءِ قسط الرَّهن العقاري، فأبلغيه عنِّي ألا يقلق!” خلَّصَ لويلين رَفَّ البيعِ مما أَثْقَلَهُ مِن بضائعَ، وأتمَّ تنضيدَ السِّلَعِ الجديدةِ عليه، ورَفَعَ السعرَ إلى دولارَيْنِ، ثُمَّ إلى خمسةِ دولاراتٍ.
وفي اليوم التالي أَمَرَ بلافتةٍ جديدةٍ : رَوْثُ بَقَرٍ.

وبعد انقضاءِ عَامَيْنِ، في عَصْرِ أحدِ الأيامِ الخريفيَّة، اقتحم لويلين كروفورد غرفةَ المعيشة بخطوات حثيثةٍ ورمى بقبعته في ركنٍ منها ثُمَّ ارتمى على الكرسي بقوةٍ. ومِن فوق نظارتِه تفرَّس في الشيء الدائريّ الكبير، الذي ينمُّ طلاؤه على ذوقٍ رفيع، فقد طُلِيَ على شكلِ ثلاثِ حلقاتٍ متَّحِدَةِ المركزِ باللون الأزرق والبرتقاليّ والأصفر. ذاك الشيءُ المُثَبَّتُ فوق رَفِّ المدفئةِ يبدو للعين العادية كأنَّه تذكارُ نصرٍ مُسَطَّحٌ كروثةٍ وأصليٌّ لا يُقدَّرُ بثمنٍ، قطعةٌ متحفيَّةٌ، تنتمي لفنونِ كوكب الهيركيِّين، لكن الحقيقةَ أنَّ السيدة كروفورد، على غرارِ الكثير من السَّيداتِ المُبْدِعَاتِ في زمانِنَا الرَّاهِن، هي مَن رسمتْ ولوَّنتْ وثبَّتتْ ذاك الشيءَ بنفسها.

“ما الأمرُ يا لُو؟” سألته بِتَوَجُّسٍ. كان لديها الآن تصفيفةُ شعرٍ جديدةٍ وكانت ترتدي فستانًا على أحدث صيحاتِ الموضة، ولكنها بدتْ شاحبةً ومغمومة.
“الأمرُ!” غمغمَ لويلين. “إنَّ الرجلَ الهَرِمَ توماس محضُ أحمقَ لعينٍ، هذا كُلُّ ما في الأمرِ. أربعُمائةِ دولارٍ نظير الرأس الواحد! لم يَعُدْ مِن الممكن شراءُ بقرةٍ بثمنٍ مقبولٍ بعد الآن.”
“حسنًا يا لُو، ولكننا نملكُ بالفعلِ سبعةَ قُطْعَانٍ، أليس كذلك؟ و-“
“يجب علينا أن نملكَ المزيد لتلبية حاجات الطلبِ.” قال لويلين وهو يعتدلُ في جلستِهِ. “يا ربِّ، أعتقد أنَّ بمقدوركِ إدراك هذا. عندما يَصِلُ ثمنُ الرَّوْثَةِ الملكيَّةِ إلى خمسةِ عشْر دولارًا ولا يوجدُ ما يكفي منها لإشباع حاجات الجميع- وثمنُ الرَّوْثةِ الإمبراطوريَّةِ خمسمائة دولارٍ-إن كنت محظوظًا على نحو كافٍ-“
“مُدْهِشٌ أننا لم نفكرِّ في أنَّ رَوْثَ البقرِ، له هذا العددُ الوافرُ مِن الأنواعِ” قالتْ مارثا بنبرةٍ حالمةٍ. “الإمبراطورية-هل هي الحلزونيَّة التي لها زوجٌ من الثنايا؟”
غمغمَ لويلين مجلةً وهو يتناول مجلةً.
“يبدو أن المرءُ يُمكنه إلى حدٍّ ما-“
قاطعها قائلا “أن يُبدِّلَ نوعَ الروثةِ؟” وقد التمعتْ عيناه ببريقٍ عَطوف.
“لا يا مارثا، لقد جُرِّب هذا- لقد كنتُ أقرأُ عنه أمسِ ها هنا” ورفع الإصدار الحالي من مجلة تاجر الروث الأمريكيّ وشرعَ في تقليب صفحاته الصقيلةِ اللامعة.
” الروث للمبتدئين” قرأ بصوتٍ عالٍ. “تعلَّمْ كيفية الحفاظ على الروث. تربية الماشية: عملٌ إضافيٌّ مُرْبِح. لا، ها هي ذي هنا، إخفاق الروثات الزائفة. أنظري، تقول المقالة أنَّ أحدَ الأشخاصِ مِن مدينة أماريلو ظفرَ بروثةٍ إمبراطوريةٍ وصنعَ لها قالبًا من الجَصِّ، ثُمَّ استخدم القالبَ على قطعتَيْنِ كبيرتَيْنِ مِن سَقْطِ الروث فجاءتِ النتيجةُ مثاليَّة؛ فلم يكن من الممكن التمييز بين القطعتين الزائفتَينِ وبين الرَّوثة الإمبراطورية الأصليَّة، ولكن الهيركيِّين لم يقوموا بشرائهما، فقد فَطِنُوا إلى الأمر.”
رمى بالمجلة، ونظرَ عبر النافذة الخلفيَّة إلى الخارج مُحَدِّقًا نحو الحظائر.
“ها هو ذا الصبيُّ الأحمقُ لا يفعلُ شيئًا سوى الجلوسِ في الفناء مجدَّدًا. لِمَ لا يعملُ؟”
نهضَ لويلين وأدار القِدَدَ السَّاترةَ لكوةِ التهويةِ، وصاحَ مِن خلالها “أنتَ  يا ديلبرت!” وانتظر، ثُمَّ تمتمَ قائلًا “أحمقُ، وأصمُّ أيضًا.”
“سأذهبُ لأخبره أنَّكَ تُريد-” بدأت الجملة وهي تكافح لتنزع عنها مئزرها.
“لا، لا تشغلي بالَكِ بهذا، سأذهب بنفسي؛ فهؤلاء الأُجَرَاءُ لا بُدَّ مِن الإلحاحِ في حَثِّهم والمثابرة على متابعتِهم في كلِّ دقيقةٍ.” خرج لويلين من باب المطبخ ومشى عبر الفناء إلى حيث كان شابٌ مُفْرِطُ الطُّولِ يجلسُ على عربةٍ يدويَّةٍ لنقل البضائع ويأكلُ ببطءٍ تفاحةً.

d8a3d8a8d982d8a7d8b1-d8b1d8a3d8b3d985d8a7d984d98ad8a9-2 أبقارٌ رأسماليَّةٌ.. قصة تأليف: ديمون نايت ... ترجمة: أنطونيوس نبيل

“ديلبرت” قالها لويلين بنبرةٍ حانقةٍ.
“آه، مرحبًا يا سيِّد كروفورد” قالها الشابُ بابتسامةٍ عريضةٍ تُظْهِرُ أسنانَهُ المُفَلَّجَة. اِلْتَهَمَ قضمةً أخيرة من التفاحةِ ثُمَّ رمى بالقلبِ المُتَبَقِّي منها. تابعَ لويلين قلبَ التفاحةِ المُلْقَى وأخذ يتفرَّس فيه؛ إذ أنَّ قلوبَ التفاحاتِ التي يلتهمها ديلبرت كانت دومًا فريدةً في شكلِها ولا مثيلَ لها في العالم بأكمله، والفضلُ في فرادتها يعودُ إلى افتقارِ فمِ ديلبرت إلى القواطع (الأسنان الأمامية).

“لِمَ لا تنقلُ الروثات إلى منصةِ عرض البضائع؟” قالها لويلين بلهجةٍ آمرةٍ. “إنني لا أدفعُ لكَ، يا ديلبرت، أجرًا نظيرَ جلوسك هكذا على عربةٍ فارغةٍ.”
“لقد نقلت بعضها صباحًا” ردَّ الصبي. “ولكن فرانك أخبرني بأن أعود بها.”
“فرانك قال ماذا؟”
أومأ ديلبرت برأسه. “لقد أخبرني أنَّهُ لم يبع سوى قطعتَيْنِ. سَلْهُ، إن كنتَ تَظُنُّ أنِّي كاذبٌ.”
“سأسأله” غمغمَ لويلين. دارَ على عقبيه ومضى عائدًا عبر الفناء.

في الخارج على جانب الطريق، كان هناك سيارةٌ طويلةٌ مُصْطَفَّةٌ بجانب شاحنةٍ مُتَدَاعِيةٍ من نوع النصف نقلٍ، عند منصةِ بَيْعِ الرَّوْثِ. عندما شرعَ لويلين في الاقتراب منها ابتعدتْ، واقتربتْ سيَّارةٌ أخرى. وعندما كان لويلين يدونو مِن منصةِ البيع كان الفضائيُّ يعودُ للتَّو إلى سيارتِهِ ويقودُ مبتعدًا.

لم يبقَ إلا زبونٌ واحدٌ عند منصةِ البيعِ، مزارعٌ ذو شاربٍ يرتدي قميصًا منقوشًا بمربعاتٍ. وكان فرانك المُشرِف على البَّيْعِ متكئًا بأريحيَّةٍ على رّفِّ البيعِ، وخلفه لاحتْ أرففُ العرضِ مُكْتَظَّةً بالرَّوْثاتِ.
قالَ لويلين وهو يصطنعُ ابتهاجًا كَذوبًا “صباح الخير يا روجر، كيف حال العائلة؟ هل أبيعك روثةً جميلةً تليقُ بهذا الصباح الجميل؟”
“حسنًا، لا أعرفُ.” قال المزارع ذو الشارب وهو يَحُكُّ ذقنه. “زوجتي ترغبُ في تلك التي هناك-” أشارَ إلى روثةٍ كبيرةٍ متناسقةِ القَوَامِ تقعُ على الرَّفِّ الأوسطِ. “ولكن، السعر المطلوب-“
“صدِّقني يا روجر، إنَّك تُحْسِنُ صُنْعًا بشرائك، فهذا استثمارٌ يعودُ عليك بالرِّبْحِ الوفير” قالها لويلين بنبرةٍ جادَّةٍ. “فرانك، ما الذي اشتراه ذلك الهيركيُّ الأخير؟”
“لا شيءَ.” أجابه فرانك وطنينٌ من الموسيقى ينبعثُ مِن مِذياعٍ في جيب صدره بلا انقطاعٍ. “فقط التقطَ صورةً لمنصةِ البيعِ ثُمَّ قاد سيارته مبتعدًا.”
“حسنًا، ماذا عن الهيركيُّ الذي سبقَهُ-“
توقفتْ سيارةٌ فارهةٌ برَّاقةٌ خلفة مصحوبةً بهزيمِ التوربينات، فاستدار لويلين. كان في السيارة ثلاثةُ فضائيِّين يعتمرون قبعاتٍ مِن اللُّبَّادِ، مُزَيَّنَةً بأزرارٍ مُضْحِكَةٍ تَكَادُ تُغَطِّيها بأكملها، حاملينَ الأعلامَ المُثلثةَ الشَّكلِ لجامعة ييل. وكانت بِذْلَاتُهم الرَّماديةُ باهظةُ الثمنِ مُلَطَّخَةً بالنِّثارِ المُلَوَّنِ المعهودِ في الحفلاتِ.
خرجَ أحدهم من السيارةِ متوجهًا إلى منصةِ البيعِ وهو ينفثُ دُخْانَ سيجارِهِ عبرَ الثُّقْبِ الموجودِ في لِفاعِه البرتقاليّ.
“تفضَّل يا سيدي” قالها لويلين من فوره شَابِكًا أصابعَ يديه وهو ينحني قليلًا إلى الأمام. هل لكَ في روثةٍ جميلةٍ هذا الصباح؟”
تفرَّسَ الفضائيُّ في الأشياءِ الرماديَّةِ التي تَغُصُّ بها رفوفُ العرضِ. ثُمَّ ألمعَ ذاك الشخصُ أو الشيءُ بعينيه الصفراوين، وهو يُصْدِرُ صوتَ غرغرةٍ بالغَ الغرابةِ، وبعد لحظةٍ قرَّرَ لويلين أنَّ الغرغرةَ هي ضحكاتٌ يُطْلِقُها الفضائيّ.
“ما المُضْحِكُ في الأمر؟” سأله لويلين بحدَّةٍ وابتسامته تزولُ.
أجاب الفضائيُّ “لا شيءَ، إنني أضحكُ سعادةً، غدًا سأعود إلى الوطن-لقد انتهتْ رحلتنا الميدانيَّة. هل تُمانعُ في أنْ ألتقطَ صورةً؟” وبمخلبٍ أرجوانيٍّ واحدٍ رفعَ آلةً ضئيلةَ الحجمِ ذاتَ عدساتٍ.
“حسنًا، أعتقدُ أنَّ-” قال لويلين في حيرةٍ وارتباكٍ. “حسنًا، أتقولُ أنَّك عائدٌ إلى الوطن؟ هل تقصد أنكم جميعًا ستعودون إلى الوطن؟ ومتى سترجعون إلى الأرض؟”
قال الفضائيُّ “لن نرجع إلى الأرض مجدَّدًا.” ضغط زرَّ الكاميرا وانتزع منها الصوَّرةَ ليتفحَّصها مليًّا ثُمَّ غمغم وهو يُنْحِّيها جانبًا “إنَّنا ممتنون لهذه التَّجْرِبةِ الممتعةِ، وداعًا.” استدارَ الفضائيُّ وركبَ سيارتَهُ ليقودها مبتعدًا، مصحوبًا بغيمةٍ من الرَّهجِ.
قال فرانك “الأمر على هذه الحال طوال الصباح، لا يشترون شيئًا- بل يلتقطون صُوَرًا فحسب.”
أحسَّ لويلين بأن جسدَهُ آخذٌ في الارتجافِ. “هل تعتقدُ أنَّهُ قصدَ ما قالَهُ-هل جميعهم حقًّا سيرحلون؟”
أجابَ فرانك “المذياعُ قال هذا، وقد مَرَّ بي هذا الصباح إد كوون قادمًا من بلدة هورتونفيل وأخبرني أنَّهْ لم يبع رَوْثَةً واحدةً منذ الأوَّلِ من أمس.”
قالَ لويلين “حسنًا، إنني عاجزٌ عن استيعابِ الأمرِ، لا يُمْكِنهم أَنْ يغادروا جميعًا هكذا بكُلِّ بساطةٍ-” استبدَّتْ رعشةٌ قويَّةٌ بيديهِ، فأدخلهما في جيوبه، وقال للرجل ذي الشارب “أخبرني يا روجر، كم تريد أن تدفعَ الآن مقابل تلك الروثة؟”
“حسنًا-“
“إنَّها تساوي عَشَرةَ دولاتٍ، كما تعلم.” قالها لويلين، وهو يدنو منه، بنبرةٍ وقورةٍ. “إنَّها يا روجر روثةٌ من صفوةِ الروثِ.”
“أنا على علمٍ بذلك، لكن-“
“ما رأيُك في أن تدفع سبعةَ دولارتٍ وخمسين سنتًا؟”
“حسنًا، لا أعلم. بمقدوري أن أدفعَ، لِنَقُلْ، خمسةَ دولاراتٍ.”
قال لويلين “تمَّ البَّيْعُ. قُمْ يا فرانك بتغليفها له.”
بينما يُراقبُ الرجلَ ذا الشارب وهو يتَّجهُ إلى شاحنتِهِ النصفِ نقل حامِلًا غنيمتِهِ، قالَ هامِسًا “فرانك، قُمْ بعَمَلِ تخفيضاتٍ على كُلِّ الروثاتِ، ومهما تكن الأثمانُ التي في وسعك الحصول عليها من الزبائن بَخْسَةً، خُذْهَا بلا تردُّدٍ.”
كانت نكبةُ اليومِ المديدِ على وشكِ الانتهاء. وقفَ الزوجان كروفورد، متشابكي الأذرعِ، يراقبان آخرَ الحشدِ وهو يغادرُ منصةَ بَيعِ الرَّوثِ، وكان فرانك يقوم بمهام التنظيفِ، وديلبرت مُسْتَنِدًا على جانب منصة البيع يأكلُ تفاحةً.
قال لويلين وقد أَبَحَّ الحزنُ صوتِه “إنها نهايةُ العالَم يا مارثا.” أكملَ وقد ترقرقتْ الدموعُ في عينيه قائلًا “روثاتٌ من أجودِ الأنواع وأفخرها، يُباعُ الزوجُ منها بخمسةِ سنتاتٍ!”

اقتربتْ سيارةٌ طويلةٌ خفيضةُ السَّقفِ مِن منصةِ بيعِ الروث، مصحوبةً بهديرٍ صاخب، وقد أَغْشَى على الأبصارِ ضوءُ مصابيحها الأماميَّة وسطَ الظَّلامِ الحَالِكِ. كان داخل السَّيارةِ كائنان أخضران، يمتلكان قرونَ استشعارٍ مكسوةً بالرِّيشِ منتصبةً عبرَ ثقوبٍ في قبعاتهم الزرقاء ذات القمةِ المسطحةِ والحافةِ العريضة. خرج أحدهما من السيارة واقترب من منصبةِ البيعِ بحركةٍ مباغتةٍ غريبةٍ. فَغَرَ ديلبرت فمَهُ اندهاشًا فسقطَ قلبُ التفاحةِ التي يأكُلها أرضًا.

“أنَّهم السيربيُّونَ” قال فرانك وهو يحوَّل حرفَ السين إلى هسهسةٍ بينما ينحني فوق منصةِ البيع نحو لويلين. “لقد سمعتُ عنهم مِن المذياع، إنهم من مكانٍ يُدْعَى سيربينتس جاما، هكذا قِيلَ في المذياع.”
كان الكائن الأخضر يتفحَّصُ الأرفُفَ شبهَ الخاوية وكانت جفونُهُ الثَّخينةُ الخَشِنَةُ تنسابُ وامضةً عبرَ عيونِهِ السَّاطِعَةِ.

“هل تريد روثًا يا سيدي-سيدتي؟” سأله لويلين بقلقٍ. “لم يبقَ لديَّ كثيرٌ منها الآن، ولكن-“
قاطعه السيربيُّ بصوتٍ كالهسهسةِ سائلًا “ما هذا ؟” وبمخلبٍ واحدٍ أومأ إلى الأسفلِ.
نظر الزوجان كروفورد إلى موضع إشارته. كان السيربيُّ يُشيرُ إلى شيءٍ شائهٍ ذي عُقَدٍ ونتوءاتٍ مًلْقًى جوارَ حذاءِ ديلبرت.
“أتقصدُ ذاك الشيءَ المطروحَ هناك؟” سأله ديلبرت وقد دبَّتْ فيه الحياةُ إلى حدٍ ما. “ذاك قلبُ تفاحةٍ.” اختلسَ ديلبرت نظرةً إلى لويلين، وأخذَ بريقٌ من الذكاءِ يلوحُ في عينيه. “سيد كروفورد، إنني أُقدِّمُ استقالتي.” ثُمَّ استدارَ إلى الفضائيّ قائلًا “ذاك هو قلبُ تفاح ديلبرت سميث.”

كان لويلين مصعوقًا وجامِدًا كالحجرِ، وهو يُشاهدُ السيربيَّ يُخرجُ محفظتَهُ ويهرولُ نحو ديلبرت ويعطيه المالَ. أخرجَ ديلبرت تفاحةً أخرى، وأخذَ يُقَلِّصُها بقضماتِهِ في حماسٍ كي يُحوِّلَها إلى قلبِ تفاحةٍ.

“أنظرْ يا ديلبرت” قالها لويلين، وهو يخطو مبتعدًا عن مارثا، بصوتٍ أشبه بالصرير. تنحنحَ وأكملَ “يبدو أنَّ أمرًا جيدًا يحدث لك الآن. إن كنتَ ذكيًّا، فلن تتردَّد في استئجارِ منصةِ بيع الروث التي أملكُها.”
بفمٍ مملوءٍ بالتفاحِ تخرجُ منه الكلماتُ مطموسةُ الحروف قال ديلبرت “لا، يا سيد كروفورد. أعتقدُ أنني سأذهب إلى بيتَ عمِّي-فهو يملكُ بستانًا للفاكهة.”
كان السيربيُّ يَحُومُ على مقربةٍ منهما، يراقبُ قلبَ التفاحةِ وهو يُصْدِرُ صرخاتٍ قصيرةً متتابعةً تعبيرًا عن إعجابِهِ.
“يجب عليك أن تكونَ لَصِيقًا بمصدرِ إمدادك بالتفاح، كما تعلم” قالها لويلين وهو يهزُّ رأسه في وقارٍ.
مبهوتًا، أحسَّ لويلين بجذبةٍ قويةٍ في كُمِّه، نظرَ إلى أسفلَ، فإذ بالجاذب لكُمِّهِ هو إد ليسي المصرفيّ.

“أنظر يا لُو، لقد حاولتُ مرارًا التواصلَ معك على الهاتف طوال فترة ما بعد الظهيرة، ولكنك لم تُجِبْ مطلقًا على اتصالاتي. الأمرُ يَخُصُّ الرَّهن العقاري الذي بموجبه حصلتَ على تلك القروض…”

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات