أفلا يسعنا ما وسع رسول الله؟!… بقلم: أشرف قنديل

رد فعل علي ندوة قدمها صالون تفكير للباحث الازهري أ. عبد العاطي طلبة عن “علم الكلام وضرورة التجديد” كتب أ. أشرف قنديل هذا النص. نرفق تسجيل فيديو الندوة في نهاية المقال.

بقلم: أشرف قنديل

havt أفلا يسعنا ما وسع رسول الله؟!... بقلم: أشرف قنديل

       ربما يكون التعريف الأشهر لعلم الكلام هو ما عرفه به ابن خلدون في المقدمة حينما قال هو “علم يتضمّن الحجاج (الدفاع) عن العقائد الإيمانية بالأدلّة العقليّة والرّد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل الُسنة”. 

وفي هذا التعريف لعلم الكلام دفاع لا إثبات؛ فهو يحصر صراحة وظيفة الكلام في “الدفاع” عن عقائد السلف بالحجج العقلية ضدّ الخصوم “المبتدعين” بعد أخذها (تلقيها) مسلّمة وصحيحة كما وصلتنا من السلف، ولا مجال لأيّ إثبات أو تعليل عقليّ لأصول قد تتجاوز حدود العقل البشريّ كما دأب المتأخرون على ذلك. 

فتعريف ابن خلدون لعلم الكلام يتضمن نقدًا ضمنيًا لطريقة المتأخرين – ويمكن أن يمتد نقده هذا للمعاصرين- الذين لم يقفوا عند حدود الدفاع عن أصولاً في الدين، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة البرهنة العقليّة على ما يرونه أصولاً في الدين من وجهة نظرهم. 

ويرى ابن خلدون أن كل هذا نوع من التفلسف في الدين وخلطًا بين منهج المتكلّمين، الذي يكتفي بالتماس حجّة تعضد العقائد التي لا يجب أن يصحّحها العقل، وبين منهج الفلاسفة الذي يقدّم الدليل بعد ما لم يكن.

وعليه فإن ابن خلدون لا يرفض علم الكلام، بل يرفض طريقة المتأخرين فيما يمكن أن نطلق عليه “نطاق عمل” علم الكلام، فوظيفة علم الكلام عند ابن خلدون إذاً هي تقديم الدليل العقلي على صحة العقائد الإيمانية ردًا على الملحدين والمبتدعين حصراً، لا تأييدًا للعقائد بإطلاق، لأن العقائد عنده أمور مفروض صدقها، فهي وظيفة موجهة ضد أهل الإلحاد والبدع، أما “المؤمنون” فليسوا بحاجة إليه. 

ينكر ابن خلدون أن تكون وظيفة الكلام موجهة إلى التابعين لهذا الدين، مؤكدًا أن “التوحيد الذي هو محور البحث في علم الكلام من الأمور التي يستحيل أن يصل إليها العقل بالنظر والدليل، وهي عقيدة تتلقى بالأمر الإلهي، وأن مجرد توجيه علم الكلام للمؤمنين هو نوع من أنواع التكفير الضمني للمسلمين أو على الأقل بداية الطريق لتكفير المخالف حتماً.

وغني عن البيان الموقف السلبي لأئمة السلف من علم الكلام والمتكلمين سواء في القرون المفضلة كمالك والشافعي وأحمد ابن حنبل وغيرهم، أو بعدها. قال مالك: “مَن طلب الدين بالكلام تزندق” [ذم الكلام للهروي 874] وقال: “لو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الاحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل” [شرح السنة للبغوي 1 / 217].

وقال أبو طالب المكي: “كان مالكٌ أبعدَ الناسِ من مذاهب المتكلمين، وأشدهم نقضا للعراقيين” [المدارك للقاضي عياض 1 / 87].

وقال مالك: “الكلامُ في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم، والقدر، وكل ما أشبه ذلك” [جامع البيان لابن عبد البر 2 / 116].

 وقال الشافعي: “حُكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام”.

وقال أحمد ابن حنبل: “لا يفلح صاحب كلام أبداً”.

أما من المتأخرين فقد قال ابن أبي العز الحنفي (٧٩٢ هـ) في شرح العقيدة الطحاوية: “وإنما سمي هؤلاء: أهل الكلام، لأنهم لم يفيدوا علما لم يكن معروفا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد”.

Ibn_Khald%C5%ABn%2C_Sayr_mulhimah_min_al-Sharq_wa-al-Gharb أفلا يسعنا ما وسع رسول الله؟!... بقلم: أشرف قنديل

وقال ابن رجب الحنبلي (٧٩٥ هـ) في رسالته فضل علم السلف على علم الخلف: “وقد أنكر السلف على مقاتل بن سليمان قوله في رده على جهم بن صفوان بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه. ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره”!

أما سادس الخليفة الراشدين كما يُلقب وهو الخليفة المُهْتَدي بن الخليفة الواثِق (٢٥٦هـ) فيحكي لنا قصة مناظرة شهيرة كان شاهداً عليها في مجلس ابيه الخليفة الواثق بالله، دارت تلك المناظرة بين شيخ من أذرمة – وهي قرية من قرى نصيبين بالجزيرة الفراتية في الشام وهي داخل الحدود التركية حالياً – يُدعى أبي عبد الرحمن الأذَرْمي – وهو شيخ أبو داود والنسائي من أصحاب الكتب الستة في الحديث- وبين أحمد بن أبي دؤاد – قاضي القضاة ورأس المعتزلة زمن فتنة خلق القرآن – فيقول المُهتدي: (كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً، أحضرنا، فأقدم أحمد بن أبي دؤاد علينا شيخا من أذرمة كان قد إمتُحِن فلم يقل بخلق القرآن، فبُعث به إلى الخليفة الواثق مقيداً ليُقتل، فلما أُدخل الشيخ على الواثق 

قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، 

فقال الواثق: لا سلم الله عليك. 

فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) 

فقال ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!

فدعا الواثق الشيخ 

فقال ناظر ابن أبي دؤاد 

فقال يا أمير المؤمنين إنه يضعف عن المناظرة 

فغضب الواثق

وقال أيضعف عن مناظرتك أنت 

فقال يا أمير المؤمنين هون عليك فائذن لي في مناظرته فإن رأيت أن تحفظ علي وعليه 

قال افعل فقال الشيخ يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه – يقصد القول بخلق القرآن – أهي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملا حتى تقال فيه. 

قال نعم 

قال فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بُعث هل ستر شيئا مما أمره الله به من أمر دينه 

قال لا 

قال فدعا الأمة إلى مقالتك هذه؟

فسكت. فالتفت الشيخ إلى الواثق 

وقال يا أمير المؤمنين واحدة 

قال نعم واحدة. 

فقال الشيخ فأخبرني عن الله حين قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي هل كان الصادق في إكمال دينه أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال بمقالتك هذه 

فسكت. فقال أجب فلم يجب 

فقال يا أمير المؤمنين اثنتان. 

ثم قال يا أحمد أخبرني عن مقالتك أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا 

قال علمها قال فدعا الناس إليها 

فسكت. 

فقال يا أمير المؤمنين ثلاث 

ثم قال يا أحمد فاتسع لرسول الله أن يعلمها وأمسك عنها كما زعمت ولم يطالب أمته بها 

قال نعم 

واتسع ذلك لأبي بكر وعمر 

قال نعم 

فأعرض الشيخ وقال يا أمير المؤمنين قد قدمت أنه يضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما زعم هذا أنه اتسع للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا وسع الله عليك، 

فقال الواثق نعم اقطعوا قيد الشيخ 

فلما قطع ضرب بيده إلى القيد ليأخذه فجاذبه الحداد عليه 

فقال الواثق لم أخذته 

قال لأني نويت أن أوصي أن يجعل في كفني حتى أخاصم به هذا الظالم غدا 

وبكى فبكى الواثق وبكينا ثم سأله الواثق أن يجعله في حل 

فقال لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكونك من أهله 

فقال له أقم قبلنا فننتفع بك وتنتفع بنا 

قال إن ردك إياي إلى موضعي أنفع لك أصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك فقد خلفتهم على ذلك قال فتقبل منا صلة 

قال لا تحل لي أنا عنها غني).

وأخيراً أقول: أفلا يسعنا ما وسع رسول الله وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً؟ فإن لم يسعنا ما وسعهم، فلا وسع الله علينا.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات