نتاشا العبادي

تطور فكر عبد الجواد ياسين عبر أجزاء مشروعه

ويقول الدكتور أشرف منصور بعد أن قال ياسين بالمصدر الإلهي للوحي وبضرورة وجود لحظة افتراضية يبدأ عندها الدين قبل أن يختلط بالاجتماع ومفارقة له وينشأ عندها يقول: (أن مصدر هذا اللزوم الافتراضي هو الحدس العقلي)، إذن الحدس العقلي هو الوعي الأصلي بالألوهية وقد أنكر كانط إمكان الحدس العقلي ولم يعترف إلا بالحدس الحسي، يطرح الدكتور أشرف منصور سؤالا هل اختزل ياسين الإيمان إلى الحدس العقلي؟ فيجيب: ربما ! وإذا كان صحيحا فإن الاختزال أو الرد يتضمن اختزال أو رد الإيمان نفسه إلى ما يسمى بالحدس العقلي للإيمان، وهذا هو إدراك بسيط مباشر وهو ما يتوافق مع المذهب الربوبي الذي قام بنفس هذا الرد والاختزال فلم يعد الإيمان عاطفة بل سيكون في جوهره إدراك عقلي متميز مثل إدراك حي بن يقظان للألوهية بالعقل وحده دون رسالات ونبوات.

ويشير الدكتور أشرف منصور إلى توظيف ياسين لأطر معرفية كانت إلى حد قريب غريبة عن توظيفها في دراسة التراث الإسلامي. فنجد توظيفا للكانطية والسبينوزية والدوركايمية، وسوسيولوجيا الأديان وأنثربولوجيا الأديان. وكمثال على كانطية ياسين يقول: (إذ لا يكون الشيء في ذاته بعد دخوله الذات وخروجه منها هو الشيء ذاته بل هو الشيء من منظور الذات المدركة. هذا الدور الإيجابي للذات لا يعني خلافا لما يفهم عادة عن كانط أن إنكار وجود الشيء ذاته بل فقط تلوينه، أي تلوينه بفعل الاجتماع البشري). هنا يعدل ياسين من النموذج الكانطي في الصفحات الأولى من كتاب الدين والتدين. فقد أخرج ياسين الدين في ذاته من دائرة بحثه في كتاب الدين والتدين. وكان صريحا عندما قال: إن العقل التجريبي الاجتماعي (وهو يقصد دوركايم) -وهو يعمّم نتائجه على مفهوم البنية الدينية- انتهى إلى إنكار ما هو مطلق في الدين واعتباره في مجمله ظاهرة تاريخية من صنع الاجتماع.

ولكنه سوف يرجع عن هذا الموقف في كتابه اللاهوت، لأنه يدرس في هذا الكتاب المطلق الديني من منطلق صيرورة الحركة الاجتماعية باعتباره ظاهرة تاريخية، فيقول ياسين: (أن العقل العلمي ألحق الدين بالتدين)، ومن ثم كان عليه مواجهة سؤال الإيمان ويقول: (وهو سؤال لا تملك الأنثروبولوجيا الوصفية أدوات التعامل معه، فقط التفرقة بين الدين والتدين تساعد على تحصيل فهم أعمق للسؤالين الإشكالييين). 

يفصل ياسين في كتاب الدين والتدين بينهما كي يعالج التدين وحده من منطلق منهج التجريبية الاجتماعية والتي قد تقرأ الظاهرة في تاريخيتها، فيما لا يجوز الاكتفاء بذلك بخصوص الله والأخلاق الكلية بسبب الطبيعة الجوانية المركبة لفكرة الإيمان في ذاتها من جهة وبسبب مضمونها الثري والمفارق العصي على التجريب من جهة أخرى، ويرى الدكتور أشرف منصور أن ياسين سيرجع عن هذا الموقف في كتابه اللاهوت الذي يتناول تاريخية واجتماعية ظاهرة الدين المطلق نفسها وقد أضفى التاريخية والاجتماعية على الأديان الإبراهيمية التوحيدية ربما من منطلق ربوبي ولكن دائما ما يقارب ياسين موضوعاته من موقف الأعلى.

ويعتقد الدكتور أشرف منصور أن الموقف الأعلى الذي كان يتخذه ياسين دائما هو العقل الكلي المفطور في مواجهة الفقه والمنظومة الحديثية والفقه السياسي الإسلامي من جهة في السلطة في الإسلام، والله والأخلاق الكلية في الدين والتدين، والمفهوم العقلي المجرد والمنزه بالكامل عن الألوهية في كتاب اللاهوت.

ويلاحظ الدكتور أشرف منصور أشياء أخرى في كتاب السلطة في الإسلام. ربما تكشف عن تطور حدث في فكر ياسين أثناء مشروعه. فهو لا يعتبره تناقض ولكنه يعتبره تطور في إدراكه. فيقول ياسين في السلطة في الإسلام (إن النص حاضر قبل أن يبدأ التاريخ حركته النشطة باسم الإسلام بما في ذلك العملية التكوينية ذاتها). أي أن النص المؤسس موجود وهو مطلق وصادر عن المطلق قبل حركة التاريخ التي سوف تعمل على التغيير في تأويلاته وتوظيفاته. ولكن ياسين سيرجع عن هذا الرأي في الدين والتدين عندما يكشف عن دور التاريخ في تكوين النص المؤسس ذاته. ويقول ياسين في كتاب السلطة في الإسلام: (أنه قائم قبل الاحتكاك ومجهز له، إنه طليق عن الزمان والمكان لأنه بحكم ربانية مصدره قادم من خارج الزمان وبحكم طبيعة وظيفته مجهز للتمدد في الزمان)، ثم يقول: ( لقد تنزل النص ليعمل في الواقع الإنساني فهو لم ينتج في الحقيقة قبل الاحتكاك في الواقع).

ثم يعلق الدكتور شريف منصور بأن كل هذه الآراء التي نجدها في كتاب السلطة في الإسلام سوف يرجع عنها تماما في كتاب الدين والتدين، لماذا؟ لأنه كان حريصا في كتاب السلطة في الإسلام على عزل النص المؤسس نفسه عن التاريخية وعن الاجتماع كي يتناول المنظومة الفقهية أو التي يسميها الفقه فكرية -وهي من المصطلحات الطريفة والجميلة الخاصة بعبد الجواد ياسين- والمنظومة الحديثية، والفقه السياسي في الإسلام (الأدبيات السياسية في الإسلام) في كتابه السلطة في الإسلام فكان ينحي دائما النص المؤسس ويقول: (أنه مطلق وخارج التاريخ وخارج الاجتماع).

ويشير الدكتور أشرف منصور أن ياسين سيرجع عن هذا الرأي في كتاب الدين والتدين عندما يتعامل مع النص المؤسس نفسه باعتباره نتاج حركة الاجتماع ولكن في تشريعاته. ولذلك التحليل السوسيولوجي هنا في الدين والتدين يقتصر فقط على الأحكام والتشريعات القرآنية فقط، ويحتفظ بالنصوص التي تتحدث عن الألوهية في خانة المطلق المفارق للزمان والمكان. ولكن حتى هذه النصوص التي تتكلم عن المطلق الإلهي في النص المؤسس سيتطور تناولها من وجهة نظر سوسيولوجية باعتبارها أيضا نتاج الاجتماع وحركة التاريخ في كتابه اللاهوت. وهذا كله ليس تناقضات، ولكنه تطور في تفكير ياسين عبر أجزاء مشروعه.

العقل الكلي المفطور

ينتقل الدكتور أشرف منصور إلى المعيار أو المقياس أو الأساس الثابت الذي يجده في كتاب السلطة في الإسلام وهو ما يسميه ياسين العقل الكلي المفطور. فهو يميز بين العقل الكلي المفطور والفلسفة من حيث أن العقل منهج، وأما الفلسفة فهي رؤية، وفي نفس الوقت يرى ياسين أنه لا تعارض بين فلسفة أرسطو التي تمثل محاولة لكتابة ممارسة هذا العقل الكلي وتدوين الفكر ويقول ياسين: (كان المنطق البرهاني الأرسطي المستند أساساً إلى القياس الجامع يعمل داخل دائرة العقل الكلي المفطور، ومن هنا فنحن لا نتصور وجود الخصومة بينه وبين النص القطعي الصحيح من حيث أن الاثنين كليهما العقل الكلي المفطور والنص القطعي صادران عن مصدر واحد وهو الله).

ويرى الدكتور أشرف منصور أنه باعتباره دارس ابن رشد لمدة عشرين سنة، فيرى من هذا النص ملمحا رشديا خاصة عندما يقول ابن رشد: (الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له)، وياسين يقول: (أن العقل الكلي المفطور والنص القطعي صادران عن مصدر واحد وهو الله)، ويقول ابن رشد: (أن الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة)، والملفت أن ياسين يريد أن يتكلم عن البرهان الأرسطي الذي كان ابن رشد يريد التوفيق بينه وبين الشريعة الإسلامية. 

ويقول الدكتور أشرف منصور: لا أعلم هل الفقرة المفعمة بالرشدية مقصودة من قبل ياسين؟.

يتبع بالجزء الثالث والأخير ……..

لقراءة الجزء الأول اضغط الرابط التالي:
اجتماعيات السلطة والتشريع واللاهوت – تكامل أجزاء مشروع عبد الجواد ياسين 1 … كتبت: ناتاشا العبادي

• YouTube
• YouTube
• Telegram
• Facebook

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com