اجتماع مفكرون عرب مشرقيون … بقلم: جمال عمر

بقلم: جمال عمر
مؤسس صالون وأكاديمية تفكير

d8acd985d8a7d984-d981d8b1d8afd98a-d985d8a8d8aad8b3d985 اجتماع مفكرون عرب مشرقيون ... بقلم: جمال عمر

كنت أحاول أنا والدكتور هيكل عبور ميدان طلعت حرب، كانت الساعة قد تخطت الثانية عشرة ظهرا بعشر دقائق، قادمين من محطة مترو محمد نجيب، حاولت ألا أسرع الخطو رفقا برفيقي، الذي تصبب عرقا من المشي في يوم شتوي قاهري لطيف، مررنا بجوار عربات الشرطة وأفرادها الذين يتمركزون في الميدان، أمام مدخل مكتبة الشروق، لم ألتفت إن كانت مفتوحة أم لا، فربما هم مشغولون بمعرض كتاب القاهرة في الصحراء.

مررنا من أمام واجهة محل جروبي المغلق، لمدخل جانبي، كانت هناك سقالات منصوبة لكن كانت يافطة تشير إلى مدخل النادي اليوناني متخفية من بين السقالات. أشفقت على الدكتور هيكل صعود السلم للطابق العلوي، كان يرتدي جاكيت فاتح تحته “بلوڤر” صوف برقبة أسود، فهو يحاول أن يتفادى لبس قميص ورابطة عنق.

دخلنا من الباب القاهري القديم الطويل للنادي، لم يكن يجلس موظف النادي الذي كان موجود في المساء العام الماضي يأخذ رسوم دخول للنادي حين التقى صالون تفكير القاهرة خلال زيارة سابقة. كانت شجرة عيد الميلاد ما زالت منصوبة في الركن في نهاية يناير.

وجدتهم جالسين، الأستاذ عبد الجواد بچاكيت وقميص شتوي غامق عليه “بلوڤر” قرمزي، وعلى كتفه “تلفيحة” أفرنجي، وأمامه فنجان من القهوة، وعن يمينه د. محمد عيسى، بابتسامته الحنونة، بشعره الأبيض، بياض جميل، بچاكيت غامق وقميص، وأمامه كوب من عصير البرتقال. وفي مقابلهما من الناحية الثانية من الترابيزة الطويلة، يجلس د. وائل العظمة، يرتدي قميص أبيض وعليه “بلوڤر” أزرق وسترة شتوية خفيفة، بشاربه المهندم وابتسامته، وأمامه فنجان من القهوة، كان قد وصل عائدا من سوريا منذ عدة أيام، لحضور معرض كتاب القاهرة، وسيأخذ طائرة باكر غدا عائدا إلى بيته في ولاية أوهايو الأمريكية، وجلس بجواره د. هيكل، فلم يتبق لي سوى الجلوس على رأس الترابيزة لأكون قريب منهم جميعا. كنت ألبس فانلة بأكمام ولها “ياقة” سوداء وعليها سترة شتوية خفيفة زرقاء، وبنطالون من الچينز، فكنت بالتعبير المتداول “كاچول”، فكان عدم ارتدائي “چاكيت” تقريبا أول ملاحظة للأستاذ عبد الجواد.

d985d981d983d8b1d988d986-1 اجتماع مفكرون عرب مشرقيون ... بقلم: جمال عمر

كنت قد وصلت مصر منذ 72 ساعة، فتم ترتيب هذا اللقاء على عجل، قبل سفر د. العظمة، فقد شارك هو ود. عيسى ود. هيكل في الموسم الاحتفالي بسبعينية الأستاذ عبد الجواد منذ ثلاثة أشهر، وكان يهمني أن يتعرفوا على بعض. يفضل الاستاذ عبد الجواد، اللقاء في بيته، في شمال شرق القاهرة بعيدا عن ضوضاء وسط المدينة، بكرمه الحاتمي وفضل زوجته المضيافة، ولكنها كانت في سفر خارج البلاد، فكان اقتراحي عليه أن نلتقي في النادي اليوناني، ليكون اللقاء سهل على الجميع، ووافق على حذر.

نادى بصوت كله ترحيب وكله بالتعبير القاهري “چنتلة”: “مايكل”، ليحضر الجرسون أبيض عيونه زرقاء، يتكلم لهجة قاهرية فصيحة، لأطلب أنا ود. هيكل ماذا نشرب. شعرت أنه قد وصل مبكرا عن الموعد ليستكشف المكان وأنه عمل علاقة مودة مع مايكل. تلقى اتصال، وبعد أن رد، أخبرنا أن د. خزعل الماچدي في زيارة لمصر هو أيضا وأنه في الطريق لينضم إلى جلستنا.

نظر د. العظمة لي وقال بحميميته ما معناه لماذا لا يكون لنا تجمع وأنشطة ونلتقي في وقت معرض كتاب القاهرة كل عام كما نفعل الآن من خلال تفكير؟

حينما التقيت بالدكتور العظمة في نيويورك بعد أسابيع زار فيها والدته بسوريا في صيف 2024، سألْته عن انطباعه عن الأوضاع بها فكانت جملته لي أن النظام مُعرض أن يقع، وهو ما حدث بعد لقائنا ذاك بأشهر، وها نحن نلتقي في القاهرة بعد زيارة أخرى له لسوريا بعد سقوط نظام حافظ الأسد وابنه بعد أربعة وخمسين عاما.

كان الدكتور خزعل الماجدي قد انضم إلينا، وقد حضر إلى القاهرة من شمال أوروبا، دخل بعودهِ الفارع، وچاكيت أنيق ورابطة عنق، ومنديل في جيب الچاكيت يتناسق مع الكراڤات، فنادى الأستاذ عبد الجواد على مايكل، ليأخذ طلباتنا للغداء، كانت معظم الترابيزة تحاول أن تتفادى اللحوم.

جاء الحديث عن الأوضاع التي تحدث في سوريا، فكان اندفاع د. الماجدي، في توقع ما سيحدث هناك، على أساس تجربته هو فيما حدث في العراق منذ إسقاط نظام صدام حسين، وبروز التيارات الدينية والطائفية للمشهد، وكان رأي د. العظمة، أن الأمور قد تكون مختلفة وأن الأمر قد يحتاج إلى التريث فربما أوضاع سوريا لا تتطابق مع أوضاع العراق قبلها بعشرين عاما. وأخذ الماجدي في الثناء على مصر وأوضاعها وأنها الصخرة الأخيرة المتماسكة، في وجه التيارات الدينية والطائفية. كانت أطباق الطعام بدأت تنزل على المائدة.

كان د. محمد عيسى ود. هيكل كأزهريين من أجيال مختلفة، سعيدان باللقاء، وحريصين على تناول قضايا كثيرة ووضعها محل للنقاش، حتى أن د. هيكل بدأ يأخذ بعض الجمل يكتبها في ورقة معه. بل أن عيسى تمنى لو تم تسجيل الحوار، وأرشفة تلك اللحظة.

كانت دورة الدم في رجلي بدأت تضعف من الجلوس على كرسي عالي، ورغم محاولاتي أن أرفع رجلي طول الوقت، وكان قد قدم إلى مكان جلوسنا الإعلامي الأستاذ حسين عبد الغني، للسلام على د. هيكل الذي كتب بعض المقالات في موقعه الصحفي على النت، وكان معه المخرج خالد يوسف، الذي أتى هو الآخر للسلام علينا لكن أظنه لا يعرف أحدا من الحاضرين. استغليت هذه الفرصة لاقتراح أن نتمشى في وسط البلد، وأنني أريد الذهاب لمكتبة تنمية في شارع هدى شعراوي للسؤال عن كتاب جديد تم الإعلان عنه لدكتور علي مبروك عليه رحمة الله. أخذنا بعض الصور الجماعية لتكون ذكرى لهذا اللقاء الجميل وتحركنا.

ذهبت إلى مكتبة تنمية للسؤال عن كتاب علي مبروك الجديد الذي أعلنت عنه مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وكان ذهب البعض مع الأستاذ عبد الجواد للبحث عن محل نظارات لإصلاح عطب حصل في نظارته، في طريق عودتي أنا ود. هيكل من المكتبة لأننا لم نجد الكتاب قابلنا د. الماچدي، أنه ود. عيسى ود. وائل قد تركا الأستاذ عبد الجواد لأن مكان المحل سيكون بعيدا، وذكر أنه يريد أن نرى كتبه بمكتبة تنمية حيث يوزعون كتبه، فعدنا للمكتبة.

وفي رف في المنتصف أشار إلى كتاباته، كان د. هيكل ود. عيسى مهتمين جدا حتى طلب الجميع أن نأخذ صورة تذكارية معا ومع رف الكتب، وأتى أحمد موظف المكتبة ليأخذ لنا الصورة، وأعقبها بأن آخذ أنا صورة له مع د. الماجدي. وأشار الدكتور أن له مائة وعشرون كتابا منشورا، كانا الدكتورين منجذبين له وللكتب وحصل كل منهما على بعض الكتابات الغالية التكلفة والثمن، كنت أرد على مكالمة من الأستاذ عبد الجواد يسألني عن اسم الشارع الذي نحن فيه ليخبر سائق التاكسي عائدا من محل النظارات بعد أن أصلح النظارة، حين مال د. الماچدي علي وقال ما معناه “هو انت ليس لك في الكتب !!”. فملت عليه وقلت له “لا أبدا أنا بس بحب أقف مع الكتب وحدي وأتذوق على مهل”.

سرنا في شارع طلعت حرب، أو “جنة الجزم” كما وصفته زوجتي في زيارة لنا سابقة، كنا نتسكع كما وصف د. العظمة، الذي يتصور أني خبير في وسط البلد، وأنا تقريبا لا أعرف سوى قشور، فأنا لم أقم في القاهرة، بالإضافة أني أقيم في نيويورك إقامة دائمة منذ ثلاثة عقود، لكن كنت أحاول على قد معرفتي أن نقضي وقت ظريف معا.

غدا اليوم قبل الأخير لمعرض كتاب القاهرة، وأريد الحصول على بعض كتب الأصدقاء. كذلك أريد أن أزور مقر دار المرايا للنشر، التي أقامت معرض كتاب لها في مقرها، بعد منع هيئة الكتاب مشاركتها في معرض كتاب القاهرة الحكومي في أرض المعارض الجديدة. مساندة لهم. ولكي أحصل على كتاب صديقي د. فكري أندراوس المنشور بالدار بعد رفض بعض دور النشر من نشره: “التطور وتاريخ الأديان”. وكذلك الحصول على كتاب د. وليد الخشاب الجديد “قهقهة فوق النيل”. وكذلك المجلدين لتأليف جماعي عن حرب أكتوبر اللذين أصدرتهما الدار.

لو عرضت عليهم أن نذهب جميعا فقد أدفعهم بسيف الحياء لعمل شيء يخصني أو اتخاذ موقف أنا اخترته لنفسي. ولو تركتهم وذهبت وحدي، تصورت أن عقدهم سوف ينفرط. فآثرت أن أزور معرض المرايا آخر يوم أو بعد المعرض.

أسير مع الدكتور محمد عيسى وبيننا الأستاذ عبد الجواد، وإذا بشابة تقترب منا وتقول “عندي عرض لكم جميل” وكادت ان تلقي بتفاصيل عرض شرابات رجالي، فنظر إليها د. محمد بشعره ناصع البياض، ومزاحة الذي لا يتوقف وقال لها ” أنا عندي لك عرض أحسن” وصمت لحظة فانتبهت له ثم قال “تتجوزيني؟”. ابتسمت ابتسامة واسعة ممتلئة بكسوف، ومشت في طريقها.

كان قد غادرنا د. الماچدي لارتباطه بندوة في السفارة اليمنية تقريبا ضمن أربع محاضرات له وقت زيارته لمصر. كان مقهى “إكسلسيور” في شارع طلعت حرب مغلق إغلاق شبه دائم. وصلنا إلى براح شارع 26 يوليو/ شارع فؤاد، وطلت دار القضاء العالي/ المحكمة المختلطة، وبعد جولة في الشارع الواسع المليء بالضجيج، تذكرت مقهى في ممر ضيق كنت جلست فيه مع صديقين العام الماضي، فتوجهنا إليه، وما أن دخلنا الممر المنحني الذي يفرش على أرضيته بائع بفرشة حقائب يد للسيدات على الأرض، حتى انقطع عنا ضجيج شارع فؤاد، بعد أن عبرنا من أمام باب جانبي لمشرب، ملأ الممر صوت أم كلثوم وقت الخامسة مساء القاهرة تغني جددت حبك ليه.

d985d981d983d8b1d988d986-3 اجتماع مفكرون عرب مشرقيون ... بقلم: جمال عمر

كانت الابتسامات تملأ الممر وأكواب عصير الليمون وكوب الشاي الكشري، وحاول د. سلامة أن يُبعد رصة الكتب التي اشتراها من مكتبة تنمية جانبا ليُتيح مكان لكوب السحلب. تحت بهجة اللقاء والتلاقي لهذه العقول، إحساس بالتحدي، فكلنا بدرجات مختلفة مشغولون بالفكر الديني وبالتراث الديني، والعلاقة به. ومن ناحية أخرى مشغولون بتجربة التحديث، وعثراتها وتراجعاتها، بدرجات مختلفة.

كان هاجس د. عيسى الذي ترك المنظومة الأزهرية قبل ستة عقود، أنه كيف يتم نقل هذه الأفكار التي نتحدث فيها إلى عموم الناس، متأثرا بتجربته في مدينة شيكاجو في أمريكا، حيث بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بأمريكا، حاول أن يٍقيم مؤسسة دينية تقوم على الدعوة للوسطية الدينية والانفتاح وضد التيارات الجهادية، وتعمل على تعايش المسلمين في شيكاجو كمواطنين أمريكيين ومسلمين. فأنشأ مؤسسة الأزهر الإسلامية، وهو خطيبها، وبعد عقدين من الزمان من نشاطها قد تغيرت المنطقة سكانيا، وأصبحت الغالبية الغالبة مسلمين من الهند متشددين دينيا، والجيل الجديد يستقي تعاليمه الدينية من بلاد الآباء، حتى أصبح عيسى نفسه مخنوق.

د. العظمة، متفائل بطبعه، لكن التغيرات السريعة التي حدثت في سوريا وسقوط النظام، ومستقبل الخطاب الديني، تؤرقه. وتجارب التجديد وخصوصا في مجال العقيدة الإسلامية تجذبه. وإن كان منخرط نظريا وفكريا أكثر من الانخراط العملي، ويريد أن ينخرط عمليا.

د. هيكل، قد عرج الحديث على معاناته داخل جامعته المحافظة، والمضايقات والتضييقات التي يتعرض لها سواء من إدارة الجامعة أو من المشيخة أو حتى من مؤسسات الدولة الأمنية، لكنه ما زال يحاول من خلال العمل العلمي والفكري بل ومن خلال العمل الاجتماعي، فقد أخرج من قريته أربع أتوبيسات من المؤسسة الاجتماعية التي أنشأها لتأخذ فتيات وصبيان وبعض من أهاليهم كرحلة لمعرض كتاب القاهرة منذ أيام، حثا على القراءة وعلى اقتناء الكتب.

والأستاذ عبد الجواد ركز على إنتاجه الفكري من خلال نصوص المقالات والكتب ومؤسسة فكرية أخرى من المؤسسات ذات الخلفية الخليجية وإن كانت منطلقة من مصر، ورعاية بعض الشباب، وإن كان يتفادى النشاط الاجتماعي ويُفضل العزلة لكي يُنتج فكر ونصوص.

كان ليل القاهرة بدأ يحل علينا، فقد قضينا معا ساعات من التواصل والسعادة، تقريبا لم نكن نريد للقاء أن ينتهي، لكن د. العظمة كان عليه أن يستعد لطائرة بعد منتصف الليل، فأشار الأستاذ عبد الجواد، للقهوجي لدفع الحساب، وكان د. عيسى يحاول أن يدفع هو لكن عبد الجواد ياسين أصر، بأرستقراطية مصر ما قبل حركة يوليو، وبنزعة كرم بدوية، أننا اليوم في ضيافته. صاح القهوجي: ” فلوس”. ليخبر شخص آخر من العاملين دوره جمع حساب المشروبات.

خرجنا من الممر إلى ضجيج شارع فؤاد/ 26 يوليو العالي، وفارقنا د. العظمة الذي ينزل ضيفا على د. عيسى ليلتقوا بسائق سيارة د. عيسى في طريقهم للدقي. وسرت أنا ود. سلامة مع الأستاذ عبد الجواد من جوار دار القضاء العالي، في شارع شامبليون، المكتظ بالسيارات. لنلتقي مع ابنه الذي قاد له السيارة للوصول لوسط البلد، كانت السيارة مركونة بجوار عمارة “كشري أبو طارق”. ما أن التقينا ابنه، سلم على والده ومال على يديه يقبلها. وذكر أن التحرك الآن سيكون المرور للخروج من وسط القاهرة صعب، وأنه يُفضل انه يتمهلوا بعض وقت. واستقرا على الذهاب لبعض الوقت في نقابة الصحفيين.

كانت لفحة برد شتاء القاهرة بدأت تملأ المكان فارتدى الاستاذ عبد الجواد معطف له كان بالسيارة وتلفيحة حول رقبته. وسرنا جميعا في اتجاه مبنى نقابة الصحفيين، وافترقنا أمام بابها. على رغبة أن نلتقي مرة أخرى قبل انتهاء الرحلة. وسرت أنا ود. هيكل في طريقنا لمواصلة لبنها.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

اترك رد

ندوات