استئناف العدوان على غزة.. دوافع وأهداف التحريض والدعم الأمريكي المفتوح (2)… بقلم: شادي عمر الشربيني
بقلم: شادي الشربيني

في البحث عن دوافع إسرائيل لاستئناف عدونها وحربها على غزة المدمرة وأهلها من أطفال ونساء وشيوخ المحاصرين بأكثر سبل الحصار همجية، أوضحت في المقال الثاني من هذه السلسلة أن التحريض والدفع الأمريكي هو على أول ورأس الدافع الإسرائيلي. فستيف ويتكوف، اقترح تمديد وقف إطلاق النار لمدة شهر كامل حتى شهر رمضان ثم عيد الفصح في أواخر إبريل/نيسان، ولكن دون أي من الالتزامات التي قطعوها في يناير/كانون الثاني، فكان من الواضح أن الولايات المتحدة تفتح الطريق لبنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي للعودة إلى الحرب.
لقد وفرت الولايات المتحدة أوسع غطاء لإسرائيل لاستئنافها الحرب سواء من خلال تهديدات ترامب العلنية بفتح أبواب الجحيم على غزة إذا لم يتم الإفراج عن كافة الرهائن الإسرائيليين المتبقين لدى المقاومة فورا، وبدون أي تعهد بذهاب إسرائيل إلى وقف إطلاق نار دائم، حيث قال ترامب في بيان صدر في وقت سابق من شهر مارس: “سأرسل لإسرائيل كل ما تحتاجه لإنجاز المهمة، ولن يكون أي عنصر في حماس بأمان إذا لم تفعلوا ما أقوله، أطلقوا سراح الرهائن الآن، وإلا ستدفعون ثمنا باهظا لاحقا”. ثم تبع ذلك مبادرات مبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف العرجاء والتي تتماشى مع الأهداف الإسرائيلية.
أطلقت الولايات المتحدة عملية عسكرية وهجمات مستمرة واسعة النطاق في مساء يوم السبت 15 مارس 2025 على مناطق سيطرة أنصار الله الحوثيين في اليمن، وفي الثلاثاء التالي استأنفت إسرائيل حربها وعدوانها على غزة، فأصبح واضحا أن الحرب الأمريكية ضد اليمن الحوثي لم تكن سوى تغطية للإسرائيلي في استئناف حربه على غزة، والسعي لكسر جبهة الإسناد اليمني للمقاومة وفك الحصار البحري المفروض على إسرائيل من ناحية مضيق باب المندب الذي أعلنته اليمن للضغط وكسر حصار التجويع والتعطيش الإسرائيلي لغزة.
نجد نفسنا أكثر وأكثر أمام عملية أمريكية واسعة النطاق في المنطقة يقودها ترامب، فما الهدف من تلك العملية وما هي جائزتها الكبرى؟
الهدف بكل وضوح هو إزالة العائق الأخير أمام السيادة والهيمنة الإسرائيلية الكاملة في منطقة الشرق الأوسط، هذا العائق المتمثل في إيران الثورة الإسلامية، وجبهة المقاومة التي عملت على بنائها يدأب وصبر خلال الاربعين سنة الماضية*. تلك الجبهة ترى الولايات المتحدة، وبالطبع إسرائيل، أنها حائط الصد الأخير أمام تملك إسرائيل للمنطقة وصعودها على عرش السلطان المطلق. إن تمكين إسرائيل الكامل في منطقة الشرق الأوسط أصبح طلب ملح لدى الأمريكي، وذلك بسبب اتجاهها العام للانسحاب العسكري من المنطقة وانتقال بؤرة التركيز للمحيط الهادي وآسيا، حيث يجب حصار الصين الصاعدة بقوة وثقة، وترى الولايات المتحدة في هذا الصعود أكبر تهديد لهيمنتها وإمبراطوريتها العالمية.
حمى الحركة الترامبية في الشرق الأوسط يمكن فهم أهم دوافعها كالتالي:
- أن هناك شعور أمريكي متزايد أن الفجوة التي تفصل الصين عنها تتآكل بسرعة بالغة. فالصعود الصيني يقابله انحدار أمريكي، مما يجعل واشنطن تشعر أكثر وأكثر بهبوب رياح التغيير. هذا يعني أن على الولايات المتحدة الانتقال من احتواء الصين إلى مواجهتها، وهذا المواجهة تستلزم أكبر قدر من تركيز القوة وتسليطها. لذلك هناك انسحابات للقوة الامريكية من عدة مناطق في العالم، لكي يتم حشدها وتعبئتها في مواجهة الصين، حيث توكل الولايات المتحدة مهام الأمن والتنظيم والسيطرة في المناطق المُنسحب منها إلى قوة إقليمية تثق في ولائها وتبعيتها، وقد بينا في المقال السابق كيف وقع اختيار الولايات المتحدة على إسرائيل لتكون هي أساس قوتها ووكيلها وأداتها الأولى في منطقة الشرق الأوسط.
- يرى الكثيرون في الولايات المتحدة أن اللحظة الحالية هي اللحظة الأنسب للممارسة الضغط الأقصى على إيران لتصفية مشروع وجبهة المقاومة وحصرها داخل حدودها، الأمر الذي يؤدي إلى اسقاط نظام الثورة الإسلامية وإقامة نظام بديل تابع لها، مثلما كان نظام الشاه. في عملية تستعيد بها الولايات المتحدة سيطرتها على إيران، وتفسح المجال واسعا أمام إسرائيل عبر إزالة ما يرونه العائق الأخير.
يمكن بوضوح قراءة الحركة الأمريكية في الإقليم خلال الثلاثين عاما الأخيرة في هذا الإطار. فعقب التراجع السوفيتي وما تلاه من سقوطه بدأت الحركة الأمريكية الهجومية والشرسة في المنطقة لإسقاط ما تبقى فيها من جيوب مقاومة. فغزو العراق واحتلاله تحت حجج واهية، بل وكاذبة؛ كان قفزة للتواجد المباشر على الحدود مع إيران والضغط عليها، تلك القفزة التي ترافقت مع غزو أفغانستان أيضا بما يعنيه ذلك من صنع كماشة حول إيران تقتلع نظامها الإسلامي. لم تكن الحرب الإسرائيلية في عام 2006 على لبنان سوى إجراء في إطار الحركة الأمريكية، لتدمر إسرائيل حزب الله وتقضي عليه، وذلك أيضا في إطار حصار إيران وتصفية أصدقائها وحلفائها في المنطقة، لكن الأمر انتهى بإخفاق إسرائيلي بالغ أعترف به الإسرائيليون أنفسهم. أما النظام السوري، أبرز صديق لإيران في المنطقة وفي نفس الوقت فإن سوريا أكبر طرق إمداد ودعم حزب الله؛ فقد تراوح العمل معه بالضغوط والإغراءات لتصفية صداقته وتحالفه مع إيران ووقف دعمه وتأييده لحزب الله، إلى أن رأت واشنطن ظرف الربيع العربي كظرف مناسب للغاية، اشتغلت عليه بدءا من التسعينيات، للعمل مباشرة ضد النظام السوري وإزالته نهائيا.
الحرب على غزة في إطار الخطة الأمريكية:
من أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها تصوير الحرب في غزة على أنها مجرد رد على هجوم السابع من أكتوبر. حرب إسرائيل في غزة بهذا المستوى وبهذا الاتساع هي حرب يجري الاعداد والتخطيط لها منذ فترة طويلة. إسرائيل والولايات المتحدة وأشيعاهم، يريدون تصوير السابع من أكتوبر كأنه لم يُسبق بحصار طويل وخانق على غزة، حتى أصبح شائع عن حق أن غزة هي أكبر سجن مفتوح في العالم، يريدون تصويره وكأن لم تسبق تلك المواجهة جولات متعددة من قصف وتدمير غزة. بعد أن تم إخراج فتح نهائيا من ساحة النضال، بأوسلو ثم اغتيال ياسر عرفات وتصفية قادة فتح المناضلين أو وضعهم في السجون الإسرائيلية، وتحويلها إلى سلطة بوليسية قمعية لصالح إسرائيل في الضفة الغربية، أصبحت حماس في قلب منصة التنشين، خاصة عندما أصبحت حماس جزء من جبهة المقاومة وفتحت خطوط الاتصالات والتنسيق واسعة مع الضاحية الجنوبية (حزب الله) وطهران، حيث تم احتضان حماس والاستثمار فيها ودعمها عسكريا ولوجستيا واقتصاديا بأوسع ما يكون. حتى بعد الخلاف والاختلاف الواسع بين حماس من جهة وحزب الله وإيران من جهة أخرى بشأن الاحداث في سوريا وتوصيفها والاختلاف حول الجانب الذي يتم الانحياز له فيها، فقد عمل حزب الله وعملت إيران على تجاوز ذلك الخلاف الكبير وتطويقه بدلا من القطيعة، وأثمرت تلك الجهود في صعود قيادات جديدة لحماس في غزة، ممثلة في السنوار واخوانه، تستوعب جيدا أن قطر وتركيا لا يمكن أن يشكلوا بديلا لحماس عن جبهة المقاومة ممثلة في الضاحية وطهران.
إن انتماء حماس لجبهة المقاومة لم يمكن يمثل خطر عسكري من حيث تكامل جبهة نضالية تتصدى للهيمنة الإسرائيلية/الأمريكية في المنطقة فقط، ولكنه أيضا يمثل سياسيا وعقائديا أكبر ضربة لسيناريو العداء السني – الشيعي الذي رسمته الولايات المتحدة وجندت فيه الكثير من الدول العربية والمؤسسات والهيئات في العالم الإسلامي، وذلك بغرض حصار مشروع إيران لتحرير المنطقة من السيطرة الأمريكية عبر طرح الوحدة الإسلامية. كان الرد الأمريكي على ذلك المشروع هو حصار المشروع الإيراني بنار فتنة سنية – شيعية تمثلت خطوتها الأولى البارزة في الحرب العراقية – الإيرانية، وتم تكثيف العمل على تلك المسألة بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق الذي حولته الولايات المتحدة إلى ساحة للفتنة وتأجيج الصراع المذهبي والطائفي.
لذلك كان انتماء حماس للمقاومة، خاصة وهي منبثقة من الاخوان المسلمين أكبر تنظيم سياسي ديني سني، هو ضربة كبرى لمشروع الفتنة المذهبية الأمريكي. تبعا لذلك أصبح استهداف حماس وكسر ظهرها وعظامها، وغيرها من منظمات المقاومة الفلسطينية التي فتحت طرق مع طهران والضاحية الجنوبية لبيروت، هو غرض وهدف أمريكي بقدر ما هو إسرائيلي. وهكذا، كما هو معتاد، تتلافى بل وتتطابق الاجندات الإسرائيلية الأمريكية!

الولايات المتحدة واستهداف حزب الله:
بينما لم تطلق الولايات المتحدة بشكل مباشر أي رصاصة على جنوب لبنان، كشفت تقارير صحفية أنها لعبت دورا مهما في الهجوم المباغت الذي شنته إسرائيل على أهداف تابعة لحزب الله فجر الأحد 25أغسطس 2024. وجاء في بيان لوزارة الدفاع الأميركية أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن “تحدث مع وزير الدفاع الإسرائيلي لمناقشة الدفاع عن إسرائيل ضد هجمات حزب الله”، وأضاف البيان: “أكد أوستن على التزام الولايات المتحدة الراسخ بالدفاع عن إسرائيل ضد أي هجمات من إيران وشركائها ووكلائها بالمنطقة”.
تلك الجملة الأخيرة في البيان الأمريكي هي محتوى وجوهر الخطاب والدعاية الأمريكية التي تركز على وتعمل على تصوير حزب الله على أنه مجرد وكيل لإيران في المنطقة وزراع لها، وذلك في إطار سعي واشنطن الدؤوب لنزع صفة حزب الله كحركة تحرر وطني لها أهدافها وتوجهاتها؛ في مكافحة العدوان الإسرائيلي المستمر، واستعادة الأراضي اللبنانية المحتلة إسرائيليًا، ودعم كفاح الشعب الفلسطيني في التحرر وحقه في الحياة واستعادة أرضه.
منذ نشأته وتضع الولايات المتحدة حزب الله على رأس قائمة المستهدفين في المنطقة، وتعمل على الحشد ضده وشيطنته، مستعلمة ومستغلة في ذلك القوى التابعة لها في الداخل اللبناني ومختلف دول وكيانات الإقليم التي تصطف وتنتظم في جانبها، بجانب استخدام آلتها الإعلامية الجبارة في رسم تلك الصورة. هدفت الاستراتيجية أمريكية إلى مزيد من التصعيد ضد الحزب في لبنان من خلال دفع الحكومة اللبنانية إلى قطع اتصالاتها بالحزب. وقد تمثل التصعيد الأمريكي في فرض العقوبات على الحزب وقادته وتشديدها كلما أمكن أو سنحت فرصة، حيث يذهب أغلب المحللين إلى أن تلك العقوبات ما هي إلا امتداد للعقوبات المتزايدة ضد إيران.
بدأ الاستهداف الأمريكي لحزب الله يأخذ منحى جديدًا من خلال محاصرة تحركاته ميدانيًّا، والسعي إلى تغليظ العقوبات الاقتصادية على شبكته المالية، وهو ما أسفر عن تزايد حدة الأزمة المالية التي يُعاني منها، مما دفعه إلى إطلاق حملات إعلانية لجمع التبرعات في لبنان لتجهيز محاربيه. وفي هذا السياق، سعت الولايات المتحدة لوقف الإمدادات الإيرانية للحزب القادمة من العراق باتجاه سوريا ولبنان، وإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لاستهدافه عسكريًّا في إطار سياسة الحرب بالوكالة، مما يُضعف البنية التحتية للحزب، وصولاً إلى نزع سلاحه.

وقد بدأت تفاصيل خطة الحصار الأمريكية لحزب الله تتضح من خلال العديد من التدابير والمواقف التي تم اتخاذها بحق الحزب في الفترة الماضية، بشكل مباشر وغير مباشر، وذلك على النحو التالي:
أ- توجيه الولايات المتحدة الأمريكية ضربات واغتيالات لعناصر حزب الله التي تتواجد أو تكون خارج الأراضي اللبنانية.
ب- قيام إسرائيل -بتحريض ودعم أمريكي- بشن ضربات جوية ضد أهداف وتحركات لحزب الله في الداخل السوري. وذلك يأتي في سياسة الحرب بالوكالة ضد حزب الله، حيث تحرص الولايات المتحدة على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الحزب، وهو ما أسفر عن دعم الولايات المتحدة للضربات الجوية الإسرائيلية للنظام السوري لبشار الأسد وحزب الله (بدءًا من عام 2013)، حيث يركز التوجه الأمريكي على إضعاف البنية العسكرية للحزب، وصولا في المدى البعيد إلى نزع سلاحه بدون الدخول في مواجهة مباشرة معه.
ج- زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) الجنرال “جوزف فوتل” للبنان في 6 يونيو 2017 وتأكيده التزام شراكة الحكومة الأمريكية مع لبنان في مواجهة التهديد الإرهابي، ودعم الجيش اللبناني في دوره كمدافع وحيد عن لبنان. يأتي ذلك في إطار الولايات المتحدة المستمر للفصل بين حزب الله والدولة اللبنانية، ولم يكن الدعم الأمريكي المباشر لانتخاب جوزيف عون 9 يناير 2025، بعد جولتين متتاليتين لمحاولة انتخابه، رئيسًا للبنان وتولية نواف سلام لرئاسة الوزارة سوى خطوة أمريكية في هذا الاتجاه، تستغل حالة الحزب بعد اغتيال أمينه العام الأيقوني حسن نصر الله وتعرضه وتعرض بيئته لضربات إسرائيلية عنيفة وكثيفة.
د- فرض عقوبات جديدة على حزب الله، سعيا لتجفيف منابع تمويل الحزب. لقد صنفت الولايات المتحدة الأمريكية حزب الله منظمةً إرهابية في عام 1995، ومنذ ذلك الوقت وهي تحاول حصار الحزب ماليًّا من خلال فرض عقوبات اقتصادية عليه بهدف الإضرار بشبكته المالية، وكان من أشهرها إقرار قانون حظر التمويل الدولي لحزب الله في 16 ديسمبر 2015 لمنعه من الاستفادة من الأنظمة المالية الدولية.
يذهب سلة معتبرة من المحللين والباحثين في الشئون السياسية والاستخبارية والاستراتيجية أن الضربات والاغتيالات الإسرائيلية لقادة حزب الله والعمليات النوعية ضده، يقوم ورائها جهد استخباري أمريكي بالأساس، بل يتم القيام بها بواسطة سلاح أمريكي وذخائر أمريكية وتكنولوجيا أمريكية، وحتى الطيارين والموجهين الإسرائيليين يتم تدريبهم وتجهيزهم بواسطة الولايات المتحدة. ويسوق هؤلاء المحللين أدلة قوية على ما يذهبون إليه، من شاكلة أن عمليات الإسرائيلية النوعية الأخيرة ضد الحزب، مثل اغتيال فؤاد شكر ثم تفجيرات أجهزة البيجر ثم الووكي توكي وصولا إلى النيل من حسن نصر الله نفسه، لم تتم إلا بعد زيارة نتنياهو للولايات المتحدة وخطابه أمام الكونجرس قي يوليو 2024.
النتيجة واضحة وجلية من كل ما سبق، أن حزب الله هو هدف أمريكي بقدر ما هو إسرائيلي، وحرب إسرائيل في لبنان وعلى حزب الله، هي حرب تجري ضمن الخطة والحرب الأمريكية الشاملة في المنطقة.
الولايات المتحدة واستهداف سوريا:
تعتبر سوريا من أهم المراكز الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة لأطراف المعادلة الدولية الرئيسية، فموقع سوريا على ضفة البحر المتوسط الشرقية تجعلها بوابة ساحلية للقارة الآسيوية، فبالنسبة للمحور الأطلسي الممثل لقوى البحر التجارية يحتاج إلى موقع سوريا لمحاصرة المحور المقابل له وهو المحور الأوراسي القاري، وذلك حسب مبدأ الحصار الطويل للخصم وانهاكه، ويتجسد هذا المبدأ في حصار الأراضي المعادية من البحر وعبر الخطوط الساحلية وهو ما يؤدي تدريجيا إلى الاستنزاف التدريجي للخصم، وهنا تكمن مهمة المحور الأوراسي بالحفاظ على الآماد الشاطئية المحيطة بأوراسيا القارية.
موقع سوريا يربط بين القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهي بذلك تقع على تقاطع خطوط التبادل والتجارة بين هذه القارات، لذلك ليس غريبا أن تطويع سوريا وادخلها في دائرة النفوذ والهيمنة هدف ثابت ودائم للولايات المتحدة. وقد عملت الولايات المتحدة جديا في هذا السبيل منذ اواخر اربعينيات القرن المنصرم، وذلك عبر اعداد وتدبير انقلابات عسكرية تأتي بقيادات تابعة لها، ومن خلال وضع سوريا في حالة تهديد دائم والضغط عليها بالكماشة التركية – الإسرائيلية. لكن سورية بالرغم من الحصار والتهديد والاختراقات المتعددة كانت تكشف عن وجه عروبي أصيل، حتى أطلق عليها الزعيم جمال عبد الناصر عن حق «قلب العروبة النابض».
إن قصة سوريا والصراع عليها وفيها هي من أكثر القصص طولا وتأثيرا في التاريخ. لقد كان حماية سوريا وتقويتها، مشروع مصري أصيل، فأمن مصر وسلامتها معلق بأمن وسلامة بر الشام. وقد تلقفت مصر عبد الناصر يد سوريا الممدودة للوحدة، بالرغم من إدراكها صعوبة الظروف وقسوتها، بالرغم من استيعابها أن قوى الاستعمار والسيطرة وتابعيهم في المنطقة لن يدخروا جهدا للتربص بها وضربها واحراج القاهرة، وذلك لإدراك القيادة المصرية ساعتها أن الوحدة هي السبيل الوحيد لإنقاذ سوريا من كل الوحوش المتربصة وتستعد للانقضاض عليها. وعند وقوع مؤامرة الانفصال، قدمت القاهرة الحفاظ على سورية على الإبقاء على الوحدة، وراحت بالرغم من كل الخلافات التي يتم أثارتها والزوابع وصعود أنظمة مغامرة في سوريا، تعمل دائما على الدفاع عنها والحفاظ عليها، وذلك هو الركن الأساس للأمن القومي المصري.

لم تكن كامب ديفيد مجرد اتفاقية تسوية بين مصر وإسرائيل، بل كانت اتفاقية إخراج مصر من الساحة العربية، وبذلك يتحقق الاستفراد بمصر وهي من منزوعة من مداها وأفقها العربي، وتجريد الأمة العربية من قوة مصر ودورها الحاسم. كان الاستفراد بسوريا وتصفية وجهها القومي التحرري على رأس الأهداف الامريكية – الإسرائيلية بعد إخراج مصر بكامب ديفيد، لكن سوريا تحت قيادة الأسد قاومت وراحت تسعى لبناء تحالفات وترتيبات خصوصا مع الاتحاد السوفيتي ثم مع إيران بعد أن أسفرت عن وجه ووجهة تحررية عقب الثورة الإسلامية، في مواجهة محاولات الاخضاع الأمريكية – الإسرائيلية والتي كانت تستعين دائما بتركيا العضوة بحلف الناتو العسكري.
إن سوريا أصبحت أكثر إلحاحا على الولايات المتحدة بسبب:
1- في إطار سعي واشنطن كسر اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، كان البديل الأقوى والأكثر فاعلية للغاز الروسي هو الانفتاح على سوق الشرق الأوسط بموارده الهائلة من الغاز والنفط. لكن خطوط نقل الطاقة الرئيسية من الشرق الأوسط إلى أوروبا مارة بالضرورة عبر سوريا، فجغرافيًا، تتوسط سوريا الشرق الأوسط المليء بأحلام خطوط الأنابيب التي يمكن أن تجعلها مركزًا لها. والحدود السورية مع العراق، والموانئ البحرية على البحر المتوسط، تجعل منها ممرًا طبيعيًا لنفط شمال العراق ودول الخليج العربي والغاز القطري والإيراني إلى أوروبا. وبرغم أن الجسر البري إلى أوروبا هو تركيا ـــ العضو في حلف “الناتو” ـــ وليس سوريا، إلا أنّ طبيعة الجغرافيا السورية المسطحة نسبيًا تجعل بناء خط أنابيب أسهل وأرخص بكثير مما هو عليه الحال في تركيا الجبلية. بالتالي، ستفقد تركيا رسوم العبور والكثير من المكاسب السياسية في الشرق الأوسط وأوروبا، وتُحوَّل تلك المكاسب إلى سوريا التي يمكن أن تجلب النفط والغاز من الشرق الأوسط (الذي يُنتج نحو ثلث الإنتاج العالمي من النفط ـــ 31.3% تحديدًا ـــ و17.7% من الغاز الطبيعي، ويحتوي على نصف احتياطيات النفط العالمية المؤكدة، وأكثر من 40% من احتياطيات الغاز العالمية المؤكدة) إلى أوروبا التي لديها عجز في الميزان الطاقوي (75% من النفط و63% من الغاز)، وتستهلك أكثر من 14% من النفط الخام و14% من الغاز الطبيعي على مستوى العالم. كل ما سبق يعني تحول سوريا، واسطة عقد جبهة المقاومة وحليفة إيران وروسيا، مركز وعقدة خطيرة للطاقة وتدفقها عالميًا، وما يتبع ذلك من مداخيل هائلة لنظام ومنظومة ليست تحت المظلة والنفوذ الأمريكي!
2- الدور السوري في جبهة المقاومة. مثلت سوريا واسطة العقد في هذه الجبهة الممتدة؛ فهي القاعدة والأرض التي أستند إليها حزب الله في خوض كل معاركه المنتصرة، من أول تحرير الجنوب اللبناني إلى كسر العدوان الإسرائيلي في 2006. ثم إن صداقة دمشق المتينة والقوية مع طهران، أعطت إيران إطلاله غالية على البحر المتوسط، ومكنتها من تفعيل دورها التحرري والداعم لحزب الله.

وهكذا أصبح إسقاط النظام السوري مهم ملحة على الولايات المتحدة، الأمر الذي تحقق لها يوم 8 ديسمبر 2024، بعد حرب ضروس وحصار اقتصادي وكماشة تركية – إسرائيلية استمرت لأكثر من عشر سنوات حتى خلعت النظام السوري من دمشق. وتحولت سوريا إلى مرتع وساحة منافسة وشد وجذب بين الإسرائيلي والتركي، والاثنان تحت المظلة الأمريكية!
<<<<<<<<<<<<<<
<<<<<<<<<<<<<<
في السطور السابقة مررنا بجولة كاشفة عن متطلبات أمريكية مباشرة لاستهداف المقاومة الفلسطينية (حماس خصوصا) وحزب الله وسوريا، وليس مصادفة على الإطلاق أنها هذه كانت مناطق عمل وعدوان وحرب الإسرائيلي. واضح للجميع أن إسرائيل ليس في طاقتها على الأطلاق العمل على كل تلك الجبهات إلا أن تكون أداة ويدا للولايات في إطار مساعيها لترتيب المنطقة بالحديد والنار ووضعها على مسار تطمئن له حتى يمكن أن تتفرغ للمارد الصيني الصاعد وتشق تحالفه الناشئ مع روسيا النووية العظمى.
إن تحريض ترامب إسرائيل على استئناف عدوانها على غزة، ليس مجرد نزوة ونزق لرئيس يسعى إلى رسم صورة توحي بالجنون فيعيش العالم وهو يسعى لتهدئة واسترضاء هذا الاله الغاضب! بل هو جزء من استراتيجية أمريكية طويلة المدى. تصفية القضية الفلسطينية تراه الولايات المتحدة قريبا جدا، بدأ الأمر في كامب ديفيد واكتمل بالاتفاقيات الإبراهيمية، وإسقاط دمشق وحصار حزب الله وإنهاك المقاومة في غزة، هو عملية التفاف شاملة جائزتها الكبرى هي حصار النظام الإيراني وإسقاطه واستحضارا روح الشاه لتعود بعرش الطاووس إلى طهران، وربما هكذا تستب الأحول للأمريكي فوق فوهة الشرق الأوسط!
هامش توضيحي:
* المقصود بذلك هو أن إيران الثورة راحت تمد يد التعاون والتوثيق مع مقاومي العدوان الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية في المنطقة، وهذا مقلوب صورة الأخطبوط وأزرعه التي تروج لها الولايات المتحدة وتوابعها في المنطقة.
للاطلاع على المقال السابق اضغط هنا
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد