اقتباس الكوميديا والشرعية الثقافية … بقلم: د. وليد الخشاب
تنويه: ينشر بموافقة د. الخشاب والمقال سبق نشره بمجلة الثقافة الجديدة.
بقلم: د. وليد الخشاب
أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا.


ما زالت دراسات الاقتباس في تاريخ السينما العربية، وفي تاريخ السينما المصرية تحديدا، في مرحلة البدايات. والمساهمة التي قدمها سلمى مبارك ووليد الخشاب في كتاب “الاقتباس من الأدب إلى السينما” الذي شارك فيه عشرة نقاد وباحثين وأكاديميين، والصادر عام 2021 عن دار المرايا، هي مساهمة بسيطة في حقل يحتاج الكثير من العناية. نشرت من جانبي ونشرت سلمى من ناحيتها دراسات مستقلة عن علاقة الأدب بالسينما في مصر، باللغة العربية وبلغات أوروبية. أميل في دراساتي إلى التوسع في استخدام مفهوم الاقتباس لأمده إلى حالات استلهام السينما أو المسرح لشخصيات حقيقية أو نمطية، وأنواع فنية وأحداث تاريخية، وموتيفات وعناصر بعينها وتيمات في الحبكة أو الموضوع، مثلما في دراستي عن اقتباس صورة المصنع أو الورشة في السينما المصرية. كذلك هناك إسهامات لنقاد وباحثين انشغلوا منذ فترة بالعلاقة بين الأدب والسينما، مثل كتاب هاشم النحاس الهام عن نجيب محفوظ والسينما، أو كتاب محمود قاسم الذي يرصد فيه مجموعة كبيرة من الأفلام المصرية المقتبسة عن أصول أدبية. لكن الدراسات الأكاديمية أو شبه الأكاديمية لقضية الاقتباس تحتاج جهداً كبيراً لتغطي مختلف جوانب تلك القضية.
الغالبية العظمى من دراسات الاقتباس تركز على “الروائع” الأدبية أو على الأعمال الجادة التي تحظى لجديتها باحترام وتقدير معنويين. لكني أرى أن الاقتباس في الكوميديا لا يقل أهمية ولا جدية، ويستحق أن نحتفي به وأن نفرد له الدراسات المستفيضة. وربما كشفت لنا الكوميديات المقتبسة مناطق مجهولة في تاريخنا الثقافي، وربما ألقى تحليلها ضوءًا على جوانب من حياتنا من زاوية التاريخ وتفاعله مع المجتمع ومنتجاته الثقافية، على نحو لا تتيحه دراسات ثقافية أخرى، نظراً لمساحة الحرية التي تتمتع بها الكوميديا في تناول قضايا حساسة، دون أن تثير حفيظة المجتمع أو تياراته المحافظة، بحكم أن الكوميديا يُنْظَر إليها على أنها مجرد تسلية أو هذر.

في كتابي “مهندس البهجة” الصادر عام 2022 عن دار المرايا، وموضوعه فن فؤاد المهندس الكوميدي، خصصت فصلاً طويلاً لتلك القضية بعنوان “اقتباس الكوميديا”، وحللت مجموعة من أفلام ومسرحيات فؤاد المهندس المقتبسة عن مسرحيات وأفلام إنجليزية أو ناطقة بالإنجليزية، أو تلك التي تقبس نوعاً فنياً غربياً لا عملاً بعينه، وتحديداً اقتباس نوع “أفلام الكاوبوي” في فيلم “فيفا زلاطا” من بطولة فؤاد المهندس. وأتمنى أن أناقش اقتباسات أخرى بين المسرح والسينما في عالم الكوميديا العربية والمصرية تحديداً، لأن للكوميديا شرعية فنية وجمالية تستحق أن تتمتع بها.
في الكوميديا كما في الأعمال الجادة العربية، واحد من أهداف الاقتباس عند تحويل عمل أدبي أو مسرحي إلى السينما هو حصول العمل المقتبس على غطاء شرعي ثقافي يمنحه الأدب. فالفيلم المقتبس عن نص أدبي يتمتع باعتبار واحترام، ويكتسب في نظر النقاد ومستهلكي السينما قيمة معنوية أو قيمة “أدبية” أكبر من الفيلم المكتوب مباشرة للسينما. على الأقل ظلت تلك النظرة هي السائدة معظم القرن العشرين، حتى بدأت تظهر في ثقافتنا العربية خطابات شجاعة ترى في الفن السينمائي المحكم ورهيف الصنعة قيمة فنية ورمزية لا تقل عن قيمة الأدب الروائي أو المسرح، وهي خطابات بدأت في الظهور -في تقديري- مع تسعينات القرن العشرين. ويزداد الاعتبار والاحترام للفيلم أو المسرحية العربيين المقتبسين عن أصل غربي، لأن الغرب هو موطن القيمة ومصدرها، بحكم أن الغرب هو المتسيد حضاريا وسياسياً في عالمنا المعاصر.
معظم مسرحيات فؤاد المهندس وأفلامه في الستينات والسبعينات مقتبسة بشكل أو بآخر، فهي إما تقتبس بالفعل، أو تستلهم، أو تقلد عن قرب أعمالاً غربية مسرحية وسينمائية. وقد لفت نظري في كتابي “مهندس البهجة” أن أعمال فؤاد المهندس -التي صارت من كلاسيكيات المسرح والسينما العربيين- تمثل إنتاج الكوميديا باللغة العربية في مرحلة التحرر الوطني والتعريب. وهي مع ذلك مقتبسة اقتباساً عن أعمال إنجليزية من إنجلترا تحديداً، مثل “أنا وهو وهي” المقتبسة عن مسرحية “نصيحة المحامي”، أو أعمال باللغة الإنجليزية من إنتاج المجتمع البريطاني الأشمل، مثل “سيدتي الجميلة” المأخوذة عن مسرحية الكاتب الأيرلندي العظيم جورج برنارد شو “سيدتي الأنيقة” المكتوبة باللغة الإنجليزية.


كانت حالة فؤاد المهندس كبطل لأعمال مسرحية وسينمائية مقتبسة، حالة مثيرة لأنها جسدت التناقض بين خطابات الاستقلال السياسي والثقافي والتركيز على الهوية “الأصيلة” من ناحية، وإنتاج الثقافة والممارسات الحديثة المبنية على الاستيراد والاقتباس بعد يوليو 1952. فؤاد المهندس كان النجم الكوميدي الأمثل في مرحلة التحرر الوطني. لكن أعماله كانت تعتمد بالأساس على الاقتباس من ثقافة المستعمر السابق، أي المستعمر الإنجليزي.
من هنا يتضح أن دراسة الاقتباس في كوميديات المهندس تحديداً تستدعي دراسة الاقتباس في الكوميديا المصرية بشكل عام. قبل الاستقلال عام 1952 بعد ثورة يوليو، كانت الحالة الأشهر في اقتباس الكوميديا بالعربية هي حالة مسرحيات وأفلام نجيب الريحاني وبديع خيري التي كانت في أغلبها مقتبسة عن الفرنسية. والمثير هنا هو أن الثقافة المصرية طيلة فترة الاحتلال الإنجليزي كانت تضم تيارات بالغة القوة تقتبس عن الثقافة الفرنسية، وإنتاج المعرفة بالفرنسية، من باب الانحياز لقوة داعمة ل “الاستقلال الوطني” المصري. في عالم كانت تتقاسم الهيمنة عليه بريطانيا وفرنسا، كان الانحياز إلى فرنسا خيار قطاعات كبيرة من التيارات القومية المصرية، بمنطق عدو عدوي هو صديقي. وبالمنطق نفسه، ازدهر الاهتمام بالثقافة الروسية في الستينات المصرية باعتبار الاتحاد السوفييتي وفي القلب منه روسيا هو عدو أمريكا، القوة العظمى التي تهدد المنطقة العربية بسياساتها الإمبريالية.

نتج عن هذه المؤثرات عدد كبير من الأعمال المسرحية والسينمائية بالعربية يصل إلى عدة عشرات، مأخوذة عن أصول أدبية ومسرحية وسينمائية فرنسية وأمريكية، وبعض الأعمال ذات الأصل الروسي، بالإضافة إلى الأعمال ذات الأصل البريطاني. والمؤثرات الغربية المذكورة هنا أفرخت أعمالاً ميلودرامية أو جادة وأعمالاً كوميدية بنسب متعادلة. فقبل الحرب العالمية الثانية، كان أقوى مؤثر غربي في الأعمال السينمائية والمسرحية العربية المقتبسة هو المؤثر الفرنسي، وينطبق ذلك على الكوميديا كما الميلودراما. وبعد الحرب العالمية الثانية، كان أقوى مؤثر هو السينما الأمريكية، في الميلودراما وفي الكوميديا. ويبدو لي واضحاً أن الاقتباس عن الغرب في مجال المسرح الكوميدي المصري يوازي مسار حركة الاقتباس في كافة وسائط إنتاج الكوميديا من سينما وتلفزيون.
كان اقتباس مسرحيات من بطولة فؤاد المهندس لأعمال معينة يشكل ما يشبه التصريح بانضمامها إلى الثقافة المصرية. ويفسر هذا أن بعض الأفلام الكوميدية المصرية كانت تقتبس مسرحيات فؤاد المهندس، ولا تعود إلى الأصل الغربي الذي اعتمد عليه مؤلفو مسرحية المهندس. هكذا -على سبيل المثال- ظهر فيلم “أنا وزوجتي والسكرتيرة” إخراج محمود ذو الفقار عام 1970، من بطولة أحمد رمزي وزبيدة ثروت، من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما والتلفزيون، أي من إنتاج القطاع العام. وفيلم “أنا وزوجتي والسكرتيرة” مقتبس عن مسرحية “حواء الساعة 12” من بطولة فؤاد المهندس وشويكار، لكن السيناريو لم يرجع إلى الأصل الإنجليزي لمسرحية المهندس، وهو المسرحية الإنجليزية “الروح المرحة” أو “روح المرح”، ولا إلى الفيلم الإنجليزي المقتبس عن المسرحية الإنجليزية. ومع ذلك، ففيلم “أنا وزوجتي والسكرتيرة” قد اكتسب شرعية ثقافية لكونه مقتبسا عن مسرحية صارت -رغم الاقتباس- جزءًا من ريبرتوار المسرح الكوميدي العربي، وهي “حواء الساعة 12”.
مسألة اكتساب الكوميديا لشرعية ثقافية ولمكانة رمزية لم تبدأ مع فؤاد المهندس، بل يمكن أن نعود إلى إنتاج نجيب الريحاني لنتقصى بداياتها. مسرحيات الريحاني أقدم نموذج في إنتاج الفكاهة العربية الحديثة لأعمال تحظى باحترام جماهيري ونقدي يعادل الاحترام الموجه للأعمال الجادة والميلودرامية. والاقتباس عن مصادر فرنسية بالأساس كان عاملاً حاسما في بناء ذلك الاحترام.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد