الإنسان بين الرواقية والروقان… بقلم: مروة هجرس

بقلم: مروة هجرس

marwa-hagras الإنسان بين الرواقية والروقان... بقلم: مروة هجرس

في لحظة هدوء نادرة، كنت أختبئ في أحد أماكني السرّية، حيث الهواء النقي، وكوب الشاي بالنعناع الذي يعمل كزر خفي لإعادة تشغيل ذهني المُتعب. مع أول رشفة، بدأت الأفكار تتسلل برفق، وكأنها طيور تعود لعشّها بعد رحلة طويلة. وفجأة، ومن حيث لا أدري، تجسدت أمامي أمنية قديمة: ماركوس أوريليوس وسينيكا، أصدقائي المؤجلين من كتب الفلسفة الذين تمنيت دومًا أن أجالسهم.
المشهد كان سرياليًا، لكن جميلًا جدًا لا أشكك في صدقه. ظهر الصديقان أمامي؛ تبادلنا النظرات، وبدون مقدمات، وجدت نفسي مندمجة في حوار عميق معهم، حوار بدأ خفيفًا ثم اتسعت دوائره حتى وصلت إلى فكرة كان عقلي قد خبّأها في زاوية هادئة: تأمل لطيف يربط بين الفلسفة الرواقية التي آمن بها هذان الحكيمان، وبين فلسفتي اليومية عن “الرَّوَقان” المعاصر.
حدّثتهم عن هذا التشابه العجيب، ليس فقط لأن “الرواقية” و”الرَّوَقان” يشبهان بعضهما في الكتابة والنطق، بل لأن الجوهر بينهما واحد: كلاهما يسعى للطمأنينة وسط فوضى العالم، كلاهما يبحث عن السلام الداخلي عندما يشتد الضجيج الخارجي. وللحظة، شعرت أنني لست فقط بصحبة فلاسفة، بل في حضرة رفاق فهموا تمامًا ما أعنيه.
بدأ الحديث بيننا بسلاسة، كما لو أنني أعرفهما منذ الأزل. شرحت لهما كيف أنني أؤمن بمقاربة طريفة – لكنها عميقة – بين الفلسفة الرواقية التي روّجوا لها في روما القديمة، وبين فلسفتي الشخصية التي أسميها: “الرَّوَقان الحديث”.

الفيلسوف-الروماني-ماركوس-أوريليوس الإنسان بين الرواقية والروقان... بقلم: مروة هجرس


نعم، ليس لأن الكلمتين تتشابهان في الوزن واللفظ فقط، بل لأن جوهرهما واحد: محاولة العيش دون الانهيار النفسي أمام وقائع الحياة المؤلمة وطلبات الدليفري المتأخرة.
الفلسفة الرواقية، لمن لا يعرف، هي دعوة للسلام الداخلي وسط ضجيج الخارج. نشأت في القرن الثالث قبل الميلاد، وتبنّاها فلاسفة أمثال زينون، وسينيكا، وماركوس أوريليوس. هؤلاء العباقرة لم يُضيّعوا وقتهم في تويتر، بل جلسوا في “الرواق”، يفكرون كيف يمكن للإنسان أن يعيش حياة فاضلة دون أن يُصاب بالجنون.

يقول سينيكا: “لسنا بحاجة إلى تغيير العالم، بل إلى تغيير أنفسنا”. كلام جميل لو لم يكن التطبيق يتطلب إنترنت فائق السرعة وحجبًا للمكالمات من رئيسك في العمل.
أما ماركوس أوريليوس، ذلك الإمبراطور الذي اختار أن يقاتل نفسه على الورق بدلاً من الاكتفاء بخوض المعارك، فقد كتب: “كل ما نراه هو منظور، لا الواقع”. وهي جملة تصلح تمامًا لو كنت تحاول تبرير فشلك في العلاقة العاطفية الأخيرة.
والآن، دعونا ننتقل إلى الفلسفة الموازية… الرَّوَقان.
الرَّوَقان، يا أحبائي، هو الابن غير الشرعي للرواقية، لكنه أكثر تهذيبًا وأقل تنظيرًا. هو لا يكتب كتبًا، بل يترك تعليقًا خفيفًا تحت صورة كوب قهوة على إنستجرام. هو لا يؤمن بتحكم كامل في الذات، بل يؤمن بتحكم متوسط في مستوى الصوت.
الرواقي يقول: “كن سيد نفسك”. الرائق يقول: “دع الحياة تمر، وتوقف عن التفكير الزائد”.
الرواقي يرى أن العواطف خطر يجب احتواؤه. الرائق يرى أن العواطف مفيدة لو ترافقت مع موسيقى جاز وإضاءة خافتة.
الرواقي يتعامل مع الموت كجزء طبيعي من النظام الكوني. الرائق يتعامل مع أزماته بنفس الفلسفة.
في الحقيقة، كلاهما يبحث عن السكينة، لكن كلٌ بطريقته. الرواقي يسير على جمر المفاهيم الفلسفية الكبرى، والرائق يزحف على سجادة ناعمة من اللامبالاة المتعمدة.
بمعنى آخر، يقدّم لنا “الرَّوَقان الحديث” نموذجًا أكثر بساطة، وإن بدا ساذجًا في الظاهر. الرائق المعاصر لا يدوّن تأملاته، بل يكتفي بنشر صورة لفنجان القهوة، مصحوبة بعبارة مثل: “هدوء ما قبل العاصفة”، ثم لا تأتي العاصفة أبدًا.
الرواقي يتحكم في انفعالاته عبر جهادٍ عقلي، يروض نفسه مثل فارسٍ داخل معركة. الرائق، من ناحيته، يقرر ألا يدخل المعركة أصلاً، مفضّلًا الانسحاب النبيل إلى مقهى بعيد، مزود بموسيقى هادئة وإضاءة خافتة.
الرواقي يعلّمنا كيف نحيا رغم الألم، الرائق يعلّمنا كيف نتجاهل الألم حتى يملّ منا. الرواقي ينظر إلى الموت كجزء طبيعي من الحياة. الرائق ينظر إلى فواتير الهاتف بالطريقة ذاتها، ويتعامل معها بنفس درجة التسليم.

أمثلة ؟
حين تفقد وظيفتك، يقول لك الرواقي: “ركّز على ما يمكنك التحكم فيه: سلوكك، مهاراتك، طريقة تعاملك مع الأزمة”.
أما الرائق، فيقول: “هذا وقت جيد لإعادة تقييم الحياة… وربما تجربة مشروع طهي منزلي”.
حين تُخفق في علاقة شخصية، الرواقي ينصحك بتفكيك الألم إلى مكوّناته العقلية والانفعالية.
الرائق يقترح أن تُشاهد فيلمًا وتطلب بيتزا.
وفي الحقيقة، لا ينبغي لنا أن نحتقر هذا النوع من الفلسفة اليومية. فالرَّوَقان، رغم سطحيته الظاهرة، ليس استسلامًا بل تكيفًا ناعمًا. هو نسخة مبسطة من الرواقية، لا تجهد العقل، لكنها تمنحه استراحة.
وفي نهاية الجلسة، نظرت إلى سينيكا وماركوس، اللذين بدت على ملامحهما علامات ارتباك خفيف.
قلت: “ربما كنتم أنبياء الرواقية، لكن صدقوني، نحن ورثنا عنكم فلسفة لا تقل قيمة… نحن فقط لم نعد نخطّها على لفائف البردي، بل نرتشفها مع الكابتشينو في مقهى هادئ، تحت ضوء خافت وموسيقى جاز.
في عالم ملئ بالفوضى؛ إن لم تستطع أن تبلغ مرتبة الحكيم الرواقي، فتمسك بفضيلة الرائق المتأمل، فأحيانًا يكفي أن تُطفئ إشعارات الهاتف، وتراقب الحياة من الشرفة، دون رغبة مُلحّة في إصلاح كل شيء.
ولا تنسَ لا شيء يستحق القلق… إلا ربما رسالة من البنك تبدأ بـ “نأسف لإبلاغكم…”.

مقالات سابقة للكاتبة اضغط هنا

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات