الإيمانُ لغةً للحبّ.. بقلم: عبد العاطي طلبة .. 7 الدين برداء رحماني

عبد العاطي طلبه

من الجامعة الأزهرية

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8b9d8a7d8b7d98a-d8b7d984d8a8d8a9-3472480530-e1724016000835 الإيمانُ لغةً للحبّ.. بقلم: عبد العاطي طلبة .. 7 الدين برداء رحماني

(7)

الإيمانُ لغةً للحبّ 

  يرنو الرفاعيّ إلى الانتقال بالدين من ضيق الأيديولوجيا إلى سَعَة الأنطولوجيا، ومن أطلال الفقه السَّليط إلى رَبْوَةِ الفلسفة، ومن ركام الكلام الغابر إلى آخرَ إنسانيٍّ جديد، وإلى أنسنة الديني بديلًا عن تديين الدنيويّ، وإلى لاهوت الحريَّة بديلًا عن لاهوت الاسترقاق، وإلى لغة تراحُميّة بدلًا من لغة اصطراعيّة. ويذهب – في أعماله كلِّها – إلى تطهير ساحة الدين من دَنَس السياسة وافتقارها الروحي، وإلى تحرير اللاهوت بديلًا عن لاهوت التحرير، وإلى مفارقة عنف الأسماء إلى أنفاس الرحمان، وإلى عبادة الله عن حب ورغبة لا عن خوف ورهبة، وإلى الارتحال بالدّين من فضاء المعتقد والمذهب إلى رحابة الإيمان حيث تتحدّثُ الأديانُ لغةً واحدة، وحيث يستوحي المؤمنون «إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة؛ تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم»، وحيث يتكشّف «الإيمانُ حقيقةً يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةً تتوحّد في فضائها، ومنبعًا مُلهِمًا للحياة الدينية فيها». 

  ليس تعدُّد الصور الإلهيّة في العالَم إلّا لتعدّد الأفهام واختلاف الأنظار؛ يقول الرفاعي: «صورةُ اللهِ هي أول ممارسة تأويلية مارسها البشر، إذ اشتقّ أول البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمرَّ بنو آدم يصوّرون اللهَ على صورهم المتنوعة، المنتزعة من عوالمهم المتنوعة. بنو آدم لا صورة نهائية يصلون إليها، لذا فإن الله لا صورة نهائية له. اللاتناهي للصور هنا هو لاتناهي وعي بني آدم وتأويلهم». لعلّ ما يذهب إليه الرفاعيّ من تنوّع صُوَرِ اللهِ في أذهان البشر تبعًا لتعدُّد تأويلاتهم الخاصّة استدعاءٌ لما يذهب إليه ابنُ عربي من أنّ تعدُّد الأديان والآلهة في العالم راجع إلى ظهورات أسماءِ الله وتقيُّدها بصورةِ الحقّ في أذهان البشر؛ انظر إليه يقول: «والذَّوقُ مُخْتَلِف، ولمَّا ذُقْنَا هذا الأمرَ كان التّنَزُّلُ فُرْقَانيًّا، فقلنا هذا حلال، وهذا حرام، وهذا مباح، وتَنَوَّعَتِ المَشَارِبُ، واختلفتِ المذاهبُ، وتميَّزَتِ المراتبُ، وظهرتِ الأسماءُ الإلهيَّةُ والآثارُ الكونيّةُ، وكثُرَتِ الأسماءُ والآلهةُ في العالَم». 

  ورغم هذه الرؤية المنفتحة للرفاعيّ في التعدّديّة الدينيّة إلّا أنّه يرى أنّ الإيمان لا يمكن تحقُّقُه إلّا في صورة اتِّباع دين من الأديان، وتلمّس منطقه الخاص في العبادات، فعلى كلّ مؤمن ممارسة دينه بانحصارٍ في منطقها الشعائريّ، إذ الإيمان: «جَذْوَةٌ مُشْتَعِلَة؛ وهذه الجذوة بلا صلاة وطقوس تظلّ تذوي شيئًا فشيئًا حتى تنطفئ. ما لم تتكرَّر الطقوسُ والصلاة في سياق عبادِيّ مرسوم، يذبل الإيمانُ، ويذوي حتى يصير حطامًا… القولُ بأنّ لكل شخص عبادته وصلاته الخاصّة كلام غريب على منطق الأديان… وأغرب منه محاولاتُ بعض الناس ترقيع والتقاط عناصر متضاربة من أديان مختلفة… وممارستها بشكل يمحق الدِّين، وينتحل حالةً زائفةً للإيمان». وبذلك لا يرى الرفاعيّ خلاصًا للإنسان إلّا في الإيمان المُعَزَّز بدين خاصّ له منطقه الشعائريّ، وعلى هذا الدّين أن يكون رحمانيًّا يتوسّل صفات اللهِ في العفو والصّفح؛ يتخلق بها ويتمثّلها في سلوكه تُجاه العالَم… هكذا يعيش الإنسانُ تلتزمه كرامتُه وحريتُه قيمتَين ثابتَتَيْن في كينونة نفسه، ويحيا عين إنسانيّته، فهو مصنوع في أصله على عين الله؛ نفخ فيه من روحه، وعلَّمَه، وظهر من خلاله في هذا العالَم الكبير.

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8acd8a8d8a7d8b1-d988-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8acd988d8a7d8af-d98ad8a7d8b3d98ad986- الإيمانُ لغةً للحبّ.. بقلم: عبد العاطي طلبة .. 7 الدين برداء رحماني

 يصير الإنسانُ هكذا إنسانًا متجانسًا بالألوهية الكامنة فيه؛ يسلك في عالمه سلوكًا إيمانيًّا متوسِّلًا رحمة الإله، متخلِّقًا بأخلاقه عفوًا وصفحًا، وبذلك ينطوي الشرُّ الدينيّ في العالم منطمسًا بتآلف الأديان في طيَّاتِ الفضاء الإيماني، ومساقاتِه المنبسطة بالحبّ.

 يقول فلاسفةُ اليونان إنّ الإنسانَ حيوان ناطق، والنطق فيه علامة على وجود العقل الذي يمتازُ به عن سائر الحيوان، ويقول الرفاعي إنّ الإنسانَ حيوان كريم؛ حيوان بما أُودِعت فيه من حياةٍ هي نفخة إلهيّة مخصوصة، وكريم بالمنح والفضل الإلهيّ السَّاري في وجوده؛ «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء: 70). تتخذ الكرامة في سياقها القرآني قيمة عليا تبتني عليها وتشتق منها قيم الدين ومقاصده عند الرفاعي. يتحدث عن هدف كتابه الأخير “الدين والكرامة الإنسانية” بقوله: “هذا كتابٌ ينطلقُ من الإنسان إلى الدين، مفتاحُ فهمه للدين ونصوصه هو الكرامةُ الإنسانية بوصفها مقصدَ مقاصد الدين.‏ الإنسانُ يولَد مُكرّمًا، لا يكتسبُ الإنسانُ الكرامةَ بعدَ ولادته، الكرامةُ توجدُ بوجودِ الإنسان وتلبث معه أبدًا حيثما كان. الكرامةُ رديفةُ الاستخلاف، خليفةُ الله في الأرض جعله اللهُ قَيِّمًا وحافِظًا ووكيلًا ونائبًا عنه في الأرض”.

  من مهامِّ الدِّين الرحمانيّ – الذي أرادَه الله، والذي يفتقر إليه الإنسان لنفي اغترابه في انفصاله عن الله – أن يحافظ على كرامة الإنسان، وأن يُرَسِّخ وجودها في العالَم، فـ «التكريمُ هنا تكريمٌ عامٌّ يتسع لكلِّ بني آدم، وهو مقامٌ وجودي، أي أنَّه مكوّنٌ ذاتيّ للكينونة الوجودية للإنسان مطلقًا، بغضّ النظر عن جنسه ولونه ومعتقده، وغيرِ ذلك مما هو خارج كينونته الوجودية». 

خِتَامُ رَاجٍ

  عانقتْني أوراقُ الإيمانِ تلك فعانقتُها، وتحسَّسْتُ بها شغافَ قلبي، ومواطنَ الحبّ داخلي، فكنت أقرأ نصوصَها، فلا تمكث تقرأني وتصوّبني، ترميني وتتلقّفُني، منهمرةً عليّ دون إمساك، منسابة عليَّ نهرًا يروي الظامئ وما وَرَد، مناجيةً إيّايَ نجوى حبيب انشقّ الفؤادُ عنه، بصدق أقول إنَّنِي خرجتُ عنها إليها في طور وجوديّ آخر، وشأن من شؤون الله. خرجتُ عنها مبهوت العقل، آمِن القلب، وديع الروح، مُتَمَثِّلًا غاية الرفاعيّ في قوله: «غرضُ كتاباتي سكينةُ الروح، وطمأنينةُ القلب، وإيقاظُ العقل».

  طالعتُ هذه المجموعة وطالعتْني، قرأتُها وقرأتْني، وما خرجتُ عنها يوم خرجتُ إلّا إليها، أَتَظَاهَرُ بها عليها. إنّها رحلة إيمانيّة لمن أراد الإيمان، ودفاتر نقديّة لمن رام العقل، وأفكار مثيرة لمن أراد الجدل. 

d8b5d988d8b1-d985d8a4d984d981d8a7d8aa-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8acd8a8d8a7d8b1-d8a7d984d8b1d981d8a7d8b9d98a-d985d8acd8aad985d8b9d8a9 الإيمانُ لغةً للحبّ.. بقلم: عبد العاطي طلبة .. 7 الدين برداء رحماني

 وكما تظهر الأسماءُ الإلهيّة في العالم وتتكشّف وتتجلّى في محالِّها، فإنّه ما عاينتُ اسمًا ظاهرًا في منطوقها، أو كامنًا بين ألفاظها وسطورها كاسم الله الرحمن الرحيم الذي لم يغب عنّي لحظةً مدّةَ إقامتي بجنباتها، ونزولي عليها، ونزولها عليّ. ويكفيها حسنًا وجمالًا ما أُلْبِسَتْ من رداء رحمانيّ، ولا أحسب يخلو قُرَّاؤها عن أربع؛ متفاعل معها بالقبول والإثبات في عصر يعتريه الشكُّ والريبة، أو معتبرٍ إياها نصًّا مؤسِّسًا يُحشِّي عليه شرحًا ونقدًا، أو مستضيئٍ بها أمورًا وأبوابًا لم يطرقْها قبل، أو مُناهضٍ للمقدَّس تَحَيَّد بها إن قرأها دون استبداد مِنْ تَحَيُّز. 

  وأنتهي إلى قول ورجاء؛ تمتاز هذه المجموعة في أجزائها وثناياها التي تناقش ما يتعلّق بالدين، بطريقة مازجة بين العقل والروح والأسلوب الأدبي بأنّها الأفضل والأكثر نجوعًا وتأثيرًا في رأيي، وما زلتُ أرجو الرفاعي كتابة سيرته الذاتية بأسلوبه الأدبيّ الفلسفيّ، وألّا يحرمنا تدوين رواية أو قصّة تحكي فلسفتَه الإيمانيّة – على الطريقة الحديثة – يحشد فيها آراءه الدينيّة بطريقته التي يَغْشَى فيها الروحُ العقلَ، والعقلُ الروحَ، فتنفذ إذا ما كان النفاذُ بسلطان.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات