الإِوَزُّ والشِّعْرُ .. قصة .. ترجمة: أنطونيوس نبيل
تأليف: سيجيزموند كرچيچانوفسكي
أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

يعلمُ الجميعُ أنَّ الإوَزَّ أَنْقَذَ روما والأدبَ، كان المِنْقَاشُ (القلمُ المصنوعُ مِن المَعْدِنِ أو الغابِ أو العاجِ والذي تُنْقَشُ بِهِ الكتابةُ على الألواحِ الطِينِيَّةٍ أو الألواحِ الخَشَبِيَّةِ المَكْسُوَّةِ بطبقةٍ مِن الشَّمْعِ) قد صارَ أداةً أَخْمَلَ الدَّهْرُ ذِكْرَها واجْتَثَّهَا النِّسْيَانُ مِن دفءِ أصابعِ الكُتَّابِ، وكان القلمُ الفُولَاذِيُّ ذُو الحِبْرِ السَّائِلِ لم يزلْ مُضْغَةَ هَاجِسٍ فِي رَحِمِ الغَيْبِ لم يَحِنْ مَوْلِدَهَا بَعْدُ؛ فجاءَ المُخَلِّصُ في ملءِ الزَّمَانِ على هيئةِ قلمٍ مَصْنُوعٍ مِن ريشةِ الإوَزِّ مَلْدَاءِ القوامِ مُرْهَفَةِ النَّصْلِ، ظَلَّت الرِّيشةُ -وقد غُمِسَتْ الذُّؤَابَةُ المُؤَسَّلَةُ لنصلِها الأبيضِ في الحِبْرِ الأَسْوَدِ- تَبْعَثُ عبرَ القرونِ المُتَعَاقِبَةِ صَرِيفًا يُورِدُ الفكرَ الإنسانيّ مَنَاهِلَ النَّفْعِ ومَهَالِكَ الضَّرِّ، زمنٌ يَفَتَرُّ وزمنٌ يَتَجَهَّمُ وهي عَاكِفَةٌ على تَحْوِيلِ قَطْرَاتِ الحِبْرِ إلى كَلِمَاتٍ.
يُحْكَى أنَّهُ كان، في سالفِ العَصْرِ والأوان، شاعرٌ رقيقُ الحَالِ كَاسِفُ البالِ، لم تُسْعِفْهُ يَدُ حَظِّهِ المَنْكُودِ بما يَسُدُّ رَمَقَ أَمَلِهِ المَوءُودِ مِنْ يَسِيرِ الصِّيتِ أو زَهِيدِ المالِ؛ فقد بَلَغَ بِهِ شُؤمُ الطَّالِعِ أنَّهُ حالما انتهى مِن تدبيجِ قصيدةٍ في مدحِ رَجُلٍ مِن النُّبَلاءِ، وقبلَ أنْ يَجِفَّ حِبرُ الأبياتِ المُتْخَمَةِ بفَيْضٍ مِنْ رَوْنَقِ الثناءِ، جُرِّدَ الرَّجُلُ مِن لَقَبِهِ الرَّفِيعِ وجُرِّسَ عَلَى مَرْأًى ومَسْمَعٍ مِنَ الجميعِ. ومِنْ أماراتِ نَحْسِهِ العُضَالِ أنَّهُ ظَلَّ يبذلُ قُصَارى وُكْدِهِ وَكَدِّهِ لمُدَّةٍ طويلةٍ كي يَتَمَكَّنَ مِنْ إتمامِ نَظْمِ أغنيةٍ واحدةٍ احتفاءً بقدومِ الرَّبيعِ؛ غادرَ الرَّبيعُ وانقضى الصَّيْفُ وَحَلَّ الشِّتَاءُ، وأغنيةُ الربيعِ لا تزالُ تَتَرَنَّحُ في موضعِها مخمورةً ببطئها المُعَتَّقِ، فَلَمْ تَكُنْ التَّقَاوِيمُ بِكُلِّ مَا تَحْوِيهِ مِن مواقيتَ إلَّا أبوابًا مُوصَدَةً في وَجْهِ تحفتِهِ الشِّعْرِيَّةِ المُرْتَقَبةِ.
كانَ الشاعرُ الفقيرُ وقد أعوزَهُ قُوتُ يَوْمِهِ يَتَجَشَّمُ جُوعًا مُوبِقًا نَاشِبَةٌ بَرَاثِنُهُ في مَطَاوِي أحشائهِ، لكنَّهُ لم يَتَضَرَّعْ مُسْتَجْدِيًا الصَّدقاتِ، بَلْ ظَلَّ يَبْتَهِلُ إلى الآلهةِ أنْ يُنْعِمُوا عليه بالإلهامِ. وفي يومٍ مِن الأيامِ استجابتِ الآلهةُ لدُعَائِهِ وَغَشِيَهُ الإلهامُ أخيرًا؛ فَأَمْسَكَ بريشةٍ –وكانتْ آخرَ مَا تَبَقَّى لَدِيهِ مِن رِيشاتِ الإوَزِّ المَنْذُورةِ للكتابةِ- وأَغْمَدَهَا في بَطْنِ المِحْبَرَةِ، وما إن شَرعَ يَخُطُّ حتَّى انكسرتْ ريشتُهُ الوحيدةُ للأسف؛ إذ كانتْ يَدُهُ العَجلَى أشدَّ اِرْتكاضًا مِنْ لَمْعِ البَرقِ حينَ يَلْتَاحُ. نَهَضَ الشَّاعرُ يُفَتِّشُ عن ريشةٍ أخرى؛ فالإلهامُ خَاطِفٌ، مَثَلُهُ في وَجَازَةِ العُمْرِ كمَثَلِ صرخةِ الرَّعْدِ.
في تلك اللحظةِ ذاتِها، سُمِعَتْ خارج النافذة صيحةٌ موزونةٌ في معيارِ عَرُوضِ الشِّعْرِ بريئةٌ مِنَ الزِّحافاتِ والعِلَلِ مِن بحرِ مَجْزُوءِ المتقارب: “كرا-كا كرا-كا كرا-كا”، فتحَ الشَّاعرُ البابَ، فإذا بِذَكَرِ إوَزٍّ وأنثاه يَمُرُّانِ أمامَ الشُّرْفَةِ، يتبخترانِ في دَعَةٍ وتأنٍ بأقدامٍ يَجْعَلُهَا صِفَاقُ أَصَابِعِهَا أَشْبَهَ بِمَرَاوِحَ يَدَوِيَّةٍ، قاصدين أقربَ بِرْكَةِ ماءٍ، نَزَل الشَّاعر درجاتِ الشُّرفةِ في لَمْحِ البَصَرِ وَأَطْبَقَ يَدَهُ اليسرى على عُنُقِ ذَكَرِ الإوَزِّ واقتلعَ بحركةٍ خاطفةٍ ريشةً مِنْ طويلِ قوادمِ جناحِهِ.
تَلَفَّتْ الشاعرُ حَوْلَهُ -وقد خَامَرَهُ شعورٌ بالخَجَلِ- ليَتَيَقَّنَ مِن أنْ لَمْ تَرَهُ عينٌ غريبةٌ، ثُمَّ غَمْغَمَ قائلًا: “لم أُقْدِمْ على هذا الأمرِ إلَّا ابتغاءَ وَجْهِ الشِّعْرِ المُقَدَّسِ.” كانَ ذَكّرُ الإوَزِّ يَجأَرُ بصرخاتٍ تُثِيرُ الشَّفقةَ، وما إنْ ارتَخَتِ الأَصَابِعُ عَنْ عُنُقِهِ، حتَّى وَلَّى هاربًا غَيْرَ مُتَلَدِّدٍ ولا مُتَرَدِّدٍ.
آبَ الشَّاعِرُ إلى الورقةِ والمِحْبَرَةِ، لكنْ، وا أسفاه، كانتِ الرِّيشةُ في قَسْوَتِهَا وحِدَّتِهَا أشبهَ بمنقارٍ؛ فما كان مِن نَصْلِهَا إلَّا أَنْ سَحَجَ الورقةَ حتَّى بَعَجَهَا، كأنَّ بينَهُ وبينَ الإلهامِ المُنْزَلِ مِنَ السَّماءِ ثأرًا مُسْتَعْصِيًا لا سَانِحَةَ فِيهِ لِعَفْوٍ أَوْ دِيَّةٍ. انطلق الشاعِرُ يُطَاردُ ذَكَرَ الإوَزِّ، يَسْتَحِثُّهُ غَضَبٌ يُؤَجِّجُهُ نَفَادُ صَبْرِهِ. وما إنْ لَمَحَ ذكرُ الإوَزِّ طَيْفَ مَنْ سَامَهُ العذابَ، حتَّى حاولَ أنْ يَفِرَّ بريشاتِهِ، وحالما وَجَدَ أنَّ ساقَيْهِ القصيرتَيْنِ عاجزتانِ عن أنْ تُحَقِّقَ لَهُ فرارَهُ المنشودُ بخطواتِهما المُبْتَسَرَةِ؛ آزَرَهما برفرفةٍ مِن جناحَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَا -ذاتَ يومٍ مِن أيامِ الزَّمنِ الغَابِرِ- قَادِرَيْنِ على تمكينِ أَسْلَافِهِ مِن التَّحْلِيقِ في أجوازِ السَّماءِ، لكنَّ رفرفةَ جناحَيْهِ لَمْ تَهَبْهُ قُدْرةً على الطَّيَرَانِ، بَلْ اِكْتَفَتْ بأنْ تُعِينَهُ على الوَثْبِ؛ فَمَا كانَ مِن الشاعِرِ –الذي يَتَضَرَّمُ غَيْظُهُ إلهامًا- إلَّا أَنْ لَحِقَ بِذَكَرِ الإوَزِّ أخيرًا.
هذه المَرَّة، قبلَ أَنْ يَنْتِفَ الشاعرُ ريشةً جديدةً قامَ بتمريرِ أصابعِهِ الرَّاجفةِ على طول الجناحِ بحركةٍ مُتَوَاصِلَةٍ زاحفةٍ (أشبه بحركةِ الجليساندو التي تنزلقُ فيها أصابعُ عازفِ البيانو على مفاتيحِ الآلةِ حينَ ينتقلُ مِن نغمةٍ إلى أخرى) واصْطَفَى بعنايةٍ ريشةً ذاتَ زَغَبٍ أبيضَ مَلْدَاءَ ليستْ شديدةَ القَسَاوَةِ ولا مفرطةِ الرَّخاوةِ ثُمَّ اقتلعَهَا. كانَ ذَكَرُ الإوَزِّ يَئِنُّ بصياحٍ مُتَوَاتِرٍ لا ينقطعُ، وكانتْ أنثاهُ طَوَالَ الوقتِ تُحَوِّمُ حَوْلَ الشاعِرِ ثَائِرةً غَضْبى: تَتَعَهَّدُ كَاحِلَهُ الأيسرَ بالنَّقْرِ المرَّةَ تِلْوَ الأخرى، لكنَّ الشاعرَ لَمْ يَلْحَظْ شيئًا مِنْ هذا، وإنَّمَا ضَمَّ ريشتَهُ المُصطفاةُ إلى صَدْرِهِ وهو يُكَفْكِفُ دموعَ البَهْجَةِ التي أَهْرَقَتْهَا عيناهُ ويَمْسَحُ نُهَيْرَاتِ العَرَقِ التي سالتْ على جَبِينِهِ، وغَمْغَمَ مُكَرِّرًا: “آهٍ أيُّها الشِّعْرُ، آهٍ أيُّها الشِّعرُ المُقَدَّسُ، أيُّهَا الشِّعْ…” وقبلَ أنْ تنقضي دقيقةٌ تامَّةٌ كان الشَّاعرُ قد تَوَارَى خَلْفَ بَابِ بيتِهِ.
كانَ فَزَعُ ذَكَرِ الإوزِّ وأنثاهُ جَذْوَةً مُسْتَعِرةً في قلوبهما لَمْ تَكُنْ لتَخْمُدَ سريعًا، إلَّا أنَّهما بعدَ بُرهَةٍ مِن الوقتِ رَجَعَا إلى رُشْدِهما ونَفَثَتِ الطُّمأنِينَةُ أنفاسَهَا المُنْعِشَةَ في رُوعِهما، فَذَهَبَا معًا إلى بركةِ الماءِ. إنَّ المشاعرَ القَوِيَّةَ تَتْبَعُهَا شهوةٌ إلى الطعامِ؛ لذلك حينما وَصَلَ الزَّوْجَانِ إلى بركةِ الماءِ العَكِرة، بادَرَا إلى غَمْسِ مناقيرَهما –الصَّفراءَ، كَلِيلَةَ الحَدِّ، الشبيهةَ بِسَاقِ الكُرُنْبِ- في حَسَاءِ الرَّدْغَةِ الشَّهِيِّ الدَّسِمِ الذي يَغُصُّ بالحبوبِ والدِّيدَانِ.
تساءلتْ أنثى الإوَزِّ: “ذاك الرَّجُلُ، كرا –كا، ما اسمُهُ، كرا-كا، الذي ظّلَّ يصيحُ مُرَدِّدًا: الشِّعْرُ الشِّعْرُ. ما هو الشِّعْرُ، كرا-كا، يا زوجي الحبيب؟”
رَفَعَ ذَكَرُ الإوَزِّ رأسَهُ عاليًا؛ كي يَتَيَسَّرَ للحبوبِ أنْ تَهْبِطَ إلى حَوْصَلَتِهِ بسهولةٍ ويُسْرٍ، ثُمَّ أجابَ أُنْثاهُ قائلًا: “إنِّي الآنَ أعلمُ حَقًّا ما هو الشِّعْرُ… الشِّعْرُ يَقينًا هو… الشِّعرُ هو… آه… نعم… هو حِينَ تُؤلِمُكَ رِيشَتُكَ.”
ثُمَّ أَخَذَ الزَّوجانِ يَأْكُلَانِ مِن جديد.
1937
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد