التقليد والشريعة..كيف تغير مفهوم الشريعة تحت تأثير الاستشراق والتحديث!.. بقلم: أشرف قنديل
تقليديًا وعلى مدى أكثر من اثني عشر قرن من الزمان كان مبدأ “عصمة الأمة” عند أهل السُنة والجماعة هو المقابل لمبدأ “عصمة الأئمة” عند الشيعة، ولذلك كانت المرجعية في الإسلام السني للجماعة وليست للشريعة، ليس فقط في إدارة الشأن العام، بل من خلال الإجماع في الدين أيضًا.
أشرف قنديل

كان مبدأ عصمة الأمة عند أهل السُنة والجماعة هو المقابل لمبدأ عصمة الأئمة عند الشيعة، ولذلك كانت المرجعية في الإسلام السني للجماعة وليست للشريعة، ليس فقط في إدارة الشأن العام، بل من خلال الإجماع في الدين أيضًا، (فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حَسَن) (حديث موقوف على ابن مسعود، رواه أحمد في مسنده). (إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ) (حديث مرفوع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه الترمذي في سننه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما).
مع تصدع التقليد تحت وطأة التحدي الحضاري الغربي الهاجم وبداية تشكل الدول الوطنية العلمانية الحديثة بعد سقوط الخلافة العثمانية، برزت مسألة “الشرعية” في الدين والمجتمع والدولة من خلال الحركات الإحيائية الدينية (بشقيها السلفي والإصلاحي) التي أثارت تلك القضية حيث اعتبرت أن المجتمع والدولة قد فقدا الشرعية وهذا اعتقاد وأهم ومفتعل – في رأيي – كما سنرى.

هدأت السلفية بعض الشيء بعد قيام ما سُمي دولة “الكتاب والسنة” في الجزيرة العربية على يد الملك عبد العزيز آل سعود. قالوا صار عندنا دولة ولذلك لم يهتم السلفيون بسقوط الخلافة العثمانية لأنهم كانوا ضدها أصلاً بل خرجوا عليها وقاتل الوهابيون ضدها على مدى أكثر من قرنين من الزمان، كذلك رفض الملك عبد العزيز آل سعود، وأسرته من بعده، فكرة استعادة الخلافة لإدراكه جيدًا بأن المسلمين لن يعطوا آل سعود أمارة المؤمنين، بل سيعطونها لآل النبي – للشريف حسين وقتها- أو حتى للملك فؤاد في مصر، فعليها متنافسون كُثر.
وبعد ما يمكن تسميته ب”تحييد” التيار السلفي بقيام دولة “الكتاب والسنة” أو الدولة السعودية، اتجه التيار الآخر من الحركة الإحيائية وهو التيار الإصلاحي إلى الإجابة على التحدي من خلال الجمعيات والحركات في مصر والهند وسوريا ومن ثم باقي العالم الإسلامي (حيث ظهرت حركات إحياء الخلافة مثل “حركة الخلافة” ثم الجماعة الإسلامية في الهند أولاً، ومن ثم ظهرت في مصر “جمعية الشبان المسلمين” و”حركة الإخوان المسلمين” وقبلهما “الجمعية الشرعية”، وفي سوريا ظهرت “جمعية الخلافة”.
وكأي حركة من حركات “الإحياء الديني” عملت تلك الجمعيات على استعادة الشرعية الدينية التي اعتبرتها قد فُقدت -حسب زعمهم- بسقوط الخلافة، وذلك من خلال الاهتمام بالثقافة والتربية فهي جمعيات عقائدية أولًا ولم تهتم في تلك المرحلة بالمسألة السياسية والملف السياسي لأنها تريد استعادة (الشرعية الدينية) ولذلك فأنها تريد عمل “بناء جديد” لتلك العقائد التي تعتبرها قد فُقدت؟!
فبعد سقوط الخلافة مباشرة نجحت الحركات “الإحيائية” بالهند – والتي كانت في ذلك الوقت موطنًا لأكثر من نصف مسلمي العالم- نجحت في تحويل النقاش الرئيسي بين المسلمين هناك لقضية أن الهند لم تعد دار إسلام، فكيف يكون هناك شرعية؟! فهم لم يقبلوا “فكرة المواطنة” فالمسلمون لا يقبلون أن يحكمهم غيرهم، وهذا أمر لم يكن معروفًا قبل ذلك الحين، فقد كان ثلاث أرباع المسلمين الهنود تقريبًا في مطلع القرن العشرين أعضاء في حزب المؤتمر الهندي الذي كان يسعى للاستقلال عن بريطانيا، ومن ثم ظهرت تلك النزعة والتي كان ملخص خطابهم هو أنه (لا ولاية لغير المسلم على المسلم)!. الهند لم تعد دار إسلام وغاندي كافر ولا يمكن أن نخضع له أو نخضع لما يسمى الأكثرية لأنها هندوسية.
كان كل هذا الوعي هو وعي مستجد، وعي مُحدث، وعي فصامي، ظهر لدى المسلمين بتأثير تلك الحركات “الإحيائية”. كانت تلك الجمعيات “هامشية” في المشهد العام وما كانت تُعنى بالشأن السياسي مباشرة شأن كل الجمعيات الإحيائية في مراحلها الأولى،كالحركات الإحيائية البروتستانتية التي تعود دائمًا للحظة التأسيس وترفض التقليد الكنسي المُتبع، ولأنهم يعودون للقرآن والسنة مباشرة ويرفضون التقليد الإسلامي كله – يعتبرونه 1300 سنة من التحريف – فبالكاد نجا منهم الراشدون لحديث الخلافة ثلاثون عامًا، ثم بدأ الانحراف مع معاوية؛ حيث استند بعضهم لكلام الإمام أحمد بن حنبل في رده على سؤال: أكان معاوية خليفة؟ حيث قال: لا، إنما كان ملكًا من ملوك المسلمين، وقد اتفق الناس على أن معاوية هو أول ملوك المسلمين.
دفع الإحياء “الفصامي” الجديد هذا باتجاه انفصال المسلمين في شبة القارة الهندية وإنشاء دولة باكستان، وتحول الإخوان المسلمين بمصر في التنظيم والعمل على إعطاء مضامين جديدة لمقولة “الشريعة”!
كان مفهوم الشريعة – تقليديًا وتراثيًا – موازيًا للدين ذاته، بل هي الدين، هكذا كان يجري تداول المصطلح الذي يرد على قلة في القرآن (فأحيانًا يتم التعبير عن الإسلام بالشريعة) كما ورد في قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية 18).
فالشريعة هي المنهج وهي الدين. لكن الأمر لم يعد كما كان في السابق عندما كان يقول المسلمون إن المرجعية في الإسلام السني ليس للشريعة، بل للجماعة، ليس فقط في إدارة الشأن العام، بل من خلال الإجماع في الدين أيضًا! فصاروا يقولون إن “الشرعية” قد فُقدت ويجب استعادتها من خلال استعادة “الشريعة” فاضحت الشرعية الدينية هي الشريعة والشريعة هي مصدر الشرعية عندهم!.
فما هي الشريعة إذن؟ لم تعد الشريعة هي العقائد والعبادات كما كانت في الدين عندما كانت الشريعة توازي الدين أو هي مرادف لكلمة الإسلام أو للدين أو للعقيدة.
كيف تحول مفهوم الشريعة

لقد تحول مفهوم الشريعة التقليدي لدي المسمين، لكن السؤال هو كيف حدث ذلك التحول ومن تولى كبر تلك البدعة بالتعبير التراثي؟!
كان المستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر (1850 – 1921 م) هو أول من أستخدم كلمة الشريعة بالمعنى القانوني الفقهي في كتابه العقيدة والشريعة في الإسلام.
التقط “الإحيائيون” الخيط وبدأوا بالاشتغال على الشريعة باعتبارها هي النظام الإسلامي الكامل بعقيدته وجوانبه القانونية ومعاملاته وأخلاقياته وكلها تشكل كلًا مصمتًا، والعجيب أن الذي بدأ في ذلك هو الفقيه القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري – أحد أعلام المنتج العلماني في مصر- وذلك في أطروحته عن (الخلافة) لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة ليون بفرنسا، والتي تم نشرها باللغة الفرنسية عام 1926م، تحت إشراف الفقيه القانوني الكبير إدوارد لامبير أحد أعلام القانون الفرنسي!.

كانت وجهة نظر السنهوري ببساطة هي أن الشريعة هي الجانب القانوني وهو جانب كامل، فنطبقها في الدولة الجديدة “الحديثة” مثلما يُطبق قانون نابليون في فرنسا، الشريعة هي القانون، فحكم الشريعة مثل حكم القانون، أما رأس الدولة فيمكن التخلي عن منصب الخليفة ويأتي أي رئيس، فالمهم حتى تُستعاد الشرعية الإسلامية أن يتحول الفقه الإسلامي إلى منظومة قانونية مقننة “تقنين الفقه الإسلامي” بحيث يصبح هو الجانب القانوني الكامل “الدستوري والقانوني” فإذا طُبق كما يُطبق قانون نابليون في فرنسا يصير حكم الشريعة كحكم القانون، ولا يهم حينها طريقة انتخاب الرئيس، أما الخلافة فتحل محلها منظمة للأمم الإسلامية “سماها الشرقية”.

أخذ الإخوان المسلمون – حسن البنا – أطروحة السنهوري تلك إلى جانب كلام رشيد رضا السلفي وعملوا على تطويرها لتشمل أيضًا رأس الدولة بحيث يصبح نظامًا كاملًا مصمتًا ولم يهتموا بتسميته بالخلافة، فقد سماه بعد ذلك أبو الأعلى المودودي عام 1941 بالحاكمية. وهذه الحاكمية الإلهية لا توجد في مصر إلا في تنظيم “الإخوان المسلمين” فقد تركزت فيهم “الشرعية”، لذلك فيجب أن يصلوا إلى السلطة حتى تُستعاد الشرعية. ولما كان الوصول إلى السلطة لا يمكن في مصر بطريقة باكستان -أي الانفصال- فلا يتبقى إلا أحد سبيلين. إما السبيل القطبي الجهادي وإما الأيمان بأن ألسنة الخلق أقلام الحق، فيمكن الوصول للسلطة بالانتخابات أو التسلل أو الثورة أو حتى الانقلاب – كما حدث في السودان مثلًا – المهم هو أن تصل الشرعية ممثلة في الإخوان للسلطة، حينها لا تكون للدولة مهمة إلا تطبيق الشريعة وليست إدارة الشأن العام، لكي نعود مسلمين فنحن لسنا مسلمين الآن، إما غفلة وإما كفرًا.
في السبعينات كان السلفيون المتشددون يرون أن هذا التخلي عن الإسلام من قبيل الكفر بينما يرى الإخوان المسلمون أن غياب الإسلام هو من قبيل الغفلة، هذا باستثناء الأجنحة الراديكالية من الإخوان كالجماعة الإسلامية ممثلة في تنظيم التكفير والهجرة وجماعة الجهاد وغيرها من الجماعات التي انشقت عن الإخوان والذين قالوا لقد كفر الشعب المصري وكفرت الحكومة المصرية، فالجميع قد فقد الشرعية لأنهم لا يطبقون الدين الذي راح يتقزم عندهم لينحصر في مفهوم الشريعة بالمعني الفقهي القانوني -كما ذكرنا- ثم أخذ يتقزم شيئًا فشيئًا لينحصر في مسألة تطبيق الحدود التي وبالمناسبة لا نكاد نرى لها تطبيقًا عملياً يُذكر كما تخبرنا سجلات تمتد لعقود من سجلات المحاكم الشرعية وكتابات الحوليات الإسلامية وهذا موضوع أخر!.
المقال كان تعقيب غير مباشر علي هذه الندوة
يمكن الاستماع الى تسجيل صوتي بالضغط هنا
ويمكن الاطلاع علي ملخص الندوة بالضغط هنا
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد