الجزيرة العربية ما قبل الإسلام… بقلم: كلاوديو. لو. ياكنو Claudio. Lo. Jacono، ترجمة: عماد السعيد
كلاوديو. لو. ياكنو Claudio. Lo. Jacono

المحتوى:
مقدمة تمهيدية، نماذج وقوالب، الحتمية الجغرافية. حضريين وبدو رحل، مشكلة المصادر، المشاكل اليومية، مدرسة وانسبرو الشكوكية.
مقدمة تمهدية
إنه لمن الضروري وقبل أن نعرض بصورة بانورامية لمجمل الأبحاث بالقرن العشرين التي تناولت شبه الجزيرة العربية في مرحلة ما قبل الإسلام، أن نتأمل تلك الحقبة التي سينعتها القرآن لاحقا بالجاهلية _ وهي تعني ” الجهل” برسالة الله المرسلة على خاتم أنبياءه محمدا بواسطة جبريل _ ولم تنحصر فقط بتلك الحقبة التي كان فيها الوثنيين أو عبدة الجن (باستثناء الهينوثية. { وتعني: عبادة إله واحد مع عدم إنكار وجود أو احتمال وجود ألهة أخرى. أو تعتبر أن الله واحد في جوهره ولكن له أوجه أو ظهورات متعددة. المترجم } ) يشكلون بنية مجتمع شبه الجزيرة العربية، على الأقل حتى قيام مجتمع يثرب الإسلامي الجديد “الأمة”.
في الواقع إن دراستنا ينبغي أن تتناول إشكالية تكوين القرآن: ذلك النص الذي يعتبره الإسلام على وجه الدقة ” أنزله” الله للناس بالعقد الأول من القرن السابع الميلادي. إنه يشكل في الواقع وبشكل متعاقب _ وليس فقط بالنسبة لمؤرخ الأديان _ الرافد العقلي للبيئة الثقافية والحضرية لمجتمع مكة والمدينة بمرحلة ما قبل الإسلام. والتي فيهما أُصِل وتطور واكتمل مجمل النظام السياسي والروحي الذي يجسده النص الإسلامي المقدس.
وربما يكون مرهقا نوعا ما أن نعتبر أنه دون فهم الجاهلية لا يمكن فهم الإسلام بشكل تام. وهذا لكون قيمه لم تكن متوافقة دائما مع الأفكار التي كانت متأصلة بتلك الحقبة، والتي خاضت معها صراعا كان سهلا وغير مرهق اجتذاذها. وتقاسم القرآن بشكل حتمي تلك الحقبتين، ولايختلف في ذلك عن تلك المؤلفات الشعرية التي وضعها المخضرمون والذين، احتفظوا بنمط ما من الثقافة الوثنية التي جلبوا عليها، ومع ذلك، فقد عاشوا أخر الأمر في عالم تحكمه بالفعل قيم جديدة انبثقت من الرسالة الإسلامية، فتواجدوا على الأغلب في واقع ممزق بين حقبتين في صراع غائي متجذر وإن كان من الناحية البنيوية لا زال يتقاسم عددا لا بأس به من القيم الأنثربولوجية التي تحفز وتحرك الناس في مجتمعاتهم (Cfr. Fares 1932).
وكنقطة إنطلاق لفحصنا، ولكن بالتأكيد ليس من منطلق نزعة وطنية عبثية، يبدوا ناجعا لنا الإنطلاق من الأبحاث التي بدأها العالم الروماني الكبير ليوني كايتاني 1869 -1935 بأعماله ( حوليات الإسلام Annali dell Islam ). وذلك حتى قبل إعادة بناء الصورة المركبة للأحداث التاريخية المؤسسة للظاهرة الإسلامية. فالأمير الخامس لتينو ( يقصد به المستشرق ليوني كايتاني، المترجم ) كان عليه أن يركز أيضا على تلك الفترة التي سبقت عام 610 م : التي يشار إليها تقليديا بأنها السنة التي قد نزل فيها الوحي القرآني وذلك بالإتصال بين جبريل ومحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي بغار حراء على أطراف مكة.
ومع ذلك ، فإن دراساته للتاريخ الشرقي ، مكنت ” شيخ الإستشراق” من عرض أطروحة متناسقة بما فيه الكفاية عن هذا العالم، والتي كانت المعلومات عنه غائبة تماما تقريبا. ففلسفته الوضعية المقنعة، قد فرضت عليه مقاربة علمانية صارمة في مجابهة الظاهرة الإسلامية وما يدعمها، ففي أعماله لم ينقصه أن يعبر عن انتقادات تاريخية وفيلولوجية حادة. فيما يخص الشكوك القوية تجاه البنية السائدة والمتحيزة في الأغلب التي تقدمها وجهة النظر الإسلامية عن الحقبة السابقة عليها، وفي الغالب يعتمد عليها في المعلومات عن الجاهلية، إن كايتاني لم يفقد الثقة نهائيا ( بسذاجة في بعض الأحيان) من أن هناك حقيقة جوهرية مخبأة فيها، يمكن للباحث أن يكشف عنها في النهاية، شريطة أن يكون مسلحا بالنية الحسنة وبالصدق.
نماذج وقوالب
إن الدراسات في عصر كايتاني المرتبطة بماضي منطقة وسط وشمال شبه الجزيرة العربية قبل الإسلامي ودارسات منطقة الجنوب كانت لا زالت مرتبكة في مرجل الدراسات السامية، حيث كانت الأولوية المطلقة مخصصة كتقليد عتيق للدراسات اليهودية، والدليل غير المباشر على ذلك هو الإستدعاء واسع النطاق للغة العبرية في مجابهة النقوش المتصلة باللغات الجنوبية ( السبئية_ والمعينية_ والحضرمية_ القتبانية أو الأوسانية) كما شهدت على ذلك مدونة النقوش السامية Corpus Inscriptionum Semiticarum (CIS) التي دشنت في وقت سابق على يد أرنيست رينان، وحتى عندما تم تضمين السياق الحميري، مدونة النصوص الحميرية Corpus Inscriptionum Himyariticarum ) CIH)_ وكان للأمر نتيجة مختلفة فيما يخص النقوش الصفائية، والتي يمكن رؤيتها في النقوش السامية ( Cfr. Derenbourg 1950-1951 . Littmann 1943). لم يُرغب في الإستغناء عن اللغة التوراتية في دراسة هذا النوع من النقوش، في حين أن اللغة العربية كانت تبدوا ملائمة أكثر لهذا الغرض، وذلك نظرا للإرتباط الوثيق بين خصائص لغات الجنوب ولغات وسط وشمال الجزيرة العربية. إن كريستان روبين يتحدث في( langues de la peninsula Arabique, 1991-1993,9 Les) عن هذا الترابط المتنوع بين اللغات العربية الجنوبية، ويشير بطريقة واضحة إلى اللغة السبئية فيؤكد: أن اللغة السبئية تبدوا قريبة من اللغة العربية، وبعد ذلك بقليل واصفا اللغة السبئية الحميرية فيكتب: أن اللغة الحميرية في الحقبة الإسلامية تشبه اللغة العربية إلى حد كبير. إن الخلل المفاهيمي الأصلي بقى لفترة طويلة، بعد أكثر من نصف قرن، حيث لاحظ جيرالد لانكشيتر 1952، وهو ما قد كان يمثل رأيه، بأن مواد النقوش الثمودية الحجازية ” من الأفضل ترجمتها إلى العربية بدلا من العبرية “: وشاركه هذا الرأي أيضا براندن Branden.
وكان هذا كله مرده إلى القناعة الراسخة والمتعجلة للغاية بأن النموذج الإسلامي لا يمكن تحديده إلا من خلال التأثير الذي مارسه عليه الفكر اليهودي: وهي فرضية اعترض عليها كثيرون، الذين اعتقدوا على العكس من ذلك، بأنه يحدد من خلال الطابع الذي تركته المسيحية الشرقية وباليهودية المسيحية.
ودون الرغبة أو القدرة بأي حال من الأحوال على إنكار أن لليهودية أو للمسيحية السريانية لبلاد ما بين النهرين وظيفة مرجعية ذات أهمية استثنائية، سواء لثقافة ما قبل الإسلام أو حتى لثقافة الإسلام المبكر، فلسوف نقتصر على الإستشهاد بمجمل الدراسات التي تنسب للهولندي رينهارت دوزي، اليهود في مكة 1864، ومحمد واليهود في المدينة لمواطنه فينسينك 1908، وتلك التي تنسب أيضا إلى M.J.Kister وإلى M.Lecker.
إن العثرة ليست ناتجة عن الصعوبة التي لا يمكن التغلب عليها في تقديم إجابة يمكن إثباتها علميا، بل بالأحرى في الدافع الأيديولوجي المتصلب بدمج الدراسات الإسلامية بكل السبل ضمن التخصصات التي تنتمي بطريقة ما إلى الدراسات التوراتية، والتي طورها إلى حد كبير الدارسين الإسرائليين وكثيرون من زملائهم المسيحيين.
وبدلا من ذلك لم يمنح سوى القليل من الفضل أو لا شيء إطلاقا لإحتمالية أن تكون التقاليد الفطرية السابقة على الإسلام بشبه الجزيرة العربية ولا سيما تقاليد الجنوب قد ساهمت بطريقة حاسمة في تشكيل الإسلام، والتي اتخذت الخطوات الأولى في دراستها بطريقة غير عرضية بأوروبا أواخر القرن التاسع عشر.
حينما كتب كايتاني أعماله لم يكن رائدا بل متبعا لطريق بحثي مناسب لأنه، إذا كان صحيحا أنه من القرن الثاني عشر فصاعدا ( Cfr.U. Monneret de Villard) قد بدأت التخصصات العربية والإسلامية في تتبع أو ثلمة طفيفة في تقاليدها العلمية الخاصة، وليس أقل صحة أن ذلك قد حدث تقريبا في سياق الدراسات التوراتية: ولا زالت قراءة ألدوبراندينو مالفيتزي ناجعة في ذلك.
إن الدراسات العربية ( cfr.A. de Maigret 1996) ودراسات جنوب الجزيرة (وهي الأكثر إهمالا)*(1) قد بدأت في تأكيد هوية مستقلة فقط في القرن التاسع عشر، وهذا ما لم يحدث من قبل. وقد كانت مساهمات كثيرة ومهمة في هذا الصدد لـ ج، بيرجمان، وأوسياندر، ولودوف كريل. وغيرهم من الفرنسيين كجوزيف توماس أرنود، وجوزيف هيلفي، والنسماوي ادوارد جليسر، وجميعهم شارك بطرق مختلفة في إستكشاف موقع مأرب ( 1843-1870-1888)، حجر الزاوية في الثقافة السبئية القديمة.
أما بالنسبة للغة العربية، وبعد العمل المضني للهولندي إربينو ( 1584-1624) وعمل الإنلجيزي إداور بوكوك (1604-1691) والذي استدعاه الأسقف وليام لود لكرسي اللغة العربية بأكسفورد، وأعمال مواطنهم سيمون أوكلي ( 1678-1720)_ وقد برع في كرسي الأستاذية للغة العربية بجامعة كامبريدج السير توماس أدام وهو مؤلف العمل الشهير the history of Saracens_ تاريخ السراسنة الإسماعيليون _ومن بعده دراسات الفرنسي بيرتلمي هيربوت ( 1625-1695)_مؤلف Bibliotheque Orientale والتي استكملها أنطونيو جالاند_بالإضافة إلى أرماند بيير، والإسكتلندي ويليام روبرت سميث أستاذ كايتاني بجامعة Ateneo Romano. وأما الألمانيين تيودر نولدكه، ويولويس فلهاوزن، فقد فرضا نفسهما على الجميع وذلك بسبب استنتاجاتهم وسعة إطلاعهم في القرن التاسع عشر.
وقد قام إيجناس جويدي، عالم الساميات الشهير، بنشر مقالة بعنوان ( في المقر الأصلي للشعوب السامية) والتي بلغت الآفاق ( انتقدها نولدكه بنيويا في Encyclopaedia Britanica, XXI,643)، فحدد فيها مع أخذ بعض الإعتبارات من إرنست رينان، ليقترح أن المقر الأصلي للثقافة السامية، موضحا على إعتبار فيلولوجي بأن مهدها كان المنطقة الجنوبية لبلاد ما بين النهرين ( بلاد بابل).
فينكلر والحتيمة الجغرافية
ونذكر أيضا من بين الأسلاف البعيدين والأقرب إلى كايتاني ماري جوزيف لاغرانج وإدوار جليسر. وكلهم في الأساس، لم يبعدوا عن الموقف الذي عبر عنه كايتاني: نقديا ولكن ليس شكوكيا في مجمله في مجابهة المعطيات التي قدمها التقليد الإسلامي المتأخر، والتي كانت نادرة وتمثل قيمة أثرية صلبة، حيث تمكنت البعثات من إجراء أبحاثها في تلك الفترة بعيدا عن أي صعوبات أخرى غير تلك الناتجة عن الظروف البشرية الهشة أو التأثير البيئي الفج.
ونستطيع أن نضم إليهم أيضا الدانمركي ديتليف نيلسن الذي ركز جل اهتمامه على الأدلة النقشية لجنوب شبه الجزيرة العربية، والتي تدعم وجود رابط بنيوي بين كل الثقافات السامية عموما، قادر على خلق شعور ديني يتمحور حول عبادة الكواكب ( وقد أكد القرآن نفسه هذه الممارسة في VI:76-78 المائدة وفي XLI: 37 فصلت) وهي تتمحور في حالة العرب الحجازيين، على ثالوث الأب القمر والأم الشمس والبنت الزهرة. من الضروري القول أن فرضية نيلسن القديمة قد عادت إلى الواجهة بشكل غير مبرر عند روبرت موراي، والذي حاول في التعسينيات إثبات أن الله القرآني ليس إلا الإله القمري الوثني (the Islamic invasion ,1992,211-218).
غير أن المساهمة التي لفتت انتباه كايتاني كثيرا كانت مساهمة عالم البابليات الألماني هوجو فينكلر 1901، ورأيه أن وسط غرب الجزيرة العربية والتي تطور فيها الإسلام المبكر لم تكن منطقة صحراوية قاحلة لا من منظور إقتصادي ولا من من منظور إجتماعي ولا حتى من منظور ثقافي، وكان فينكلر يعتقد أنه ربما قد وجدت هناك حالة تدهور في القرن السابع، بعد ماض لم يكن مؤسفا على الإطلاق.
إن كايتاني قد وجد الفرصة سانحة في هذه الفرضية لمحاولة التوفيق بين أطروحة جويدي وأطروحة معترضيه، مقترحا أطروحة مثيرة ( حتى وإن كانت ليست مقبولة تماما) مبنية على حدوث جفاف مفاجيء وكارثي لمنطقة شبه الجزيرة، والذي سؤدي بالتالي إلى هجرة لمختلف الثقافات السامية المحلية ومن ثم الإستقرار في المنطقة الشرقية القريبة وخاصة منطقة بلاد الرافدين، والتي تركت “إرثا” ثقافيا مهما في الثقافة العربية.
إن فينكلر يناقش أيضا في 223 صفحة من كتابه موضوع التأثير الذي أحدثته اليهودية على الإسلام الناشيء، حتى وإن كان قد نفي أن يكون ذلك حاسما _ على الرغم من الاهتمام الذي كان يوليه محمد للسياق الديني اليهودي في شمال غرب الجزيرة العربية، حينما سعى جاهدا في بداية بعثته أن يقبل نبيا ولكن دون جدوى _ فإن هذا الموضوع سيستمر في جذب انتباه الباحثين. منتجا بقايا أفكارا أيديولوجية متكررة ليست متماسكة تماما، والتي عادت إلى الظهور فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بالقرن العشرين، وتجاوزت في كثير من الأحيان المناقشات العلمية الجادة لتصبح جدالات ساخنة، تليق بمنشور إعلاميا. وقد يكفينا أن نذكر اكتشاف موقع إيبلا Ebla الأثري، والذي يعود الفضل في اكتشافه إلى البعثة الأثرية الرومانية برئاسة باولوماتييه، وخبيرالنقوش فيها كان جوفاني بيتناتو. إن عصور إيبلا والثقافات السامية السريانية لقد غيرت بشكل كلي الصورة المعرفية التاريخية لنا عن الألفية الثالثة قبل الميلاد، إن هذه الإكتشافات تؤثر بشكل كبير الإدعاءات التي لا تزال تحظى بالإيمان عند البعض، بأن وصول بني إسرائيل في عهد يشوع إلى بلاد سوريا وفلسطين لم يكن مجرد احتلال دموي اعتيادي على أراضي السكان الأصليين، بل تشير بطريقة غير مباشرة كيف أنه في هذه المنطقة بهذه الأزمنة السحيقة قد قامت ثقافات وسكان قد استقروا هناك وقاوموا بشكل كبير تدفق العبرانيين إلى الأرض التي وعدهم إلههم.
إن فينكلر قد ذهب بعيدا إلى حد القول بأنه قد كانت هنالك إحتمالات ضئيلة لإثبات وجود يهودي كبير في بلاد الحجازة (وهو أمر غير مستبعد من وجهة نظر بحثية) ومسهلا الأمر بشكل غير مباشر على أمثال ديفيد صامويل مرجليوث 1924، والذي أكد لاحقا أن العالم العربي قد توصل إلى التوحيد بشكل مستقل تماما. وقد قام هاميلتون جيب لاحقا بمعالجة الموضوع في ( preislamic monotheism, 1962) عند ويليام مونتجمري وات في ( belief in a “ high god” , 1971)، وكرر اقتراحهم لورينس كونراد في ( the arab and arabia 1999) وسأضيف إليهم مقالتي المتواضعة {ثقافة الجزيرة العربية زمن الجاهلية la cultura Arabia preislamica }: وهي فرضية مازالت محط اهتمام البعض في القرن الحادي والعشرين مثل فرانسيس إدوارد بيتر (Conrad 1999, XXVIII).
لم يكن هناك بشكل واضح نقص في المدافعين عن التأثير الذي مارسته المسيحية، خاصة المسيحية السريانية والشرقية على العالم العربي ما قبل الإسلام، وحتى على الإسلام نفسه. وإذا لم نكن في مناقشتنا هذه مهتمين بالانجراف نحو مقارنات زائفة، فلا يمككنا تجنب ملاحظة كيف تم دعم الفرضيات المؤيدة لليهودية والمؤيدة للمسيحية (ربما دون وعي) تستند في حد ذاتها إلى أشكال دقيقة ومستمرة من الرؤية الأوروبيةEurocentrica القديمة المسيحية-الغربية. ورغم قرون من عدم التسامح والتمييز، فإن ” الأخ الاكبر ” العبري قد تم قبوله بطريقة أو بأخرى كمرجع ضروري في قطاع الدراسات التاريخية- الدينية ونفس العملية التكيفية تمت أيضا باديء الأمر مع الإسلام، أخر الاديان التوحيدية ظهورا على مسرح التاريخ، الذي ضم في طيات تطوره أفكارا، يهودية، مسيحية، مزدكية، وحتى هندوسية، مما أدى إلى تأثيرات متعددة عليه ثقافيا وروحانيا.
بيد أنه لمن الضروري تحديد أبعاد ظاهرة الإسلام وحدوده، مع تقبل حتى الفكرة غير الشاقة إطلاقا وهي أن العرب قد تمكنوا دون وصاية من التعبير عن أصالة تخطيطية في الفكر الديني، وذلك بدلا من وضعهم في حالة من الضحالة العقلية، مثلما كان يفعل معهم الفرس الساسانيين والذين بعد أن سخروا منهم طويلا باعتبارهم ” أكلة جنادب “، كانوا قد اعتنقوا بحماس خلال فترة وجيزة دينهم ولغتهم وعاداتهم وحتى التسمي بأسماء من احتلوهم بالقوة. إنها لدورات ومسارات تاريخية لمن يتذكر تلك العلاقة المعقدة بين روما / اليونان، مع كامل الإحترام للغيورين المبشرين بالماضي: من الصعب التفكير في عمل أكثر وضوحا من عمل هامفري The true Nature of Imposture, 1697، الحقيقة هي أن _ على عكس أطروحة ادوارد سعيد_ قد كان هنالك أيضا أطروحة Guillaume Postel في ( De orbis terrae concorda, 1544 )، وأطروحة H.Relandus في (De Religion mohammedica 1704) ، أو أطروحة الكونت هنري المناهض للإكليروس والمناصر أحيانا للإسلام في (La via de Mohamed, 1730). ولكن، وفي التحليل الأخير لا يمكن إنكار أن الإسلاموفوبيا _ منذ أن بدأ بطرس المبجل رئيس دير كلوني الإهتمام بالإسلام نيابة عن الكنيسة في عام 1142_ وأضحت هي القاعدة في مجال الدراسات اليهودية – المسيحية. وتعاود الظهور بتعسف وبطريقة مضمرة بين أدعياء الثقافة خصوصا “في عالم” السياسيين الذين يخوضون آلان غمار معركة تأكيد الاستعلاء الأخلاقي والفكري للغرب المسيحي، المولود من رحم اليهودية، وفقا لعمل كتبه ادوارد سعيد 1978 صفحات مقنعة، على الرغم من بعض القصور والانحياز في بعض الأحيان. ولقد ترجم هذا العمل ( الإستشراق) في إيطاليا بولاتي بورينجيري في 1991، وذلك بما يتوافق مع حالة التأخر الثقافي المزمن والمثبط للهمم في صناعة النشر لدينا، والتي على سبيل المثال أنه في عام 1994 فقط، قد جلبت دار النشر Nouva Pratiche di Parma حقوق نشر كتاب دانتي والإسلام: الأثر الإسلامي في الكوميديا الإلهية، لميجيل أسين بلاثيوس، في حين أنه قد تم طبع هذا الكتاب الرائد عام 1919 بمدريد. و قد كانت الطبعة الإيطالية معروفة في بلادنا على نطاق واسع، وقد أثارت نفس الوقت انتقادات مريرة وسخيفة. وفي الآونة الأخيرة من عام 2006، فقد تُرجم عمل له نفس القدر من الشهرة (النبي والفرعون) للكاتب جيلز كيبل 1987 وهو عن المظاهر المبكرة لنشأة الراديكالية الإسلامية التي أدت نهاية المطاف إلى اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات عام 1981. ويمكن العثور على تأمل أخير حول انتقادات ادوارد سعيد الشاملة عند روبرت ارون.
حضريين وبدو رحل
هناك اتجاه بحثي مختلف عن حقبة ما قبل الإسلام، غالبا ما يتكرر في الأطروحات مع بدايات القرن العشرين، يتناقض مع من اعتقدوا أنهم قادرين على رسم خط أساسي للتمييز بين المجتمعات التي كان نموذجها الإقتصادي والإجتماعي يعتمد على أشكال طالت أو قصرت من الترحال وتلك التي اختارت عوضا عن ذلك الإستقرار، مع احتفاظها بالهياكل العشائرية والقبلية حية وفاعلة.
في الواقع، ووفقا للبعض، فإن الترحال ربما كان هو الأكثر قدرة على تطوير أنماط من الأديان الأولية، بمعابد “متحركة” بأشكال من الروحانية والطقوسية والتي قد وصفها نيللينو باعتبارها (ظاهرية ونفيعية بحتة) في L`arabia Preislamica,III,1941.41. فكثير من الباحثين وغير مبالين بالسابقة اليهودية قد ناقشوا ذلك في سياق عبادة الجن*(2)، المتقنة إلى أقصى حد ممكن عند هذه الثقافات، فالجن (وهي كيانات تقع في منتصف الطريق بين عالم الإنس والشياطين) لم تستطيع أن تتطور إلى مرتبة الإلوهية، انتظمت نوعا ما في شكل هرمي، وذلك على خلاف ما حدث في مجتمعات جنوب شبه الجزيرة ما قبل الإسلام، يفترض أنه بالنسبة لهم يمكن أن يتحدث أكثر عن عبادة فظة، مرتبطة بمفهوم ما يمكن تسميته ” القداسة غير المتجسدة”.
فكما لاحظ لاحقا هننجر في (pre-islamic beduin religion, 1999,III). أن هذا التمييز كان متناقضا ولم يكن ذا فائدة كبيرة، وذلك نظرا إلى أن جماعات البدو الرحل كانوا في الجاهلية في كثير من الأحيان قد أقاموا الصلة (حتى ولو بشكل موسمي) بمعابد معينة “بيت”، وكانت عنايته موكلة “للسدنة” التي كانت من القبائل المترابطة بأواصر الدم أو من أنساب كانت قد استقرت لتقديم ما عهد إليها من واجبات نحوها، في حين أن القبائل الأخرى _ بما فيهم قريش بمكة، وثقيف بالطائف، والأوس والخزرج بيثرب أو المدينة_ ففضلت في الواقع التفرغ لتكريس نفسها بالكامل لعبادة الألهة (هبل_ اللات_ مناة) والذين كانوا يبجلونهم في معابدهم الحضرية.
وثمة تطور ملحوظ للأبحاث المتعلقة بفترة ما قبل الإسلام قد تم احرازه في 1913، حينما قام الباحث المصري أحمد ذكي باشا بنشر طبعته لكتاب الأصنام لابن الكلبي، وقبل ذلك الحين كان معروفا جزئيا فقط بفضل الإشارات الواردة عنه عند ياقوت الحموي في معجم البلدان، ومن الإقتباسات الموجودة سابقا عند فلهاوزن في (بقايا الوثنية العربية Rest Arabischen Heidentums) والذي أنجزه فلهاوزن إعتمادا على المخطوطات.
ولا يزال هذا العمل يشكل قطعة لا غنى عنها لإعادة بناء بشكل أفضل الفسيفساء الثقافية والدينية لمنطقة وسط_جنوب شبه الجزيرة العربية والتي إجتثت في القرن السابع الميلادي، دون مقاومة قوية بالدين الذى دعى إليه محمد. ورغم أن العمل قد ساعد بشكل فعال في وضع حد للهواجس التصنيفية المتبعة في ذلك الوقت (بداوة / حضرية / وثنية / عبادة الجن)، فلم يتمكن من تبديد عدم اليقين العميق الذي سيعيق هذه الدراسة، غير الموجهة أيديولوجيا، عن فترة ما قبل الإسلام، ونشأة الإسلام وطوره الأول.
إشكالية المصادر
إن المشكلة الناجمة عن النقص المطلق في المصادر العربية المكتوبة طوال القرن الأول الهجري (القرن السابع الميلادي) _ باستثناء القرآن وبعض وثائق ذات بعد سياسي مثل وثيقة المدينة بالسنة الأولى من الهجرة (622 م)، وصلح الحديبية بالسنة السادسة هجريا أو 628 م، والذي احتفظ بهم أبو بكر الخليفة الأول ” 632-634 ” ولاحقا بدار الأرشيف “دار القراطيس” عند عثمان بن عفان الخليفة الثالث “644-656” (Cfr.Bravmann,1972,311-312)_ دون أن يكون لذلك صلة بالمخطوطات القرآنية المكتشفة حديثا أسفل سقف مسجد صنعاء الكبير باليمن والتي تم ترميمها.
ترتبط هذه الظاهرة ارتباطا وثيقا بضبابية وثائق الخط العربي البدائي، والتي ارتبطت بمجموعة من الظواهر المختلفة، التي جعلته يلجأ لفترة طويلة إلى نفس ذات الجرافيما Grafema الملتبسة (الجرافيما: هي الوحدة الخطية أو الرسوم الخطية. المترجم). مما جعل القراءة الصحيحة شاقة للغاية، إذ أنها تثير الشكوك. ولا يعني ذلك أنه لم تكن هناك محاولات لضبط الجرافيما. فقد تم انجازها منذ القرن الخامس أو السادس الميلادي: فعلي سبيل المثال حالة الشاهد الجنائزي ” رقوش “*(3) (Jaussen_savignac 1909-1922)، وهو نقش يرجع لسنة 267 قبل الميلاد بمدينة الحجر بمدائن صالح، وربما نقوش جبل رم*(4) عند خليج العقبة ( بالنصف الأول من القرن الرابع الميلادي) ونرى فيه بعض محاولات التمييز بمعيار تقريبي ضبط لعملية ترقيم الجرافيما ( Grohmann Arabisch Palaographie,1971)، ويتعلق هذا النقش عند بلمي في Two pre-islamic Arabic Inseription Revised, 1988، ببعض المحاولات المتواضعة والمتقلبة لإنشاء أبجدية عربية مكتوبة بشكل مناسب: وهي مشكلة لم يتم حلها بالكامل إلا في فترة غير مؤرخة، ولكن محتملا أن يكون بين القرن الأول أو الثاني الهجري ( القرن السابع أو الثامن الميلادي) فاضفاء الطابع الرسمي على علامات التنقيط سيكون قادرا على إجراء تمييز معقول ومنتظم للكتابة.
وسواء أكان الفضل في ذلك يجب أن يذهب إلى (بما يتماشى مع التقاليد المحلية) إلى العرب كأبى الأسود الدؤلي (توفي 688 م)، أو إلى حذاق السيريانية، أو إلى الفرس أو إلى اليهود أنفسهم، وعن هؤلاء الأخيرين نستمد معلوماتنا من المؤرخ العربي البلاذري في {فتوح البلدان} والذي ذكر كيف كان يهود المدينة تحديدا يعلمون الكتابة العربية إلى أبناء قبائل الأوس والخزرج التي سكنت الوحات، ولا زال مستحيلا حتى اليوم تأكيد دون ريبة من التكذيب، حتى وإن كان هناك من أكد منذ فترة طويلة أنه يجب أن يُنظر إلى اللغة العربية المكتوبة بالنبطية ( كلغة مرجعية) بدلا من العربية المكتوبة بالسريانية ( Theoder noldeke, Neu Beitrage,1910 _ Nabia Abbott, the rise of the north Arabic script,1939_Beatrice Gruendelr, the developmentof the Arabic scripts,1993- John F.Healy, Nabataean to Arabic 1990-1991,45).
وترجع مساهمات ألفونس مينجانا إلى بدايات القرن العشرين عن اسعتارات اللغة العربية من السريانية ( The transmission of the quran, 1916)، وتم استئنافها وتطويرها من قبل أرثر جيفري في (the foreign vocabulary, 1938)، ولاحقا عن نفس ذات الموضوع عاد عالم الساميات الألماني باسم مستعار كريستوفر ليسكينبرج*(5) بـ ( نحو قراءة آرامية-سيريانية للقرآن Die syro-aramaische lesart des koran,2000 ، والذي حاول فيه أن يوضح كيف أن النسخ الأولى لكتاب الإسلام المقدس قد حوت بعض نصوص سريانية- أرامية مسيحية والتي قد كان القرآن يعتمد عليها بشكل كبير في البداية، ومفترضا حتى أن مكة نفسها قد تكون نمطا لمستعمرة قد سادت فيها اللغة الأرامية. وبالتبعية فالنتيجة لن تكون هينة في هذه الحالة على القرآن نفسه والتي استدعت ردة فعل عنيفة _ مفهومة إلى حد كبير_ لعدد ليس بالقليل من علماء المسلمين.
وإلى أن يحين الإنتقال إلى مرحلة كتابية أكثر نضجا، فلا يزال التراث المعجمي والنحوي الغني للغة العربية المنطوقة والثقافة التي حملتها تجد حصنا صالحا ووعاء آمنا في الشفاهية الثقافية المتطورة بشكل غزير. فبفضلها تم الحفاظ على بعض ذاكرة الأجيال السابقة وعلى التاريخ السحيق لشبه الجزيرة العربية، بفضل قوة الحافظة المدهشة لأعمال الأنساب: للجينولوجيا التي ساعدت على اكتساب بعض الوعي بالإنتماء إلى فصائل معينة والوعي بممثليها البارزين. وإليهم تنسب روايات ملحمية من أيام العرب ( أيام مجد العرب) حيث تم فيها سرد _ بشكل بدائي ورومانسي_ مآسر الحرب التي خاضتها القبائل العربية أيام الجاهلية، والمؤلفة من تراكيب شعرية معقدة والتي من أجلها تم إنشاء علم العروض البديع، وهو ضروريا ليس فقط إرضاء للذوق الجمالي للمتلقي ولكن أيضا لتسهيل عملية الحفظ الشفاهي للعمل ونقله للأجيال اللاحقة.
إن تأخير مرحلة التدوين في اللغة العربية تثير شكوك أولئك الذين يعتقدون أن مرحلة تاريخ الجاهلية (وهذا شيء مرتبط أيضا بالإسلام المبكر وبتدوين القرآن نفسه) قد تم التلاعب بها بشكل كبير لاحقا، وذلك بحذف كل تقليد لا يتوافق بشكل تام مع الصورة النمطية التي أريد أن يستشهد بها على المسلمين الأوائل _ بحكم صحبتهم المباركة للنبي_ وذلك من أجل توريث صورة بطولية وكمالية عن المؤمنين الأوائل.
لقد قلنا كيف أن الإلهام التاريخي لكايتاني (ومن قبله ميكيل أماري Michele Amari في عمله ” تاريخ مسلمي صقلية”)، لم تدفعه إلى حد الإنكار الجذري للنظام الذي نقلته مصادر عربية- إسلامية لاحقة، دون أن يمكنه هذا من حجب حسه النقدي الحاد، مدركا جيدا قوة الأثر الذي تركته الإحتيالية الإسلامية المتدينة.
إن كتاب الأصنام لإبن الكلبي _ رغم كونه مفيد جدا في حل العديد من المشاكل_ إلا أنه لم يستطع أن يرضي بشكل تام لا كايتاني ولا من كان يأمل في إيجاد حل نهائي للعديد من الإشكاليات المتعلقة بالإعتقاد الديني في الحقبة الوثنية التي سبقت رسالة النبي الدعوية والسياسية. فمن بين الظواهر المرصودة وراويها اليمني، يظل في الواقع الفاصل الزمني ملحوظا، ودون أن ننسى بعض الاعتلالات، والتناقضات، والسذاجة، وحتى لا نتصور أنه، في حالة ابن الكلبي (على الرغم من كونه، شاهدا ذو أهمية كبيرة، كما يظهر ذلك بطريقة غير مباشرة من الغضب الشديد منه المعبر عنه من تقليد إسلامي معين)*(6)، فقد واجهنا عملية لا تخلوا من التدخلات الواعية في عملية هندسة التاريخ-الثقافي. فعلي سبيل المثال، لم يتم إطلاقا، قبول بعض شهاداته عن ماضي محمد الوثني قبل البعثة*(7) (وعنها انظر أيضا كيستر Kister A bag of Meat,1970) فقد حكم عليها بأنها لا تتماشى مع الإستقامة الإسلامية التي صاغت الكمال والعصمة للنبي واللتان ستكونان احدى السمات البارزة للشيعة وإمامهم بما يتناقض كثيرا مع النص القرآني نفسه.
إن عمليات إعادة البناء التي قام بها لبعض الظواهر التي سقطت بالكامل في غياهب النسيان تبدوا خيالية وقد تكون كافية، فعلى سبيل المثال نتذكر ما قيل عن طقس الميسر من مصادر ” بدوية ” متأخرة (من النصف الأول من القرن التاسع / الثالث الهجري _ _ Fahd, la divination,1966,204-213,a208,n.2) وعلاوة على ذلك فوحده أبو عبيد القاسم الهروي s.v. il maysir in encyclopaedia of islam قد وصفها بكونها عادة لهوية مبتذلة (متوطنة) في حين أن هناك أكثر من سبب للإعتقاد بأنها لم تكن أكثر من ممارسة مرتبطة جوهريا بطقوس القرابين*(8) عند الطوائف المعتقدة بعبادة الجن فترة ما قبل الإسلام. وسابقا قدم Henninger في preislamic beduoin religion, 1981,13. ملاحظات رصينة حول (طقوس المناولة) مرحلة ما قبل الإسلام، والتي ربما أدت إلى معالجة أكثر اقناعا للمسألة. غير أن أول من ارتاب في القيمة القربانية لطقس الميسر كان توفيق فهد في s.v. al maysir,in encyclopaedia of islam حيث كتب: قد يكون من المفترض أن الأضحية المقسمة للسحب بالقرعة كانت في الأصل أضحية دموية مقدمة كقربانا للألهة. ولإعادة بناء معالجة لهذه القضية يحال إلى ياكونو كاتب هذه الدراسة في (on the prohibition,2004).
يندرج في نمط الدراسات الكايتانية، ولكنه مما أثار استياء كايتاني كثيرا بشكوكيته، يسوعي بلجيكي قد ظهر بعد ذلك بقليل على مسرح الدراسات، متقدما في 1910 بـ La republique Marchande بمساهمة ضخمة عن دراسة حقبة الجاهلية، ومن نتحدث عنه هو هنري لامنس الذي قدم أعماله بإسهاب مفرط، حتى الشكوك المعبر عنها في دراسات محمدية للباحث في الإسلاميات المجري إجناس جولدتسهير عندما درس صيغ الحديث النبوي (الأحكام الفقهية الإسلامية) المرتكزة على الشريعة والسنة والذي وظف جزءا كبير من سعة اطلاعه في خدمة الأيديولوجية التي كرس نفسه لها بارتداء عباءة جماعة يسوع، فبه هكذا وبحماس أعظم استأنفت، نفس المسيرة التي قام بها في القرون السابقة كثيرون من جماعته في الإيمان وفي النَذْر. فمنذ ذلك الحين بنهاية القرن الثالث عشر فالدومينكاني ريكاردو بمدينة مونت كروس قد كتب عمله الدحض القرآني، والذي ترجمه إلى الألمانية بعد ذلك مارتن لوثر في 1529 ليكتب، باسم تصوره عن مسيح مجردا من المحبة، منشورا مناهضا للإسلام Vom Kriege wider die turken والذي تبعه أيضا عام 1543 بمنشور مناهضا لليهود von den juden und ibren lugen. (ولا تبدوا هذه الإعتبارات بمثابة اتهام متحيز ضد الإصلاحيين: فالمكتبات المناهضة للإصلاحيين في الواقع ليست حقيقة الأمر من نوع مماثل من النشر!).
وبعد أعمال لامنس قد كانت هنالك أعمال مارتن هارتمان و فيرنر كاسل Caskel و دي لاسي أوليري و جوزيف هوروفيز والذي له أكثر من مقال عن تأثير المسيحية على الإسلام Supern christlicher Glaubenswahrheiten im Koran، ونذكر أيضا لنيللينو عمله Jodaeo- Arabic relations in pre-islamic times، وأيضا مايكل جويدي، وإيلزة ليختن شتيتر {الناشرة المستقبلية لكتاب المحبر لإبن حبيب } حيث كتبت عملها الفذ، حتى وإن كان عبارة عن صفحتين، عن {مكانة المرآة} ،في أعمال المؤتمر الدولي للمستشرقين بروما بالقرن التاسع عشر المقامة في 23-29 سبتمبر 1935 ، وأيضا Nabia Abbott ، و Gonzague Ryckmans ، و Maurice Gaudefroy Desmombynes وعمله محمد المليء بالملاحظات المثيرة للإهتمام عن الفترة التي سبقت بعثة نبي الإسلام، وأيضا توفيق فهد Toufiq Fahd ، Arthur Stanley Tritton ، و Hamilton Gib, Joseph Chelhod, Josph Henninger, Marie Hofner, Montgomery Watt, Jacquelin Pirenne, Wahib Atallah, Meir Ja`acov Kister , Lawrence I. Conrad, Avraam Grigor`evich Lundin, Ernst Axel Knauf, Khalil Athamina, Christian Robin أو Michael Lecker الذين من العشرينيات حتى اليوم، أضاءوا بأعمالهم الذكية أجزاء من رحلة كانت محاطة كثيرا بظلال من الشك، متخذين في العموم موقفا نقديا مناسبا لا يبال بأي حال من الأحوال بالمصادر الإسلامية الإشكالية.
مشاكل اليوم
رغم ذلك فثمة عقبة قد انضافت إلى مرحلتهم الصعبة. فآل سعود يؤسسون دولة بنظام ملكي في عام 1924، على مساحة كبيرة من أراضي شبه الجزيرة العربية، والتي ترجع بمصيرها وبنسبها، إلى المصلح الديني محمد بن عبدالوهاب 1744، وهي ذات توجه تقليدي صارم، وتدعوا إلى قراءة أصولية للمعطى الديني الإسلامي. وقد منعت أي نشاط أركيولوجي على أراضيها وفي بلاد الحجاز على الخصوص، والتي يقع فيها ثلاث مدن هامة كمكة والمدينة والطائف، فاعتمادا على تقليد منسوب للخليفة الثاني تحديدا عمر بن الخطاب بمناهضة أي تواجد غير إسلامي في شبه الجزيرة العربية، والتي تعتبر مقدسة كونها حاضة للمدينتين المقدستين مكة والمدينة. إن هذا التقليد محير للغاية، من الوقت الذي قتل فيه عمرا من قبل عبدا_ فارسيا زرادشتيا أو مسيحيا سريانيا، حسبما جاء في الروايات_ يسمى أبو لؤلؤة، كان عبدا لوالي الكوفة المغيرة بن شعبة، والذي على المعنى الدقيق، لا ينبغي له بأي حال أن يقيم في المدينة، فدائما ما يلتزم بالتقاليد التي من شأنها فرض حظر مطلق بأن لا يعيش العبيد في عاصمة الخلافة ( كايتاني، حوليات الإسلام ( Annali dell islam, V, VI, 57,80..
ولذلك لم يعد مسموحا بعد بالتنقيب الأركيولوجي في المملكة العربية السعودية، ولا تحقيقات نقشية واضحة المعالم حتى أوقات لاحقة، ولذلك جعل المشروع المثمر{ 1909-1922} الذي يتم تنفيذه في بلاد الحجاز على يد جوسين- سافنياك يتلاشى وبدون متابعة، فهو قادر دون شك على تسليط ضوء جديد على عبادة ذو الغابة*(9) culto di Dhu I-Ghaba ، تلك التي كانت بالأحراش على أطراف يثرب/ المدينة، والتي أثرت على بعض الأشكال الثقافية الإسلامية اللاحقة.
ولحسن الحظ بالنسبة للدراسات، فإن الأمور قد سارت بشكل مختلف تماما سواء في اليمن أو عمان، حيث شهدت الأبحاث على الجنوب العربي دفعة من العناية والتطور، قادرة على تنويرنا بشكل أفضل عن (الثقافات الهيدروليكية culture idrauliche) ذات الأهمية القصوى في تاريخ الإنسان بشكل عام وفي تاريخ الدراسات العربية الإسلامية بشكل خاص.
مدرسة وانسبرو الشكوكية
ثمة تغيير يشكل ولأسباب كثيرة عودة ساخطة إلى الماضي، حتى وإن كان لأغراض، وربما نتائج مختلفة تماما، كان هذا ما أدى إلى طباعة كتاب في 1977 لمؤرخ الأديان اللامع جون وانسبرو، والذي كان مقررا له أن يكون حجر الزاوية لصرح لم يتم الإنتهاء من وضع اللبنة الأخيرة له بعد. فإنه في الواقع كان قد نشر في هذه السنة كتاب دراسات قرآنية وتبعه في العام التالي بـ الوسط المِلي: محتوى وتكوين تاريخ الخلاص الإسلامي The sectarian milieu: content and composition of Islamic salvation history. حيث أكد أن القرآن قد تم تأليفه بشكل أساسي من خلال مفاهيم من أصول مختلفة، وهي في الأساس أجنبية سواء أكانت مسيحية (كما أكد ذلك أيضا فلهاوزن في وقته)، أو يهودية (أي على العكس كما أكد لامنس). ومن هذا الطرح كان من الممكن إعادة بناء الهيكل التاريخي والمؤسسي الإسلامي الزائف، الذي تبلورت نسخته المنتشرة_ الأمر الذي سبب له مزيد من التشهير بين المسلمين_ حوالي بعد قرنين تقريبا من وفاة محمد.
قام جونتر لولينج بمشاركة هذا الافتراض بمحاجة عالية الثقافة ومحفزة، والذي أيد فيه التأثير الواضح الذي أحدثته المسيحية الرومانية على الإسلام، ولكن صدى وانسبرو الأهم كان مداه عند باترشيا كرونه ومايكل كوك اللذان ألفا كتابا عرفاه بأنه ( قد خطه كافران لمجموعة من الكافرين ) ( الهاجريون 1977، مقدمة، القرن الثامن )، قاصدين به فتح مسارا جديدا في مجابهة المعطيات الإسلامية التقليدية بشكل جذري، وقد كان مسارا يلوح في الأفق باعتباره مثمرا للغاية، كونه كان قادرا على تحفيز رؤية جديدة خصبة.
وكلا الدارسان في هذا الكتاب قد أكدا طبقا لفرضيتهم أن ميلاد الإسلام قد كان في ركيزته الأساسية في النطاق السوري أو العراقي في فترة تعود إلى ما يقرب من خمسين سنة بعد وفاة محمد أثناء خلافة عبدالملك بن مروان (685-705 م)، ولغرض ما من بين أشياء أخرى “لنبالة” الانجازات الكبرى التي حققها هذا الخليفة الأموي. و ثمة من أراد في الماضي أن يعزو إلى عبدالملك مقاصد لا تتماشى مع ما يمكن تسميته بكرم مسبق ” أرثوذكسية ” إسلامية*(10). وهذا ما يخص بناؤه مسجدا على أنقاض قبة الصخرة بالقدس، لينظر إليه كبديل مؤقت لكعبة مكة، بل هي على الحقيقة نوايا “هرطقية”، لتعديله بالكلية “ركن الإسلام” للحج الشرعي الذي يقام بمكة وأطرافها والذي كان يسيطر عليها هذا الوقت منافسه القوي والعنيد عبدالله بن الزبير.
وكتبت نفس الكاتبة الدنماركية بعد عشر سنوات تقريبا مساهمة عن حقبة ما قبل الإسلام ( تجارة مكة وظهور الإسلام 1987). وفيه تنفي كرونه بمحاجة عظيمة الدور المتميز المزعوم الذي لعبته قريش عبر التجارة العالمية _ وهي القبيلة التي ينتمي إليها محمد_ وتقوض كل افتراض تقليدي افترضه على العكس من ذلك ويليام مونتجمري وات في Muhammed at mecca 1953, muhammed at medina 1956 ، عندما أخضعت هذه البيانات لتمحيص نقدي حقيقي (بل ربما متجاوزا في النقد) من خلال تحقيق تاريخي موثق. ورغم ذلك، فكرونة باتريشا حتى وإن كانت العدمية التاريخية التي توصلت إليها، تظل مثيرة للإهتمام ورائدة لتطورات منهجية مفيدة، التي لن تكون قادرة على إرضاء الباحث بكل تأكيد.
وهناك أيضا Judith Koren و Yehuda D. Nevo في methodological approaches to Islamic studies,1991، والذي أخذ عمدا عنوان مقالة لأرثر جيفري 11926، وأندريه رييبن، ويمكن أن نحسبه بحق من اتباع ” مدرسة وانسبرو” ، ومثله أوري روبن في شخصية محمد في The Eye of the beholder. The life of muhammed as viewed by early muslims, 1995 . ويجدر بنا أن نذكر أيضا ماسيمو كمابانيني ومساهمته عن شخصية نبي الإسلام، و Gerald R. Hawting في the idea of idolatry, 1999 ، والذي أيد مؤخرا الفرضية القائلة بأن الجدل الذي أثاره محمد وأثاره القرآن ضد جماعة “المشركين” لم يكن موجها في الحقيقة كما كان يعتقد، إلى الوثنيين الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية وبلاد الحجاز، بل إلى الموحدين الذين اعتُبرت عقيدتهم لأسباب مختلفة_ سياسية وحتى قبل أن تتضمنها السياسة_ غير مشابهة لعقيدة الأحناف، تلك الجماعات الموحدة غير المنتظمة في هيكل، والذي ينتمي إليهم إبراهيم نفسه حسبما أكد القرآن، والذي يعتبره محمد أنه أول “الأحناف” والذي أعرب الإسلام عن تسامح كبير تجاهم.
كانت الحجج بين الدارسين قوية، وأحيانا هيسترية عندما يشارك مجتمع الباحثين المسلمين النقاش، وهذا صحيح، وذلك نظرا للصعوبة إن لم يكن مستحيلا لكثير من منتمي الأديان التمييز بين التاريخي من اللاهوتي، والرأي من الإعتقاد.
وثمة ملاحظات منطقية عند أولئك الذين يعترضون على أنه، من خلال إعتماد نفس المعايير أو الإسلوب غير المرن، لا يمكن لأي ثقافة دينية قديمة أن تفلت من شراك شكوك “مدرسة وانسبرو” الجذرية، والتي كانت ولا زالت ميزتها في أنها قد ألقت بحجر ( وأي حجر!) في مياه الأبحاث الراكدة، المتأثرة في كثير من الأحيان بأولئك الذين لا ينوون رسم بعض الخطوط الفاصلة بين المشاكل الدنيوية والمتجاوزة لها، نعم، مما يجعل ملاحظات ستيفن همفري حكيمة للغاية، فطبقا له في Tradition and innovation in the study of islamic history,1997: بأنه كان على الجميع أن يعودوا إلى المصادر ليفحصوها برؤية جديدة، ويعيدوا التفكير بمنهجية عميقة عن بدايات الإسلام..
ونهاية هذا هو أمل العلماء العلمانيين: بأن المستقبل (وعاجلا أفضل من آجلا) سيكون مسئولا عن إشباع بعض فضولهم الحاد، مع العلم تماما بأنه وبسبب تعطشهم للمعرفة لن يسمح لهم أبدا العثور على أجوبة علمية قادرة على إشباعها بالكامل.
انتهي.
ترجمة: عماد السعيد

هوامش المقال:
*(1) بدأ باحثو النقوش مؤخرا في تنبيه باحثي الدراسات القرآنية إلى أهمية النقوش اليمنية العربية الجنوبية القديمة، بما فيها الحميرية واللغات السامية الأخرى، وقد نشرت العديد من الدراسات النقدية التي تتضمن هذا الموضوع غير دراسة أرثر جيفري الذي ذكرها الكاتب في متن المقالة، فمثلا دراسة دوفراك ودراسة جريمر وما كتبه محمود الغول في أطروحته.. للإستزادة يحال إلى مقالة ( الإستعانة بالغة العربية الجنوبية وباقي اللغات العربية مصدرا لدراسة أصول المفردات القرآنية). هاني هياجينه. كتاب القرآن ونقوش اليمن: مقاربات جديدة. ترجمة محمد عبطوش. المترجم.
*(2) ( وكانت بنو مُليح من خزاعة_ وهم رهط طلحة الطلحات_ يعبدون الجن، وفيهم نزلت إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. كتاب الأصنام ، ابن الكلبي ، 34. المترجم.
*(3) نقش رقوش اكتشفه هوبر1883ونشره في مجلة رحلات في البلاد العربية ، ثم دون في مدونة النقوش السامية تحت رقم 271.، ثم أعاد نشره جوسين وسافياك في مؤلفيهما إرساليات علماء الأثار في البلاد العربية 1909. ويعتبر هذا النقش من أهم النقوش النبطية بسبب قرب لغته من العربية من حيث اسلوبه ولفظه الأمر الذي جعل بعض علماء الساميات على اعتباره نقشا عربيا ولكن بقلم نبطي، ولعله لا يقل أهمية عن نقش النمارة . المترجم.
*(4) نقش رم هو نقش غير مؤرخ ويعتبر هذا النقش تاريخيا أقدم نقش عربي لغة وكتابة، وهو عبارة عن مخربشة حُزت على على قصارة جدار عند بناء أو تجديد معبد نبطي. وقد أعاد ” جرمه” وفق رأي ” سافنياك” و ” هورس فيلد ” تاريخ البناء إلى حوالي النص الأول من القرن الثاني الميلادي، أما ترميمه فكان منتصف القرن الرابع الميلادي. المصدر: الأردن التاريخي وولادة الحرف العربي، د/ سلطان المعاني. مجلة الرأي المترجم.
*(5) الحق أن منهج كريستوفر لكسمبورج متطرفا في دراسة النص القرآني، فلقد حاول الخروج بقراءة سيريانية للقرآن على أساس وثائق مسيحية سريانية حررت حتى أصبحت هذا النص القرأني، ولقيت أطروحته رفضا واسعا بين أوساط الدراسين، فمثلا نجد الكاتبة نويرث تصف منهجا بأنه ( ينتهي إلى وجود طبقة سريانية كامنة خلف النص العربي . المترجم.الحق أن منهج كريستوفر لكسمبورج متطرفا في دراسة النص القرآني، فلقد حاول الخروج بقراءة سيريانية للقرآن على أساس وثائق مسيحية سريانية حررت حتى أصبحت هذا النص القرأني، ولقيت أطروحته رفضا واسعا بين أوساط الدراسين، فمثلا نجد الكاتبة نويرث تصف منهجا بأنه ( ينتهي إلى وجود طبقة سريانية كامنة خلف النص العربي . المترجم.
*(6) على أن هناك فريقا من العلماء_ وهم أهل الحديث الشريف_ لا يرضون عن ابن الكلبي ولا عمن نحى نحوه من التاريخيين والاخباريين، لا لشيء سوى أنهم تعرضوا لرواية الآثار دون أن تتوافر فيهم الشروط اللازمة فيمن يتصدر لإملاء الحديث. مقدمة كتاب الأصنام ، أحمد ذكي باشا، ص 13. المترجم.
*(7) وقد بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرها يوما _يقصد العُزى_فقال : لقد أهديت يوما للعزى شاه عفراء، وأنا على دين قومي. ابن الكلبي، كتاب الأصنام، ص 19.. المترجم.
*(8) في فهم علاقة لعبة الميسر بالقرابين بعيدا عن تأطيرها بلعبة القمار، نحيل إلى مقالة ألفريد بيتسون_ لعبة الميسر وبعض نظرائرها الحديثة. دراسة مترجمة بكتاب القرآن ونقوش اليمن. ص 87. محمد عبطوش.ومقالة الميسر بكتاب الكهانة العربية قبل الإسلام.توفيق فهد.المترجم.
*(9) “ذ- غ ب ت” ( ذو الغابة أو ذو الغيبة) إله مملكة لحيان الرئيس والأكثر ذكرا في النقوش اللحيانية. يفسر الباحثون اسمه عادة بكلمة غابة؛ دلالة على الخصوبة، إلا أن البعض يقارنه مؤخرا بلفظ الغيبة والغياب، أي الإله غير المرئي. المترجم.
*(10) على الأرجح أن ابن شهاب الزهري وحديثه ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) هو ما يقصده الكاتب هنا. المترجم
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد