الجيل السلفي الذي لم يراهن عليه أحد … بقلم: سماء معاوية هيكل

بقلم: سماء معاوية هيكل

screenshot-2024-07-24-at-13.28.00 الجيل السلفي الذي لم يراهن عليه أحد ... بقلم: سماء معاوية هيكل

الجيل الذي لم يراهن عليه أحد

أكبر طفلة مفعمة بالحياة، أشتهي التواصل واللعب وخلق الحكايا، كبرت وأنا أرى العالم على لونين، الأبيض والأسود، السنة والبدعة، عالم الملتزمين وما دونهم، كان انتمائي الإيديولوجي يعني انتمائي لأبي، وأحلم باليوم الذي فيه أكبر؛ لأكون مثل أمي.

أحتمي بأسرتي في مواجهة العالم الخارجي، كانت بوصلتي أن أخالف العادة لمجتمع عمت فيه البدعة وتمكنت منه الخرافة، فصار الخروج علي العادة دستورًا. حتى اتسعت الهوة بين المثال والمحسوس وانكشف الستار وبانت الحقائق، كنت أرقب بعينٍ، ألجمتها الرهبة وجمدتها الحيرة للسؤال والبحث عن إجابة، في زمان سياسةٍ لا ترحم.

أنتمي للجيل الرابع منذ أول مرة ارتفعت فيها “السلفية” كحل ناهضت به المحتل إلى أن صارت كما اليوم، منهج حياة.
أسأل أمي اليوم عن مسألة فتبرر لي: “مافيش بنت تعمل كذا” فأتعجب؛ كيف تغدو العادة التي كبرت على مخالفتها ودفعت ثمنها من طفولتي ومراهقتي الآن تشريعًا، متى أصبحت نظرة المجتمع بوصلة نهتدي بهديها بعد أن قضيت عمري أجاهد مدفوعة لمناهضتها !


تعتبر العائلة وفي خصائصها الأساسية صورة مصغرة عن المجتمع، فالقيم التي تسود المجتمع من سلطة وتسلسل وتبعية وقمع هي ما تسود العائلة بصورة عامة، وهي ما تسود علاقة المؤسسات السياسية بالاجتماع فإذا كان النظام الاجتماعي سلطوي، أصبح الفرد مضطهدًا في الاثنين على حد سواء.

fernando-evangelio الجيل السلفي الذي لم يراهن عليه أحد ... بقلم: سماء معاوية هيكل

في سبعينات القرن الماضي برزت أسئلة في أذهان الشباب تعبر عن هذا التأزم الهوياتي وفقدان الذات والافتقار للفاعلية الاجتماعية وترتيب الانتماءات، وبانت الحاجة لنسق معرفي يقدم تصورات عن الحيرة الواضحة، فمن أنا؟ وكيف أتميز عن الآخر؟ كيف أرتب انتماءاتي الشخصية والفكرية والاجتماعية؟ لماذا أصبحت سلفيّا؟ ماذا يعني كوني سلفيّ؟ هل التزامي بالسلفية هو ما يحدد التزاماتي الاجتماعية والسلوكية والسياسية ورؤيتي للعالم أم العكس؟.

بطبيعة الحال فإن النظام القائم يسعى جاهدًا للحفاظ على استقراره واستمرار تركيبه الاجتماعي وتوزيع القوى، فالتغير في النظام يؤثر على توزيع السلطة والموارد، فمن البديهي أن تسعى المجتمعات جاهدة لتبرير شرعية سلطة الاجتماع القائم، لكن ماذا يحدث عند اختراق هذا النظام؟

من ناحية تبدأ سلطة التكوين الاجتماعي القائم في رصد ومراقبة تلك الموجة على حذر فهي  الأساس الذي تمثلت فيها سلطة الآباء وسلطة الماضي وهي الأقدم والأكثر استقرارًا. ومن ناحية أخرى يبدأ الفرد الثائر في بناء دوره وسلوكه الاجتماعي تجاه الآخرين من العائلة والمجتمع وفقا لما يمليه عليه انتماؤه لمجموعة أو كيان أو حركة سلفية فهو يقوم بما يتصور أنه مطالب به من الجماعة أو ما تتوقعه الجماعة منه وكأنه التزام تبنى على أساسه كل التصورات القيمية والسلوكية تجاه الأشخاص والأشياء من حوله.

في الواقع لم يحمل هذا التغيير خطرًا على بنية السلطة الاجتماعية القائمة فلم تكن سوى قشرة جديدة غطت كسر، وألهت عن مشاهدته، فكان رد الفعل أن تسامح المجتمع والأسرة مع تلك الثورة، لأنها لم تصطدم مع  بنية المجتمع في صلبها، فتماهى المجتمع مع هذا التغيير.

كان الدور الأعظم والأسمى لهذا الشباب الواعد تقديم صورة المسلم مصفى من كل ما دخل عليه من الخرافات والبدع والضلالات وفي الوقت ذاته لا بد من تربية مسلمي اليوم، ليكونوا امتدادًا لهم ولأسلافهم، لأن هذا النشء القادم هو من سيحمل تلك الراية.

هذه العملية، عملية التمويه -والمؤسِّسة لكلا النظامين القديم والحديث- تجعل الطفل أو هذا الجيل الجديد، لا يسعى لاكتشاف العالم واستكشاف نفسه بل يصنف العالم على جبهتين، جماعة معنا والأخرى علينا، فهو يبدأ بموقف قد حُدد ابتداءًا، ويفصل بينه وبين العالم جدار، هذا الحاجز لا يؤدي للمعرفة المباشرة بالواقع وبالتالي التفاعل معه، ومهما اتسعت المساحات المعرفية الإيديولوجية المقدمة، فلا تستطيع العائلة مع هذا التأمين المحكم على الأبناء، أن تتيح لهم سوى مجال ضيق لتشكيل رؤيتهم للعالم وتنمية قدرة التساؤل الحر وتطوير النضوج الذهني بشكل مستقل؛ لأن هذا النمط الاجتماعي لم يكن سوى إعادة إنتاج لنفس النمط القديم في صورة حديثة؛ ونتيجة ذلك يثني هذا النمط الطفل عن الثقة في آرائه ويشجعه على قبول آراء الآخرين وهو ما ينمي الإذعان للسلطة، فتحل سلطة محل سلطة وهوية محل هوية وتحجب المعرفة الحية بالواقع الاجتماعي لتعاد إنتاج ذوات مستنسخة متطابقة من الشباب والفتيات، مجتزأة في وجودها، منفصلة عن زمانها، فتخلق ثائر مبتور الجناح، لا هو قادر على الاستقلال بنفسه ولا هو قادر على الاندماج مع المجتمع الذي قضى عمره في مناهضته.

ولأن التغيير لم يكن جوهريًا، فسرعان ما يكبر الطفل ويكشف عن هذا النزع  الموجود في صلب التكوين العائلي كما في العلاقة مع المجتمع، فلم تكن تلك الدعوة بهذا القدر إصلاحية دافعة نحو التقدم بقدر ما ظهرت في صور عداءات مبطنة، وكأن هذا الفرد الأداتي كان مجرد وسيلة لتمكين مكتوم تنافست به تلك السلفيات على اختلاف دوافعها وسياقاتها مع السلطة القاهرة، فأعادت إنتاج أساليب التبعية والاستخدام والاستغلال وغيبت كل وعي تربوي وتأصيل معرفي يمكن أن يكون خطوة أصيلة تمهد طريقًا لتحقيق استقلال ذاتي أصيل ورؤية عميقة بالواقع.


لم يكن استدعاء مفهوم السلفية في بداية القرن العشرين يستلزم الرفض التام للمرونة الدينية، بل كان أقرب للإصلاح الاجتماعي بما يلائم الاعتبارات السياسية وزيادة احتمالات تحقيق الاستقلال السياسي عن القوى الاستعمارية، فتوسع المعنى السلفي خارج الحدود العقدية وتأسس لفكرة محددة لتعزيز وحدة المسلمين من مختلف المناطق والخلفيات الثقافية، يعني تعبئة الأمة بكاملها ضد قوى الاستعمار وتطهير الأمة من الممارسات والاعتقادات الخاطئة التي فرقت الأمة وأضعفتها.

فلسفية رشيد رضا (1865-1935) سعت للتوفيق بين الإسلام والقيم الاجتماعية والفكرية للتنوير، ما يتيح للمسلمين الحداثيين تحرير أنفسهم من أغلال التقليد وينضموا لمسيرة التقدم الحضاري، فنجد محاولات الدفاع عن حقوق المرأة وفكرة الوحدة الإسلامية والترويج للحكومات التمثيلية ونشر العلوم الحديثة والتسامح الديني.

لما زاد التدخل الأوروبي ومع سقوط الإمبراطورية العثمانية وسقوط مملكة فيصل والعراق وسوريا تحت سلطة الانتداب، كانت مصالح الأمة تبدو مهددة على نحو خطير، فكان رد رشيد رضا الأول أن الحزبية والطائفية لن تؤدي إلا لإضعاف المجتمع المسلم، لكن لما ساءت العلاقة مع الشريف حسين لتحالفه مع الإنجليز، ابتدأ رشيد رضا في دعوة الحكام العرب لإنقاذ الحجاز من قبضة الحاكم، وانضم لجبهة الملك عبد العزيز ودعم العلماء الوهابيين الذين منحوه شرعية وقتها، وأكد أن بعض التشدد خير للأمة من تآكل الهوية الإسلامية.

افتقرت الدولة السعودية في عشرينات القرن الماضي للخبراء في السياسة الحديثة، ومع تزايد الديون أصبح هناك حاجة لمستشارين في شؤون الدولة والفكر، رغم تحذير الوهابيين من الابتداع حد رفض التقدم العلمي، إلا أن رشيد رضا (1865-1935) ركز على مقالات التقدم التكنولوجي في المنار وأثنى عليه حامد الفقي (1892-1959). فتم الترويج أن الإنجازات العلمية نشأت في الشرق الأوسط بالأساس فهي ليست من البدع الغربية الغازية للثقافة بقدر ما هي وسائل لنهضة الأمم، فالطائرات والدبابات والغواصات والتلغراف كله مقبول لأن علماء المسلمين هم من طوروا العلوم الكامنة وراءها.

بعد الاستقلال أصبح السلفيون أكثر صرامة وتعصبًا من سلفهم، ولم يقتصر الأمر على استدعاء فهم موسع للسلفية أو تحولها لإيديولوجيا، بل أصبحوا يضغطون في اتجاه تصفية دينية لا تعوقها اعتبارات سياسية أو اجتماعية وتعليمية في فترة الاستعمار.

شهدت السنوات الأولى من حقبة ما بعد الاستعمار مجيء القومية العلمانية وهذه الخطط الطموحة جدا للتحديث على أساس النماذج الاشتراكية والرأسمالية، فبدت وكأنها تهديد علماني غربي يستهدف وحدة الأمة.
عاش السلفيون تلك التغيرات، فمحمد حامد الفقي (1892-1959) مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية أظهر ولاءه لعبد الناصر كما فعل مع الملك فاروق، وأشاد بالضباط الأحرار الذين حرروا مصر من النفوذ البريطاني وحثوا الحكومة العسكرية الجديدة على اتخاذ السعودية نموذجًا للإصلاح الديني، وفضلوا نقد الحكومة العلمانية بالمفردات الدينية، فكان تأميم قناة السويس انتصار للإسلام، والميثاق الوطني وثيقة عظمت روح الدين، فأصبحت الدعوة للسلفية دعوة للوحدة والتلاحم بمفردات قومية.

فكلتا النسختين من السلفية على تباينهما كانتا استجابة للتحدي الثقافي والسياسي، ولأن مصائر الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اختلفت فتطلب المشاركة في السياسة الوطنية والتنافس لأجل مزيد من النفوذ، فتتحول السلفية من كونها مذهب عقدي وطريقة في الفقه الإسلامي ثم وسيلة لتحقيق الاستقلال إلى أن أصبحت رؤية للوجود بأسره، فمن المعرفة للممارسة ومن الأخلاق للاتيكيت ومن الدين للسياسة، فأصبحت نظام يسعى لإحداث تغيير الحياة بأكملها لتصبح منهج حياة وخطة عمل ورؤية للوجود في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وأيضا العمل التربوي.

449598070_782974320677756_4019263522546718512_n الجيل السلفي الذي لم يراهن عليه أحد ... بقلم: سماء معاوية هيكل

اعُتبر الخلاف بين قطبي المجتمع في نظر السلفية في هذا الوقت في العلاقة مع الماضي، فالسلفية هي الاتباع وما دونها هو الابتداع، والحل في البداية يتأسس على “استخدام الاجتماع” لإبراز تلك الصورة بتغطيته بعادات جديدة هي في بنيتها لا تصطدم مع الاجتماع القائم بقدر ما توحي بالتغيير؛ فتعطي تلك الصورة التي تمثل الهوية الواضحة وتصبح العادة القائمة هي محل الجهاد وهي ما ينبغي مخالفتها ومناهضتها بغطاء جديد.

مع الدعم السياسي والجهود المستمرة والقبول الاجتماعي أصبح هذا الغطاء الجديد هو العادة، واكتسب شرعية التكوين الأقدم والأسبق والأكثر استقرارًا، فعاد هذا السلفي هذه المرة ليستخدم الاجتماع الجديد بعاداته الجديدة مبررًا للحكم.

تلك الموجة الفوقية من التغيير التي تمثلت في نظام اجتماعي جديد، أضحت هي وحدها من تمتلك معايير الضبط والانحراف ورسم المجال الأخلاقي والذي يبرر شرعية السلطة في صورة عقيدة دينية أو إيديولوجية، ومع الوقت أصبحت العادة محكمة.

فما بين جيل مدفوع “للثورة” على المجتمع استعمله الحاكم لصالح سياسته في السبعينات لجيل مدفوع “للتقليد” استعملته السلفية لصالح معركتها مع الدولة، هناك جيل حائر شاهد على توتر الفكر والواقع، دفع من حياته ثمنًا لتلك الدعوات، ولم يراهن عليه أحد.

المراجع:
١- الانتخاب الثقافي، أجنر فوج، ترجمة شوقي جلال.
٢- مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي.
٣- صناعة السلفية، هنري لوزيير، ترجمة أسامة عباس وعمرو بسيوني.
٤- نداء للجنس اللطيف، رشيد رضا.
٥- مجلة المنار، المجلد الخامس والعشرون.
٦- أنا نصر أبو زيد، جمال عمر.
٧- أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها، محمد حامد الفقي.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات