الحب في الإسلام الرقمي: لماذا ينجح ابن حزم على الإنترنت؟ فاطمة المرنيسي … بقلم: نهلة هنو

فالألفة نقيض تماماً للاستسلام الأعمى للشهوة، لأنها تتطلب التفاوض مع الطرف الآخر. وخطر الانجذاب يتمثل في أن: “حبك لشيء قد يجعلك أعمى وأصمّ”. لذا، لا بد من استدعاء العقل لتجنّب التدمير الذاتي.

بقلم: نهلة هنو

nah-21-1-3 الحب في الإسلام الرقمي: لماذا ينجح ابن حزم على الإنترنت؟ فاطمة المرنيسي ... بقلم: نهلة هنو

فيما يلي مقتطف من محاضرة ألقتها السيدة المرنيسي حول عملها الأخير:
“الحب في الإسلام الرقمي: لماذا ينجح ابن حزم على الإنترنت؟“

المحاضرة كانت جزء من فعاليات مركز الشيخ ابراهيم في البحرين، وقد شرفت بحضورها وبمقابلة الكاتبة.

يُعرّف ابن حزم الحب في عنوان كتابه (في الألفة والألاف)، حيث تشير “الألفة” في العربية إلى الالتصاق بشخص ما (يلزمه). ولتحقيق ذلك، لا بد من استخدام “العقل” لكسب ثقة الشريك بما يكفي للسماح بالتقرب منه. ومن مرادفات “الألفة” كلمة “الأنس”، وهي جذر كلمة “إنسان” في العربية.

وليس غريباً أن يرفض ابن حزم مفهوم “الحب من النظرة الأولى” بوصفه أمراً سخيفاً، لأنه يخلط بين الحب (الحُبّ) والهوى (الرغبة): “إنني لأعجب غاية العجب ممن يدّعي الوقوع في الحب من أول نظرة. لا أستطيع تصديق دعواه بسهولة، وأفضل اعتباره نوعاً من الشهوة لا غير”.

وهو مقتنع بأنه حين يستخدم الإنسان عقله ويقيم علاقة مستقرة، لا يشعر بحاجة إلى أصدقاء جدد أو ملابس جديدة: “كذلك، لم أشتهِ التغيير لمجرد التغيير في أي من الأمور التي أمتلكها. ولا أعني هنا الأصدقاء والخلان فحسب، بل أيضاً كل ما يستخدمه الإنسان: من ملابس، ووسائل ركوب، وطعام، وما إلى ذلك”.

ومن هنا خلصت إلى أن الصراع الشهير الذي يروّج له صامويل هنتنغتون باعتباره “صدام الحضارات” (بين الغرب والإسلام) هو في الحقيقة صدام بين “العقل” والتفكير العقلاني، من جهة، والإعلانات الاستهلاكية من جهة أخرى! فالإسلام، تماماً كالحضارة العلمية الغربية، يشجعنا على تنمية العقل لمواجهة الرغبة: “من لم يحكمه عقله أهلكه هواه”، كما شدد الأئمة مثل ابن القيم الجوزية (المولود سنة 691 هـ / 1292 م)، الذي واصل تقليد ابن حزم في كتابة الرسائل عن الحب حتى القرن الرابع عشر الميلادي.

فإذا كان الغربيون أنفسهم عاجزين عن وقف الخلط بين الحب والاستهلاك غير العقلاني، الذي يربك أبناءهم، فكيف لنا أن نتوقع من شبابنا العربي، الذي تغسله الإعلانات التلفزيونية والرقمية يومياً، أن يهتم بألفة ابن حزم؟ ولإنهاء مكالمتي الطويلة مع ليلى، ختمت المرنيسي بنبرة متشائمة: “مسكيني ابن حزم! محكوم عليه بمصير الديناصورات التي اختفت من كوكبنا قبل 65 مليون سنة، بعد 150 مليون سنة من الوجود!”

وفي تلك اللحظة، هزّني كمال، زميلي الجالس معي في المطعم، ليجبرني على قراءة ما كتبه على عجل في ظهر قائمة الطعام:
”فاطمة، أنتِ الديناصور! أنتِ مفصولة عن المجرة الرقمية: كتاب ابن حزم عن الحب من أكثر الكتب مبيعاً على الإنترنت!”
فقلت له: “من الذي يستهلك رسالة ابن حزم؟”
أجاب كمال: “على ما يبدو، كثيرون! فكّري فقط في من قد يكون مهتماً: ملايين الشباب المسلمين الذين يدرسون أو يعملون بعيداً عن أسرهم، ويحتاجون لفهم الحب للمرة الأولى، كما يحتاجون إلى معلومات يقدمها لهم مرجع ديني يتمتع بميزتين لافتتين. الأولى: أن الإمام ابن حزم كان شاباً، لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، حين هرب من مدينته الأندلسية المضطربة، قرطبة، ليستقر في شاطبة سنة 412 هـ (1027 م) ويكتب كتابه. والثانية: أنه وُلد في إسبانيا تعصف بها الحروب، بين الإسبان والعرب، وبين العرب والبربر. كانت حياته مضطربة، كحياة شبابنا العرب اليوم، إذ لم تنقطع الحروب منذ شهد انهيار الدولة الأموية في الأندلس. وبحكم أنه ورث منصب والده كوزير، انتهى به الأمر مراراً في السجن والمنفى، مما قد يفسر هوسه بالحب غيريّ الطابع”.

ملحوظات:

في كتابه الشهير “طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف”، قدّم ابن حزم دراسة دقيقة للحب من منظور نفسي واجتماعي وأدبي، وذكر فيه مراتب الحب وألفاظه في اللغة العربية، والتي تُعد من أغنى ما قُدِّم في التراث العربي الإسلامي.
من مرادفات كلمة “الحب” التي ذكرها ابن حزم، أو استعرضها في سياق تحليله لمراحل الحب، ما يلي:
الهوى – وهو بدايته، ويعني الميل إلى المحبوب.
العلاقة – تعني التعلق الشديد بالمحبوب.
الكلف – شدة التعلق بالمحبوب إلى حد المشقة.
العشق – الحب المفرط الذي يبلغ أقصاه.
الشغف – الحب الذي يصل إلى شغاف القلب، أي داخله.
الجوى – الحزن والألم الناتج عن الحب.
التتيم – أن يصير الإنسان عبداً لمحبوبه.
التبل – المرض الناتج عن شدة الحب.
الهيام – الجنون من شدة الحب.
وهذه المصطلحات لا تعبّر عن مترادفات تامة، بل هي درجات ومراحل في الحب، تبدأ من الميل البسيط حتى الانفلات الكامل من العقل.
وهناك ايضا على سبيل الذكر لا الحصر:
الصبوة – الحب الأولي الذي قد يكون مجرد عاطفة عابرة.
الوجد – الحب المصحوب بالحزن والشوق.
الكلف – التعلق الشديد بالمعشوق.
التعبد – الحب الذي يشبه العبادة في الخضوع والولاء.

وقد أبدع ابن حزم في الجمع بين اللغة، والشرع، والفلسفة، والتجربة الإنسانية العميقة في هذا الكتاب، مما جعله أحد أعظم ما كُتب عن الحب في التراث الإنساني.

فاطمة المرنيسي:

كاتبة نسوية مغربية وعالمة اجتماع. وُلدت في أسرة من الطبقة المتوسطة في مدينة فاس عام 1940. تلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة أنشأتها الحركة الوطنية، وأكملت تعليمها الثانوي في مدرسة للبنات تموّلها الحماية الفرنسية. وفي عام 1957، درست العلوم السياسية في جامعة السوربون ثم في جامعة براندايس، حيث نالت شهادة الدكتوراه. عادت إلى المغرب وعملت في جامعة محمد الخامس، ودرّست في كلية الآداب بين عامي 1974 و1981، مواد مثل المنهجية وسوسيولوجيا الأسرة وعلم النفس الاجتماعي. وقد اشتهرت على الصعيد العالمي بشكل رئيسي بوصفها نسوية إسلامية. رحلت الكاتبة عن عالمنا في نوفمبر 2015.

ابن حزم:

خبير الحب الأندلسي، ومرجع المرنيسي الأساسي، وُلد سنة 384 هـ (994 م) في قرطبة، المدينة الإسبانية التي حكم فيها خلفاء بني أمية بعد فتح الأندلس عام 756 م.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات