الخلاص… بقلم: علي عبد القادر…. قصة قصيرة

بقلم/ علي عبد القادر

d8b9d984d98a-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d982d8a7d8afd8b1 الخلاص... بقلم: علي عبد القادر.... قصة قصيرة

هتعملي فيها مجنون!
صرخ الضابط، فاستأنف الجلادون العزف على ظهورنا بالسياط. كنا معلقين في وضع الدجاجة. ومن لا يعرف هذا الوضع، فهو أن تعلق بحبل من كعبيك في السقف ورأسك يتدلى للأسفل حتى تشعر بأن عيونك ستقتلع من محجريها نتيجة ازدياد تدفق الدم لدماغك. كان الجلادون قد انتهوا من وصلة ذاك اليوم، غير أن إصرار ذلك الغريب على التفوه بنفس الترهات استفز الضابط فاستأنف فينا الجلد مرة أخرى.

كنا في عام الهزيمة، الإذاعة والصحف تشحن الجماهير تجاه الحرب، الجيش يخرج مسيرات للشوارع، نصبت الصواريخ محلية الصنع في بعض الميادين العامة. قال الزعيم والإذاعة والصحف أن صواريخنا تلك تستطيع الوصول لقلب العدو وعاصمته. صدق الناس وكتب البعض عليها: هدية منا إلى (عاصمة العدو).

كانت هناك تذاكر حفلات الست القادمة تباع، والحفلات ستكون في عاصمة العدو. لذا كان من الطبيعي وقتذاك تجد نقاشًا نتداوله حول كيفية الوصول لعاصمة العدو بعد استيلائنا عليها لحضور حفلات الست، هل ستوفر الحكومة باصات محلية الصنع توصلنا، أم ستمخر بنا باخرة وتوصلنا ليافا مثلًا؟

الكل موقن النصر، فكيف يتزعمنا الناصر ونكون به مهزومين! إلا أن ذلك الكلام لم يرق لأخي. كان وأبي يختلفان حول ما يحدث.

– نحن نُجر إلى كارثة.
– كف عن كلام الشيوعيين هذا. سنسحقهم كما حدث في الحرب السابقة.
– وهل سحقناهم فعلًا! لقد قامر وكسب المقامرة فقط.
– بل هزمناهم، وسنهزمهم ثانية ونحرر الأرض.
– يا أبي، التصريحات الأخيرة نمنعهم من المرور بالمضيق، لافتات الشوارع مكتوب عليها: إلا المضيق يا زنديق. ألا يعني هذا شيئًا؟!
– الكرامة والسيادة.

لم أكن أطيق احتدام تلك النقاشات، فإما أتركهما يتناكفان وإما أفصل بينهما. أبي يصرخ أن الشيوعيين خربوا عقل أخي ويريدوا تخريب البلاد، وأخي يقول أن الفاشية العسكرية ستدمرنا كما دمرت الألمان والطلاينة. أما أنا كنت أستعد للزواج، إلا أن خطة الزواج تأجلت حين استيقظنا قرب الفجر على طرقات شديدة على الباب، فتح أبي الباب فاقتحم العسكر.
أبي: ماذا هناك؟
– أين فلان الفلاني.
– ليس هنا.
قلب العساكر الشقة لم يجدوه فأخذوني أنا.

***

ذلك السجين لا يبدو مجنونًا كما قيل على الرغم من غرابة ملابسه وقصة شعره. يحكي أنه ليس من هنا. أنا من المستقبل. كيف جئت؟ استخدمت آلة زمن. وهل في المستقبل آلات الزمن متاحة للجميع! بل جماعتي من فعلت بعد أن وجدنا بردية مع أحد الملوك فيها واحد من الأسرار الضائعة. آآآآه. لقد كنا محظوظين حين اكتشف أحد أتباعنا في هيئة الآثار البردية وأخبرنا السر. بردية أم آلة زمن يا صاحبي؟ البردية بها الاختراع، قمنا بتنفيذه، وأنا التجربة الأولى، أرسلت لتغيير مصير هذه الحرب التي ينهزم فيها ونغرق في تبعاتها. لقد حاولت لقاء الزعيم، لكن لم أعرف، لم يصدقني المسؤولون. هذا يجعلهم يودعوك مشفى المجانين أولى. فعلًا كان ذلك وهربت، درت في الشوارع أجهر بصوتي عاليًا، لا يجب أن نحارب، ستهزم يا زعيم، لا يجب أن تهزم يا زعيم. فألقي القبض علي ونقلت لهنا. لا أفهم كيف لا يصدقوني، أنا من الأنصار! عد لعقلك كله إلا الدين! لا أعني هؤلاء، بل نحن الأنصار، نحن المؤمنون بفكر الزعيم، أتباع الناصر هم الأنصار. أخبرتك أني من المستقبل وإن لم ننتبه فإن البلاد ستخسر الكثير.

كنت أجد كلامه مسليًا؛ أقله أفضل من حديث الشيوعيين والمثقفين المعقد. حكى لي عن الهزيمة وأنها ستكون منكرة وأن الزعيم سيستقيل بعد خطاب مؤثر يعلن فيه عن “استعداده لتحمل المسؤولية كاملة” قلت: إن حدثت هزيمة فعلًا فمن يتحمل المسؤولية سواه، يجب أن يحاكم! اعترض الغريب بحماس: لا، أنت لا تفهم، لن يحدث ذلك، أنت لا تفهم، الزعيم يواجه مؤامرة كبرى، يواجه قوى أكبر مما في يديه، أنت لا تفهم، الأخوة يطعنوه قبل الأعداء. وبعد؟ ستعيده الجماهير، يبدأ المقاومة وتنظيم الصفوف والاستعداد لحرب التحرير لكنه مع الأسف سيموت. قال ستكون له جنازة مهيبة لن يعرفها أحد الحكام قط بعده. سيخلفه النائب ويبدأ معركة التحرير، سننتصر لكن النائب سيدمر كل شيء ويبيع القضية ويرتمي في أحضان الاستعمار وأعوانه، لكنه سيلقى حتفه بالرصاص. أخذ يقص عن تدهور أحوال البلاد والعباد وأعزى ذلك للتخلي عن الرؤية القومية للزعيم وما سيصيب الأخوة من شتات. سنتصالح مع العدو، تبرم معاهدة سلام ونعترف بوجوده وحقوقه، وسيأتون للسياحة عندنا كمان. فقلت: يا جدع، سبحان مقلب النفوس!

فجر ليلة تالية، أخذه العساكر للمحقق، مكث طويلًا، عاد خائر القوى، متورم العيون وبظهر نازف. سألته: ماذا حدث؟ أجاب: يريدون مني تغيير أقوالي والاعتراف عن أعضاء التنظيم. أخبر المحقق بما حكاه لي فأخبره بأنه لو حتى أصيب بنوبة صرع أمامه الآن لن يذهب لسراي المجانين قبل الاعتراف عن أعضاء التنظيم. ليلة ثانية أُخذ وعاد زاحفًا. كان بنطاله من الخلف ملوثًا بالدماء؛ أدخلوا عصا في مؤخرته. ضممته لصدري: أخبرهم بما يريدون. يجب أن أصل للزعيم قبل الكارثة. أي زعيم الآن، الكارثة أنك ستموت! يجب أن أصل إليه، هؤلاء من سيغرقون سفينته. قلت: ومن استجلب هؤلاء!

الاستمرار في قول الحقائق هنا يكبدك الخسائر وفقط، لذا كان الحل قول ما يريدون ويريحهم. حين جلبت، سئلت عن أخي، فقلت الحقيقة، وهي أني لا أعرف عنه شيئًا. سئلت عن التنظيم، فقلت أني لا أنتمي إلا لنفسي.
– تنتمي فقط لنفسك.. والوطن!
– يا سيدي، أعني أني لا أشترك في السياسة.
– لم والدولة توفر الحزب والروابط لحشد وتفهيم الشباب وحثهم على التحلي بفكر القومية والتقدمية ومحاربة الرجعية!
– يا بك، أنا فقط أريد أن أعيش حياة عادية، أنا لا أفهم هذه الأشياء.
– الإنكار والاستعباط لن يفيدا.

لم أنتظر الوصول لمرحلة دك العصا في مؤخرتي، اعترفت بما يريدون، اعترفت باشتراكي في منظمة الشرارة الزرقاء، استوحيت الاسم من لون قميصه وتكات الولاعة وهو يشعل سيجارته. كتب كذلك أسماء عشوائية لأعضاء التنظيم، حرصت قدر المستطاع ألا تتشابه مع اسماء أحد معارفي، عدا مديري في المصلحة كتبت اسمه كرئيس للتنظيم.

استيقظت في ليلة لم أجد الغريب، علمنا أنه في الإنفرادي، قيل بأنه تفوه بكلام غريب عن المشير والقادة، قيل: خبط جامد في الحلل. وهو ما دفع الإدارة لعزله بعيدًا نظرًا لخطورته. في الأيام التالية سرت أنباء قيام الحرب. بثت إدارة المعتقل صوت المذياع في المكبرات. أخذ يصدح بأعداد الطائرات التي أُسقطت وأننا نزحف إلى عاصمة العدو. لكن مهلًا.. الغريب أخبرني بذلك قبلًا! أول طعنة للزعيم ستكون من الإعلام الذي سينقل صورة غير حقيقية. الأعداد تتزايد، كل هذه الطائرات أسقطناها في هذه المدة القصيرة، لو أنها عصافير لأخذ وقتًا أطول! بعد يومين توقفت مكبرات الصوت، لكنها عادت مرة أخرى والزعيم يلقي بيانه، كان الزعيم يعلن انسحابه كما قال الغريب. هرعت إدارة السجن لزنزانة الغريب، أعادوه من وضع الدجاجة لوضع منتصبي القامة، أسندوه وحين فكوا وثاقه تكور على أرض الزنزانة ميتًا.

عرفت الإدارة أن الغريب كان يحادثني، استجوبوني، فحكيت تفاصيل واخترعت حكايات، أي منها لم يكن مما رواه لي الغريب. لحسن الحظ أن الإدارة تغيرت ونقلت لسجن آخر.

بعد سنوات خرجت من السجن، كان كل شيء قد تغير، تستشعر ذلك في الهواء وسحن الخلق، خاصة بعد معركة التحرير المبتسرة، المزاج العام في البلد صار أميل للتطرف الديني وهو ما فسرته الإذاعة والصحف وبث التلفاز بأنه عودة لمذبح الرب بعد هرطقات الشيوعين التي وهبتنا الهزيمة، خاصة أنه بعد موت الناصر تزعمنا نائبه المؤمن الذي رفع شعار إحياء أخلاق القرية المهدرة والإيمان القويم. كان أخي في تلك الفترة محبوسًا، أو كذلك تمنينا، أمي تجلس على الأريكة بساعات تنتظر دخوله عليها من الباب، وأبي يدعو في صلاته أما أنا حاولت إيجاد عمل.

كان الوضع يؤذن بالرحيل، الكل يفكر في الفرار لأراضي النفط، إذ أن فتوحات الزعيم المؤمن كما أخبرني الغريب من قبل جعلت الوظيفة لا تغني ولا تسمن. أي وظيفة وأي هراء، فأختي التي تركتها في البكالوريا، وقتذاك كانت قد نضجت وصارت عروسًا، بغلان بعرض الحائط هما أنا وأبي لا نقدر على تجهيزها! أيضًا كانت خطيبتي الأولى قد تزوجت وسافرت مع زوجها للخليج وقالوا لي: تحجبت.

كان لا بد أن أتناسى ما قد كان من سنوات مهدرة وأحاول أن أعيش، ولكن معادلة العيش كانت تتطلب السفر والعمل والعودة بالمال إلى هنا. ظللت لليالي أتذكر كلمات الغريب وحكاياه، التي تتحقق، لذا اتخذت قراري بما يجب أن يكون.

أخذت أعصر ذاكرتي  وأنا أسجل حكايات الغريب في ورق فلوسكاب. كان ملفًا كبيرًا وضعته في مظروف، أوصيت أبي أن يسلمه لأخي حين يفرج عنه. فأخي ومن على شاكلته إن صدقوا ما في الأوراق من نبؤات سيحاولوا تغيير الأمور.

– ماذا ستفعل الآن؟
سأل أبي، أخبرته أني سأسافر لأكل العيش.
– الخليج؟
– أوروبا.

لم أفصح عن نية الهجرة لأحد حتى أمي، لكني فعلت، ولله الحمد استطعت التنازل عن جنسيتي الأم والحصول على جنسية جديدة. كم أنا مدين لهذا الغريب.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات