الخلطة السرية للسلطة.. القضاء ج1.. بقلم: أحمد خفاجي
الأستاذ أحمد خفاجي يكتب سلسلة مقالات بعنوان “علي عبد الرازق وسؤال السلطة”. وهذا هو المقال الرابع: “الخلطة السرية للسلطة.. القضاء ج1”.
بقلم: أحمد خفاجي

ثانيا: القضاء
1- من فقه الإسلام إلى قوانين فرنسا
“كل الحيوانات متساوية، إلا أن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها” جورج أورويل1.
انطفأت أضواء المسرح، ساد هدوء تام، وتقدمت سهير البابلي (سكينة) أخت (ريا) تتخيل نفسها واقفة في رهبة وخضوع أمام هيئة المستشارين داخل المحكمة، وتبدأ دفاعها باستعطاف باذخ “يا حضرة القاضي..”.
يعكس المشهد المسرحي صورة ذهنية شائعة لدى كثير من المصريين عن المحاكم والحكومة والقضاء، وهي العناصر التي ظهرت بصورة أوضح في “شاهد ماشافش حاجة”، حيث طالت سخرية عادل إمام كل هؤلاء إلا قاضي المحكمة، فقد احتفظ بهيبته، حتى وهو على خشبة المسرح.
وقعت أحداث قضية ريا وسكينة -وأدهم الشرقاوي أيضًا (هامش: في المخيال الشعبي تحولت ريا بنت علي همام وأختها سكينة إلى رمزين خالصين للشر، بينما تحول أدهم الشرقاوي القاتل المأجور وقاطع الطريق إلى بطل شعبي)- في العام الذي شهد واحدة من أعظم ثورات المصريين ضد الاحتلال البريطاني 1919 م2، ومن الجدير بالذكر أن محافظ الإسكندرية -موقع الحدث- في ذلك الوقت، كان حسن باشا عبد الرازق الصغير شقيق علي عبد الرازق الذي كان يعمل وقتها قاضيًا شرعيًا بمحكمة المنصورة، مشتغلًا على كتابه “الإسلام وأصول الحكم”.
كانت المحكمة مصرية خالصة: القضاة كلهم مصريون، يتحدثون بلغة أهل البلاد، ويحكمون بمواد القانون الجنائي المصري، بدون تدخل من السلطة الخارجية، أو هكذا بدا الأمر، وقعت المحاكمة ضمن ما عُرف بـ “القضاء الأهلي” الذي تأسس عام 1884 م أي بعد عامين من خضوع البلاد للاحتلال البريطاني3.
وقصتنا تبدأ من خضوع مصر المملوكية للسلطنة العثمانية 1517 م، وفي مقابل بيت القتلة: ريا وسكينة وأعوانهما، فإن أبطال قصتنا هم أبناء “بيت القضاة” من آل عبد الرازق.
قبل فتح الستارة: لوحات متتالية:
لوحة أولى: شيوخ ومعلمين ومفتين وقضاة وأئمة مساجد يرفعون أيديهم في مهابة، وفي الخلفية تسود “الفوضى المملوكية”4، وأحد الرحالة الفرنسيين يجلس لتسجيل الصورة ورسم ملامح مكانة “علماء” ذلك العصر5.
لوحة ثانية: نابليون يُصافح أعضاء “ديوانه” من شيوخ الأزهر، والشيخ الشرقاوي ينزع العلم الوشاح الفرنسي من على صدره.
لوحة ثالثة: السيد عمر مكرم وشيوخ وطلابه يقودون الثورة ضد الفرنسيين الكفار.
لوحة رابعة: طالب أزهري من حلب، يختبئ وراء شجرة بحديقة مقر إقامة قائد الحملة كليبر، ثم يقفز ليطعنه، ليسقط كليبر غارقًا في دمائه.
لوحة خامسة: شيوخ أزهريون يقودون طوائف القاهرة ليحاصروا خورشيد في قلعته، ويجبروه على ترك البلاد.
لوحة سادسة: السيد عمر مكرم يضع خلعة الولاية على كتف الضابط الألباني محمد علي، بعد أن وافق الأخير “على التشاور مع العلماء في الشئون السياسية، وأتاح لهم فرصة الإثراء عن طريق امتلاك المزارع الضريبية ومن خلال توظيف الأرصدة الوقفية للأغراض الشخصية6.
سابع لوحة: السيد عمر مكرم، يخرج راكبًا حماره منفيًا، والجماهير تنظر بأسى، فـ “بعد نجاح محمد علي في ترسيخ سلطته، بادر إلى إخضاع العلماء للنظام، وإلى طرد كبار الناطقين باسمهم من مواقعهم، وإلى إلغاء المزارع الضريبية والمؤسسات الوقفية، وإلى جعلهم تابعين للحاكم ومعتمدين عليه في مداخيلهم7.
الفصل الأول: المشهد الأول:
صوت الراوي علي عبد الرازق:
“وتوجد أوراق أخرى في العائلة باسم السيد أحمد القاضي سنة 1165 هـ – 1752 م”8.
في واجهة المسرح شاشة كبيرة تعرض ثلاث لقطات متتابعة:
1- إستانبول 1535 م: السلطان سليمان القانوني ينهض واقفًا لمصافحة القنصل الفرنسي، بعد أن تم التوقيع على أول اتفاقية امتياز عثمانية مع فرنسا، وهو يهمس لنفسه في مونولوج داخلي: الآن أصبحت فرنسا معنا ضد النمسا وروسيا، وغدا تفتح البلاد أبوابها للتجار الأجانب، ليعم الرخاء.
2- نفس الديكور السابق، السلطان سليمان يضع “قانون نامه” ويصبه في “الفراغ التشريعي” رافعًا كف التحية للقضاء الشرعي والمحاكم الشرعية، وهو يهمس لنفسه: الآن أنظم القضاء، وأقسم الولايات القضائية، وأحدد الرقابة على الأوقاف، وأنظم العقوبات غير المنصوص عليها في صراحة في الفقه، ويصل قانونه إلى مصر، ويستقر مدونًا في سجلات المحاكم الشرعية، حيث نرى بأعيننا أحكامًا تنتسب للأعراف السلطانية، لا للفقه الإسلامي: ضرائب الأوقاف، غرامات، إجراءات حجر، تفتيش على الخانات والحمامات.. إلخ.
3- جنود عثمانيون ينسحبون منهزمين أمام الجيش الروسي، يجلس السلطان وهو يستعيد مظاهر التفوق الأوروبي: تنظيم إداري ومالي “بيروقراطي”، تعليم وقانون ومدارس حديثة. ينهض السلطان واقفًا، وقد عزم على أن يخوض معركة “التحديث” بادئًا بإصلاح الجيش، وإدخال نظم محاسبة، ودوائر مالية حديثة، وهيكلة للبيروقراطية. والعنوان العريض بطول الشاشة “لا يفل الحديث إلا الحديث”.
وهكذا بدأ عصر “التنظيمات” (1839 م – 1879 م) بـ:
فصل بعض السلطات الإدارية عن السلطة الدينية، تأسيس مجالس قضائية وإدارية تعتمد على قوانين وضعية لا فقهية، ومن عمق الشاشة تبدو شيئًا فشيئًا كقطار قادم من بعيد، ملامح “القانون المدني العثماني” و”مجلة الأحكام العدلية” تحت عنوان: تقنين الفقه الحنفي بصيغة قانونية.
تنطفئ الشاشة، لنلمح وجه مصر من بعيد، تُطل على المشهد وهي تقول: على بركة الله. وعلى أحد الجدران تبدو صورة سليم الأول، الرجل الذي فتح مصر، وأبطل نظام القضاة الأربعة، وجعل قاضي القضاة حنفيًا من الأتراك، والشافعي يُدير ظهره، راحلًا مع تابعيه بعيدًا إلى الأطراف والأرياف.
فاصل إعلامي:
لا يسير الواقع دائمًا وفق ما خطته أقلام الحكام من قوانين. جاء القرن الثامن عشر، وأبدى العلماء استقلالا أكبر في تأكيد سلطة الشريعة، وصار القضاة العثمانيون يستعينون بنواب من المصريين، ينتمون للمذاهب الأربعة.
“وبينما كان القضاة العثمانيون يعينون لسنة إلى سنتين، كان النواب يتم تعيينهم مدى الحياة، يفصلون في القضايا وحدهم، فحازوا قدرًا كبيرًا من الاستقلال والنفوذ”9.
ولما كانت أغلبية المصريين أميين، فقد ظهرت فئة “العرضحالجي” الذي يكتب العرائض نظير أجر معلوم، واحترف آخرون مهنة “وكلاء الدعاوى” وقد فشا بينهم الجهل بالشريعة، فاستحقوا لقب “المزورين” وتلك كانت بداية ظهور فئة “المحامين”10.
المشهد الثاني:
المنيا، بني مزار:
يجلس حاكم الإقليم قائمًا بدور “حاكم السياسة”، للقضاء في مسائل الإدارة والجنايات. بينما قاضي الإقليم في مقر المحكمة الشرعية، في مجلسه تحت عنوان “حاكم الشرع” يُطالع القاضي “الشرعي” بسعادة المادة 41 من قانون نامه، وقد منحته الاستقلال عن حاكم الإقليم، ثم يبدأ لممارسة أعماله:
فصل في المنازعات، توثيق عقود الزواج والبيع والشراء، ثم يهرول مسرعًا للإشراف على إدارة الأوقاف، أو يقوم بإشهار إسلام أحدهم، ثم يُسرع لممارسة أكثر مهامه إمتاعًا: الرقابة على الموظفين الإداريين بالإقليم11. يعود القاضي إلى بيته، وقد امتلأت جيوبه بما جمعه من رسوم القضاء 2.5 % على كل قضية، وهو اليوم أشد سعادة، لأنه أخذ وحده النصيب الأكبر من ثلث تركة رجل مات بلا ورثة12. وفجأة يتضاءل الأمل في قلبه، فقد تذكر حاكم الإقليم، وقد أخذت سلطته تمتد إلى مجالات الإدارة، والجباية، والتنظيم، والخدمات العامة. و ينتاب القاضي إحساس مر المذاق بأن البساط أخذ يُسحب من تحت قدميه.
الفصل الثاني: المشهد الأول:
صوت الراوي علي عبد الرازق:
“وتدل بعض الأوراق المحفوظة في العائلة على أن قاضيًا اسمه عبد الرازق كان على قضاء البهنسا في سنة 1213 هـ – 1798 م.. ثم ولي قضاء البهنسا من بعده ابنه محمد”13.
المنيا، البهنسا، 1795 م نهار داخلي:
يصحو الشيخ عبد الرازق القاضي من قيلولته، على صوت جهوري، يعرف صاحبه تمامًا، إنه صوت خادمه:
– إلحق يا مولانا.
– فيه إيه يا وله، حصل ايه؟
– عرفت اللي حصل في مصر المحروسة؟
– خير اللهم اجعله غير. حصل إيه؟ المماليك وقعوا ف بعض تاني؟
– لا وانت الصادق، دول وقعوا مع أسيادنا مشايخ الأزهر.
– وقعتهم سودة، هببوا إيه ولاد الفرطوس دول؟
– حاجات تشرح القلب يا مولانا القاضي. كبارات البلد من التجار والأشراف والمشايخ، صمموا حتما ولابد إن المماليك يوقعوا على “الحجة الشرعية” يعني يتعهدوا بتنفيذ أحكام القضا وما يفرضوش ضرايب غير بموافقة الرعية، وبما يوافق شرع الله14.
– باسم الله ما شاء الله، دي ولا “الماجناكارتا” يا واد يا سلطان.
– ماكبجارته؟ يعني إيه يا سيدي القاضي؟
– يعني وثيقة حقوق إنسان يا وله.
– مش فاهم بردك.
– يعني السادة العلما والمشايخ كلامهم مسموع، وشرع ربنا نافذ يا وله.
– إنتو الخير والبركة يا مولانا، هيا مصر محروسة غير بالمشايخ والعلما والأشراف؟
– أنا حتمن وضروري أسافر مصر وأتأكد م الأخبار دي بنفسي.
المشهد الثاني:
المنيا، البهنسا، ليل داخلي:
القاضي عبد الرازق يأوي إلى فراشه، بعد عودته من مصر، ورغم إرهاقه، إلا أنه لا يتوقف عن التفكير فيما سمعه هناك:
مصيبة جديدة حلت على البلاد، مشاجرات تقع بين مصريين وأجانب، ويُساق المصري للمحاكمة في “القنصلية”، يؤجر مترجمًا -إن استطاع- ليترجم له ما يوجه له من أسئلة، القاضي وهو نفسه القنصل، يقرأ “مواد القانون”، لا يحكم بالشرع، وتنتهي المحاكمة دائمًا بتبرئة الأجنبي.
أين السادة الأشراف وشيوخ الأزهر، وعلماء الشرع من هذا البلاء؟!
الفصل الثالث: المشهد الأول:
القاهرة، القلعة، قصر محمد علي باشا:
في الصدارة يجلس الباشا على أريكته. ذهنه مشغول بما يحدث في إستانبول، ويفكر ماذا يفعل؟
يفكر في محاكم الأقاليم، وقد استقر رأيه على أن يترك موظفي الأقاليم يمارسون جانبا كبيرا من اختصاصات السلطة القضائية، بينما تظل المحاكم الشرعية تتولى النظر في المسائل الدينية و”المدنية”15.
فباسم “المدنية” و”التقدم” بدأ محمد علي بإضعاف العلماء 1809 م16 بمصادرة مزارعهم الضريبية ومؤسساتهم الوقفية17. وضم إليه الأوقاف (1837 م)، مما كان له تأثير سلبي على حركة التعليم في الأزهر ومعاهده وكتاتيبه، مما سيكون له أثر كبير في ضعف الكادر القضائي وانتشار الفساد المالي والإداري في المحاكم الشرعية فيما بعد، لتبدأ دعوات محمد عبده وغيره إلى إصلاحها.
“خلال عقود القرن التاسع عشر، فقد العلماء نفوذهم. انسحبوا من الشئون العامة، ليحموا دائرة ضيقة من المصالح التعليمية والقضائية”18.
“تُرجمت قواعد القانون الفرنسي وطبقت في الجيش والبحرية”19.
يعتدل الباشا في جلسته، ناظرًا إلى الكاتب ويأمره بكتابة الفرمان التالي:
“قررنا نحن محمد علي باشا والي البلاد إلزام الموظفين والقضاة باتباع فتاوي العالم الجليل شيخ محمد المهدي العباسي، ومن يقوم بتعيينهم من المفتين على مذهبنا الحنفي”20.
لقد سعى محمد علي إلى إصلاح الجهاز القضائي وتوحيده، لكنه لم يتمكن من إخضاع الأجانب للقضاء المصري، وقد أدت اتفاقية لندن 1840 م وازدياد النفوذ الأوروبي داخل مصر، إلى أن تحولت المحاكم القنصلية إلى دولة داخل الدولة.
فاصل إعلامي:
حتى عام 1842 م لم يكن بمصر جهة إدارية خاصة بالشئون القضائية. وفي فبراير من ذاك العام، تأسست محكمة عليا. لكن بحلول عام 1849 كان قد حل محلها مجلس الأحكام، فكان يراجع أعمال المحاكم المحلية ويصادق على أحكامها، ويتمتع بسلطة نقض هذه الأحكام، وبحكم ما كان يتمتع به من سلطات كبيرة، كان الهيئة القضائية الرئيسية في مصر21. وكان من شأن الأعباء المتزايدة على الإدارة ضرورة فصل السلطة القضائية عن التنفيذية.
وفي عهد عباس قامت المجالس الابتدائية للنظر في القضايا الجنائية والمدنية في الأقاليم، لكن هذه المحاكم الحكومية كانت أقل عددا وأضعف من أن تؤدي وظيفتها بطريقة فعالة22. وكان الكثير من مصالح الحكومة ذات الإيراد حتى المحاكم الشرعية يُباع بالالتزام فيتصرف الملتزمون فيها وفي الرعية على حسب ما يشاءون .. وكان للمحسوبية والانتماء إلى الكبراء تأثير قوي على القضاة في أحكامهم23.
وكانت القضايا ثلاثة أنواع: نوع يرجع الفصل فيها إلى لجان يعينها الوالي بحسب إرادته، ويشمل قضايا كبار الموظفين، ونوع تفصل فيه دواوين الحكومة مشتمل على قضايا صغار الموظفين، والثالث يرجع النظر فيه إلى المحاكم الشرعية.
هذه كانت الحال في الزمن الأول وهي لم تتغير كثيرًا في عهد المرحوم إسماعيل باشا، فإن سلطة الإدارة على القضاة كانت تامة والتنفيذ موكول إلى الداخلية وهي كانت تفعل ما تشاء24.
لوحة تعبر من يمين المسرح إلى يساره:
المحاكم الشرعية تقف مصلوبة في منتصف الميدان، وسط دائرة تقذفها بالسهام جهتان: المحاكم الإدارية، والمحاكم القنصلية.
تحليل موجز
وقع التناقض الحاد بين النظام القضائي المعمول به في البلاد “المحاكم الشرعية والإدارية” وبين المصالح الاقتصادية للأجانب من رعايا قناصل الدول الغربية، وتجلى هذا التناقض في ثلاثة جوانب رئيسية:
– أن المحاكم الشرعية لا تقبل الإقراض بالفائدة، وهي أساس عمل الأفراد والبنوك التي ظهرت فيما بعد وانتهت بتعريض مصر للاحتلال البريطاني.
– وأنها لا تعترف بالشخصية الاعتبارية، وهي أساس عمل الشركات التي انتشرت في البلاد كالنار في الهشيم خاصة في مجال الاستثمار في شراء وبيع ورهن الأراضي الزراعية.
– أنها لا تجيز نزع ملكية الأرض من المدين المعسر، وقد كان نزع الملكية هو أهم وسيلة لجني أرباح الشركات العاملة في استصلاح الأراضي والاستثمار في بيعها وشرائها.
تحليل عام
لقد أدت الامتيازات الأجنبية إلى وجود فجوة طبقية وقانونية في البلاد، فقد كان “الأجنبي” يتمتع بـ (حماية قنصلية – إعفاءات جمركية – ضرائب مخففة – و”محاكم” خاصة لا يخضع فيها للشرع أو القانون المحلي). بينما “المصري العادي” كان خاضعًا للقاضي الشرعي أو المجلس المحلي، ويتعرض لعقوبات قد تكون أشد.
هذا الوضع خلق شعورًا مجتمعيًا بالتفرقة، بل بالظلم أحيانًا. وقد عم هذا الشعور أفراد الطبقة الوسطى والدنيا، كما أنهم شعروا بأن فيه مساسًا بالكرامة الدينية والاجتماعية.
عاجل: #وكالات-الأنباء
تعرض التاجر المصري محمد علي لاعتداء من قبل موظف فرنسي يعمل في الميناء، وتدخل القنصل الفرنسي، ونقل المحاكمة إلى المحكمة القنصلية الفرنسية، وقد انتهت المحاكمة بتبرئة المتهم الفرنسي بناءً على “اعتبارات حماية المواطنين الفرنسيين”، وقد أثارت القضية جدلا محليًا بين أهالي القاهرة، وفي صحفها25.
سؤال هامشي: ماذا عن طبقة النخبة؟
طبقة النخبة التي تنتمي إليها عائلة عبد الرازق وغيرهم من كبار الملاك، كانت -على الأقل في البداية- أكثر انفتاحًا بالنسبة لوجود الأجانب، مع وجود قدر من التحفظ، وبعض العائلات المصرية (خاصة ممن سكنوا المدن مثل آل عبد الرازق الذين أقاموا لهم قصرًا في عابدين) أعجبتهم مظاهر الحضارة الغربية؛ فأرسلوا أولادهم إلى أوروبا لتلقي العلوم “الحديثة” وربما تراوح موقفهم من الأجانب بين التعاون والانبهار وبين النقد والرفض الصامت، حتى نهايات القرن التاسع عشر، إذ بدأت تظهر مقالات وانتقادات حادة للمحاكم القنصلية في صحيفة المقطم، ودعا المحررون وأفراد من النخب الوطنية المثقفة إلى إلغاء الامتيازات، ودمج القضاء، وكان محمد عبده ورائف حلمي من أبرز من شاركوا في هذا السجال.
المشهد الثاني:
قصر سعيد باشا، نهار داخلي: نوفمبر 1865 م:
يدخل الباشا متبوعًا بحاشيته، عائدًا من رحلته إلى أقاليم البلاد، حيث زار أصدقاءه سلطان باشا وحسن عبد الرازق في المنيا وعددًا من القضاة والموظفين، واستمع إلى شكاوي الفلاحين وغيرهم.
الباشا مشغول البال بأفكار تفرض نفسها على تفكيره:
الناس تضغط لإحداث إصلاحات داخلية. السلطان في إستانبول يواصل تحديث القضاء في عاصمة السلطنة، ثم يفكر سعيد بما شاهده في رحلاته إلى أوروبا من مظاهر التقدم والتحديث.
يشير الباشا إلى كاتبه لتسجيل لائحة جديدة لتنظيم المحاكم الشرعية:
“تقنين الإجراءات، وتنظيم العمل بالمحاكم، وتحديد اختصاصات القضاة، وتنظيم جلسات المحاكمة، وتوثيق الأحكام في سجل قضائي، والحد من التداخل بين المحاكم الشرعية وغيرها من محاكم عرفية أو إدارية، وضع ضوابط لتعيين القضاة ومحاسبتهم وتحديد مرتباتهم، وتمييز قضايا الأحوال الشخصية عن القضايا المدنية والجنائية”.
إعلان هام:
تُعد لائحة سعيد هذه أول محاولة رسمية مكتوبة لتنظيم القضاء الشرعي، وطبقا لهذه اللائحة كان قضاة المحاكم الشرعية بالأقاليم على درجات مختلفة تبعا لمكانتهم وللإقليم الذي يتولون القضاء فيه، وكان عددها ست درجات، شغل قضاة المنيا – موطن عائلة عبد الرازق – الدرجة الثانية بمرتب 900 قرش شهريًا26.
هوامش:
- علم النفس التطوري: دافيد باس، ت: مصطفى حجازي، دار كلمة، الإمارات، الطبعة الأولى/ 2009 م، ص: 683
↩︎ - رجال ريا وسكينة: صلاح عيسى، الطبعة الأولى، القاهرة 2002 م ص: 17 ↩︎
- المحاماة: أحمد فتحي زغلول ص: 199 ↩︎
- انظر: مصر الخديوية ص: 20 ↩︎
- مصر في كتابات الرحالة الفرنسيين والقناصل الفرنسيين في القرن الثامن عشر، د. إلهام محمد علي ذهني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992 م، ص: 274 ↩︎
- تاريخ المجتمعات الإسلامية: إيرا م. لابيدوس – ت فضل جتكر، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2011 م، 2/843 ↩︎
- تاريخ المجتمعات الإسلامية 2/844 ↩︎
- من آثار مصطفى عبد الرازق- تصدير علي عبد الرازق، دار المعارف بمصر، 1957 م، ص: 6 ↩︎
- فلاحو الباشا الأرض والمجتمع والاقتصاد في الوجه البحري 1740 م – 1858 م – كينيث كونو، ت: سحر توفيق، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 2000 م ص: 96 ↩︎
- المحاماة، أحمد فتحي زغلول، مطبعة المعارف، الفجالة، مصر 1900 م، ص: 249 و 274 ↩︎
- التاريخ الاجتماعي للقانون في مصر الحديثة – د. محمد نور فرحات، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012 م، ص: 323 ↩︎
- التاريخ الاجتماعي للقانون في مصر الحديثة – د. محمد نور فرحات، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012 م، ص: 450 ↩︎
- من آثار مصطفى عبد الرازق ص: 6 ↩︎
- تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918 م إلى سنة 1936 م – عبد العظيم محمد رمضان، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1983 م ص: 26 ↩︎
- مصر الخديوية 1805 – 1879 نشأة البيروقراطية الحديثة – ف. روبرت هنتر، ت/ بدر الرفاعي، مصر المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2005 م ص: 62 ↩︎
- مصر الخديوية ص: 25 و 36 ↩︎
- تاريخ المجتمعات الإسلامية 2/ 841 و 844 ↩︎
- تاريخ المجتمعات الإسلامية: 2/844 ↩︎
- مصر الخديوية ص: 35 ↩︎
- فلاحو الباشا ص: 31 ↩︎
- مصر الخديوية ص: 72 ↩︎
- مصر الخديوية ص: 62 وما بعدها ↩︎
- المحاماة ص: 239 ↩︎
- المحاماة ص: 241 – 243 ↩︎
- مذكرة قنصلية بريطانية محفوظة في الأرشيف البريطاني (Foreign Office Papers) بتاريخ 1878 م ↩︎
- مصر في عهدي عباس وسعيد – زين العابدين شمس الدين نجم، مصر، دار الشروق، الطبعة الثانية، 2009 م، ص: 83 ↩︎
إلى لقاء في المقال الخامس…
لقراءة المقال السابق، اضغط الرابط التالي:
الخلطة السرية للسلطة.. التعليم.. بقلم: أحمد خفاجي
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد