الخلطة السرية للسلطة.. التعليم.. بقلم: أحمد خفاجي
الأستاذ أحمد خفاجي يكتب سلسلة مقالات بعنوان “علي عبد الرازق وسؤال السلطة”. وهذا هو المقال الثالث: “الخلطة السرية للسلطة.. التعليم”.
بقلم: أحمد خفاجي

قام في بلادنا التفاوت بين الأفراد على أساس الثروة والنفوذ والتعليم ونوع الحياة1.
أولا: التعليم
1- كُتّاب الشيخ أحمد القاضي
بني مزار، المنيا: الربع الأول من القرن التاسع عشر.
ما إن يفرغ الشيخ أحمد القاضي من إمامة الناس في صلاة الفجر حتى يهرعون إليه مقبلين يده الكريمة في إجلال وتعظيم، المسافة بين المسجد ودار الشيخ الواسعة لا تتجاوز أمتارا قليلة، يقطعها الشيخ وذهنه مشغول بترتيب أشغال الأنفار في فدادينه وحديقته العامرة بالأشجار والأزهار.
يتناول الشيخ فطوره ويرتدي قفطانه وعمامته؛ ليتوجه إلى مقعده في واجهة حوش داره الوسيع، في حوالي السابعة صباحا يبدأ إقبال الطلاب إلى كتّاب الشيخ حاملين ألواحهم الخشبية وأقلامهم الكوبيا ومصاحفهم، وقبل أن يجلسوا أمام الشيخ في مجموعات حسب مستوياتهم وأعمارهم، يقبلون عليه في خشوع مقبلين يده كما فعل آباؤهم من قبل.
يحظى كُتاب الشيخ أحمد القاضي بمكانة جليلة في قريته العامرة بأكثر من ثمانية كتاتيب، ليس لأن الشيخ رحيم في معاملة طلابه فحسب، بل لأنه كان قد أقام كتّابه هذا لا طمعًا في ما يدره عليه من مال، فقد كان لديه ما يكفيه مما يحصله من رسوم القضاء، ومما تدره عليه أراضيه الزراعية الممتدة خلف بيته العامر، وإنما كان يفعل ذلك حبًا في العلم والتعليم وزكاة عن علمه وخدمة لكتاب الله ورغبة في نيل الثواب من الله.
وربما التفت الشيخ أثناء الإقراء والكتابة إلى أحد النابهين من طلابه، لتعود به الذاكرة إلى أيام صباه، حين كان يجلس مثلهم أمام شيخه ليتلقى آيات القرآن الكريم قراءة وكتابة وليتعلم مبادئ الحساب وشيئًا من علوم اللغة.
كان الكتاب أو المكتب هو المؤسسة الوحيدة التي ينطلق منها النابهون من أبناء الفلاحين لينخلعوا من ربقة الفلاحة متوجهين إلى الأزهر لاستكمال دراساتهم.
و “كانت الغالبية العظمى من المصريين من الأميين، ولذلك كان خريجو التعليم الديني – بسبب تعلمهم ودراستهم الشرعية الفقهية – العمود الفقري للإدارة الحكومية الموجودة آنذاك، فكانوا يشغلون جميع مناصب الموظفين والكتبة والقضاة تقريبا، كما عملوا في التدريس، وأداروا المساجد، وأشرفوا على أداء الشعائر الدينية. وكان علماء الدين يتفاوتون فيما بينهم من حيث الثروة والمكانة. لكنهم في الجملة كانوا في حالة مادية جيدة إلى حد كبير، واحتلوا مكانهم في قمة المجتمع”2.
2- الكتاتيب: تاريخ التعليم الشعبي
“حفظ القرآن الكريم في كُتّاب القرية..”، ستجد هذه الجملة تتصدر الترجمة لكل أعلام النهضة المصرية رجالها ونساءها.
يُعرّف المعجم الوسيط الكُتّاب بأنه “مكان للتعليم الأساسي، كان يُقام غالبًا بجوار المسجد، لتعليم القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وشيء من علوم الشريعة والعربية، ومبادئ الحساب”3. أما المبرد فيقول في كتابه الكامل “المكتب موضع التعليم، والمكتب المعلم، والكُتّاب الصبيان، قال: ومن جعل الموضع الكتّاب فقد أخطأ”4.
يُرجع البعض تاريخ الكتاتيب إلى عهود الفراعنة حيث وجدت أماكن ملحقة بالمعابد لتعليم الصبيان اللغة المصرية القديمة والنصوص المقدسة وبعض مبادئ العلوم. أما في التاريخ الإسلامي فيُرجعها بعضهم إلى السنة الثانية للهجرة، حين جعل النبي فداء بعض أسرى بدر من المشركين أن يُعلم الواحد منهم عشرة من الغلمان الكتابة، فيُخلي سبيله، وكان من هؤلاء الغلمان زيد بن ثابت الصحابي المشهور.
ويذكر ابن جبير الأندلسي (614هـ) في رحلته إلى المشرق أنه كان هناك تخصص في التعليم داخل الكتاتيب، فمعلم للقرآن، وآخر للخط العربي.
وقد كان في القاهرة وحدها إبان الحملة الفرنسية 245 كُتابا، تناقصت إلى مائتي كتاب في أيام علي مبارك. ونظام الكتاتيب في مصر كان تعليمًا شعبيًا، قام به الأفراد الذين أنشئوها لقاء مبالغ زهيدة، وأوقف الأغنياء من ولاة الأمور أو التجار الأوقاف للإنفاق على هذه الكتاتيب، وكان يتم تعليم الحساب أحيانا عند قباني القرية.
وما إن دخل العثمانيون مصر حتى تدهور حال الكتّاب والتعليم عموما، فقد قاموا بإغلاق الكثير منها و تدهور التعليم في الأزهر، بعد أن كانت تُدرّس فيه مختلف العلوم ومنها الطب والرياضيات والفلك.
ومع بداية القرن التاسع عشر كان عدد الكتاتيب في مصر قد تجاوز الثلاثين ألفا في الكفور والنجوع. بخلاف الموجود في حوالي 2300 قرية مصرية، وفي المساجد والزوايا، خاصة مع تزايد الإرساليات التبشيرية.
كان الأطفال يلتحقون بالكتّاب في سن الخامسة أو السادسة وربما في الثالثة أحيانا، حيث يبقى الصبي إلى أن يحفظ القرآن كاملا، ويتعلم القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية، وشيئًا من الحساب. أما معلم الكتاب فكان يجب أن يتحلى بحسن الخلق والاستقامة والعفاف والعدالة مع الخبرة العامة بالقرآن وعلومه، وكان الصبي المتميز، أو الذي انتهى من إتمام حفظ القرآن، يساعد معلمه في تحفيظ الصغار وعُرف بلقب “العريف”.
معنى هذا أن الكتاب نشأ بمبادرات شعبية، لسد حاجات المجتمع إلى العلم الديني، بلا تمييز بين فئاته، بأدوات تعليم محلية زهيدة الثمن.
وكان “الضرب” شائعًا في ذلك الوقت، فالأب يقول لسيدنا “لك اللحم ولنا العظم” أو “اكسر واحنا نجبس” واشتهرت وسيلة العقاب بما يُعرف بالفلكة، وطريقة التعليم تقوم على التلقين.
وفي مصر كان التعليم في الكتاب يقوم على أربعة مراحل:
الأولى: مرحلة التلقين لمن كان دون الخامسة، ومن لا يجيدون القراءة والكتابة، فيقوم العريف بتلقين الطلاب القرآن من سورة الحمد إلى سورة الفجر ويكرر، وبعد كل ثلاث مرات يُسمّع للطلاب فمن يجتاز يذهب لسيدنا ليسمع له، فإن اجتاز أرسله إلى عريف آخر للسورة التي بعدها.
الثانية: لمن يجيدون القراءة والكتابة لكنهم في بدايات الحفظ، وتعتمد هذه الفئة على اللوح المكتوب مسبقا من (الشيخ) وهي أن يخط الشيخ على اللوح بمؤخرة القلم، ويتتبع الطالب ذلك الخط بالقلم والمداد من سورة الناس، وهكذا يتدرج في الحفظ وإتقان الكتابة معا، وبعد أن يتأكد شيخه من تعلمه للكتابة وبقدرته على أن يكتب بالإملاء، ينتقل من طريقة اللوح إلى طريقة الإملاء.
الثالثة: وهي الإملاء للوح المقرر حفظه، وفيها مهارتان: الإملاء والحفظ معا، على حسب قدرة الطالب على الحفظ.
الرابعة: يتلقى فيه الطلاب أحكام التجويد ويُكملون حفظهم حتى ختم القرآن كله مع المراجعة اليومية لما تم حفظه.
ولتعليم الحروف والقراءة والخط والعمليات الحسابية الأربع مراحل متعددة يمر بها الطلاب ليس هنا موضع بسطها.


وكان الكتّاب يقسم عادة إلى مكان مخصص للشيخ وآخر للعريف وثالث للصلاة. يجلس الطلاب على حصائر محلية الصنع، ويجلس المعلم على كرسي مرتفع أو مصطبة. وأدوات الكتابة كانت هي الألواح الخشبية وقطع الحجر الجيري والقلم الرصاص (الكوبيا) وأجزاء منسوخة أو مطبوعة من القرآن ودفاتر للكتابة، أما أعلى المراحل فتتضمن مصحفا شريفا وكشكول ورقي (دفتر كبير مقسم لأقسام) والقلم الحبر أو ريشة الكتابة أو قلم من البوص، ودواية الحبر الجاهز أو المصنوع من هبوب موقد الكيروسين. ويضع الطلاب أدواتهم في كيسة من القماش.
وكانت الدولة تحاول الإشراف على الكتاتيب أحيانا. وأوقات الدراسة تحدد بعلامات طبيعية فشروق الشمس بداية اليوم حتى أذان العصر. وكانت العطلة يوم الجمعة وفي الأعياد أو عند اختلال الأجواء. وإذا غاب المعلم أناب عنه من يقوم مكانه. وكان التعليم يشمل الصبيان غالبًا والبنات نادرًا مع عدم الخلط بين الجنسين. وقد يشمل مع المواد المقررة تعليم الآداب والأعراف والأخلاق.
وكان تمويل الكتّاب يتم من خلال ما يدفعه الآباء من مقابل مادي أو عيني أو من خلال الأوقاف كما ذكرنا.
“ولم يكن مقدرًا لخريجي الكتاتيب بالضرورة أن يصبحوا علماء دين، بل كان من المعتاد للطلاب الذين يمضون بعض الوقت في الكتاب أن يمتهنوا مهنا أخرى، وغالبا ما كانوا يمتهنون مهنة آبائهم”5.
أما من أراد استكمال الدراسة بعد مرحلة الكتّاب فكان عليه أن يلتحق بأحد المعاهد العليا التابعة للأزهر في البندر، أو ينتقل إلى الدراسة بالجامع الأزهر في القاهرة المحروسة، ولم يكن يقدر على مواصلة هذا النوع من التعليم إلا القادرون من الأسر المصرية.
3- آل عبد الرازق من كتاتيب بني مزار إلى جامعات لندن وباريس
يذكر علي عبد الرازق عن جده أحمد أفندي القاضي أنه كان على جانب ملحوظ من الثقافة والذكاء وحسن الأدب. كما يذكر عنه معلومة شديدة الأهمية، ذلك أنه “تعلم اللغة التركية، وصحب الخديوي سعيدًا في رحلة دراسية إلى إستانبول عاصمة الخلافة الإسلامية”، يقول علي عبد الرازق أن “أحمد أفندي هذا قد عاش غير قليل بعد سنة 1270 هـ التي انتهى فيها حكم سعيد باشا بموته (1863 م)”.
بعد سنوات طويلة، وبالتحديد عام 1902 م سيزور بني مزار الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية، بصحبة حسن باشا عبد الرازق حفيد الشيخ أحمد القاضي سالف الذكر؛ لينشئ أول مدرسة “حديثة” في بني مزار، وتحت إصرار حسن باشا تصبح هذه أول مدرسة تنشئها الجمعية تقوم بتدريس اللغة الأجنبية.
كان التغيير الذي حدث في مصر شاملا بين زمن أحمد أفندي القاضي، وزمن ولده حسن باشا. لكن ظل التعليم هو اللبنة الأولى وحجر الأساس في الوصول إلى السلطة والنفوذ والمكانة الاجتماعية.
فقد أمضى حسن عبد الرازق حوالي تسع سنوات في الأزهر، وكان من شيوخه الشيخ الخضري الدمياطي، والشيخ الأشموني، والشيخ نصر الهوريني، والشيخ منصور كساب، وكلهم من أكابر العلماء، فنشأ الرجل مجيدًا علوم الأدب والنحو وعلوم اللغة، وعُرف بكثرة حفظه لجيد الشعر، وكانت له قريحة سيّالة بنظم المعاني اللطيفة، حتى قيل إنه لو جُمعت منظوماته لجاءت ديوانًا.
وقد تعرف حسن باشا عبد الرازق (الكبير) وهو عضو في مجلس شورى القوانين على الشيخ محمد عبده عام 1899م السنة التي اختير فيها الشيخ مفتيًا للديار وعضوا معينا بالمجلس وتوثقت العلاقة بينهما بمرور الأيام.
أما مصطفى بن حسن عبد الرازق الكبير والمولود عام 1885م فقد التحق بكتاب من كتاتيب القرية في السابعة من عمره، حيث تعلم القراءة والكتابة وحفظ شيئًا من القرآن الكريم. ثم أرسله والده إلى الجامع الأزهر ليتلقى العلم فيه وهو في العاشرة من عمره. وكان والد مصطفى يعتني به، فيقرأ معه في الإجازة بعض الكتب الأزهرية، و يتدارس معه أشعار المتنبي خاصة، وبفضل هذا التوجيه، أخذت تتجلى في سن مبكرة ملكة الأدب التي كانت كامنة في طبيعته.
وسيواصل أبناء الباشا تعليمهم بداية من كتّاب القرية إلى الأزهر و/أو الجامعة المصرية.
وفي أزهر القاهرة سيتتلمذ مصطفى عبد الرازق على الشيخ محمد عبده، ويبدأ عام 1903م في حضور دروسه التي يلقيها بعد صلاة المغرب في الرواق العباسي بالجامع الأزهر ثلاث ليال من كل أسبوع في قراءة كتاب “دلائل الإعجاز” لعبد القاهر الجرجاني، وليلتين في تفسير القرآن الكريم، ثم يلتقيان معا إما في بيت آل عبد الرازق بعابدين أو في بيت الأستاذ الإمام.
وحتى عندما يعود الشيخ مصطفى إلى بني مزار في إجازته السنوية، كان يقبل على قراءة ما يُنشر للإمام في مجلة المنار ذائعة الصيت في ذلك الوقت، والتي كان يُحررها أشهر تلاميذ الشيخ محمد عبده: الشيخ محمد رشيد رضا، وكان مصطفى يقرأ مع أخيه علي تفسير الإمام محمد عبده لجزء “عم” وأجزاء من “دلائل الإعجاز” و”أسرار البلاغة” و”البصائر النصيرية” أو “العقائد العضدية”.
وهكذا واصل مصطفى الذي كان يكبر عليا بثلاث سنوات دراسته في الأزهر على السنن المألوفة حينها، ينتقل من كِتاب إلى كتاب، بادئًا بالنحو، ثم فقه المذهب الشافعي مذهبه ومذهب والده، ثم أضاف إليهما الحساب والجبر ومبادئ الهندسة والجغرافيا، ثم انتقل إلى أصول الفقه وأصول البلاغة، ثم أضاف إليهما المنطق والفلسفة وتفسير القرآن والحديث، والأدب والعروض والقافية.
وكان من شيوخه في الفقه الشيخ الصالح بسيوني عسل، ثم الشيخ محمد حسنين البولاقي، والد أحمد حسنين باشا رئيس ديوان الملك فاروق فيما بعد. وكان الشيخ البولاقي زميلا لوالد مصطفى أثناء دراسته في الأزهر، وله كتاب في الرد على كتاب “تحرير المرأة” لقاسم بك أمين. ومن أساتذته في الفقه الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار.
وتعلم المنطق على يد الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي، والشيخ أحمد أبو خطوة وهو الرجل الذي اتخذه تلاميذ محمد عبده أستاذًا لهم بعد وفاة الإمام في 1905م فكان يقرأ لهم في منزله من كتاب “طوالع الأنوار” للبيضاوي، وهو من كتب الحكمة يذكر مذاهب الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم. ولما زاد إقبال طلاب الأزهر على درس الشيخ أبو خطوة غضب الخديوي عباس، فاضطر الشيخ إلى الاقتصار على تعليم عشرة فحسب من طلابه، كان من بينهم مصطفى وعلي عبد الرازق.
وبعد عام من وفاة والد مصطفى تقدم لامتحان العالمية أوائل سنة 1908م ليحصل عليها من الدرجة الأولى، وبعد شهر من حصوله على العالمية انتدب للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي التابعة لوزارة المعارف. و سوف يأتي الحديث عن قصتها لاحقا، والتي انتهت باستقالة الشيخ مصطفى منها في 16 مارس 1909م؛ ليعود مدرسًا في الأزهر الذي قامت فيه فتنة في تلك الأيام، نعرض تفاصيلها لاحقا، وفي تلك الأثناء كان الشيخ عبد العزيز شاويش/جاويش قد فكر في إنشاء مدرسة لتعليم الأزهريين اللغة الفرنسية وبعض العلوم ليتمكنوا من الذهاب إلى فرنسا واستكمال تعليمهم هناك، ووقع اختيار شاويش على الشيخ مصطفى ليكون من مجلس إدارتها.
وهنا نشأ التفكير في أن يسافر مصطفى إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية وبعض العلوم هناك. واتفقت الأسرة في يونيو 1909 على أن يسافر مصطفى إلى باريس ليقيم فيها سنة كاملة؛ ليتعلم اللغة ويحضر بعض دروس الفلسفة في السوربون، وقد رافقه في سفره الأستاذ أحمد لطفي السيد رئيس تحرير “الجريدة” لسان حال حزب الأمة.
وفي باريس حضر مصطفى دروس الأستاذ دوركهايم في الاجتماع والآداب، ثم تحول في سنة 1911م إلى ليون ليشتغل مع الأستاذ إدوارد لامبير -آخر مدير فرنسي لمدرسة الحقوق المصرية- فدرس عليه أصول الشريعة الإسلامية، ودرس تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب الفرنسي على يد الأستاذ جوبلو. وتم تكليف مصطفى بتدريس الأدب العربي في جامعة ليون بدلا من الأستاذ فييت الذي انتدب لتدريس تاريخ الأدب العربي في الجامعة المصرية.
أعد مصطفى رسالة ليتقدم بها إلى امتحان الدكتوراه في الآداب كان موضوعها “الإمام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام”. كما قام بالتعاون مع الأستاذ برنار ميشيل بترجمة رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده إلى الفرنسية.
ونتوقف هنا لنشير إلى ملاحظة لافتة سجلها علي عبدالرازق في مقدمته لكتاب آثار أخيه مصطفى، فقد كان علي يأخذ على أخيه مصطفى أيام دراسته في الأزهر وخاصة قبل تعرفه على الإمام محمد عبده أنه كان شديد المحافظة ميالا إلى شيء من الجمود الأزهري، لكن بعد أن التقى علي بأخيه بعد عودته من فرنسا إذ بعلي يقول:
“وأذكر أنني نازعته غير قليل في بعض ما حسبته يومئذ تغيرًا غير جميل، وأخالني قسوت أحيانًا في مجادلته، وكان هو في أكثر أحواله يحسم الجدل بيننا بابتسامة هادئة ونظرة حانية وكأنه يقول: “رويدك حتى ترى وتعرف، كما رأيت وعرفت””
.ثم يعلق علي على قول أخيه قائلا: “وكان في ذلك – رحمة الله عليه – صادقًا وحكيمًا”.
عاد مصطفى من فرنسا عقب وفاة والدته في 1912م واستقر رأي العائلة على أن يعود مصطفى إلى فرنسا وأن يسافر علي إلى إنجلترا، فتوجه مصطفى إلى باريس وعلي إلى لندن.
أما علي عبد الرازق فقد سار على نفس النهج الذي سار عليه من سبقوه من أخوته، تخرج من كتاب القرية، والتحق بالأزهر، وهناك تعلم على يد شيوخ كبار كان منهم الشيخ أحمد أبو خطوة والشيخ عليان غيرهم، كما شارك أخاه مصطفى في التتلمذ على الإمام محمد عبده، والتأثر بمنهجه.
وعندما افتتحت الجامعة المصرية 1908م التحق علي بها دون أن يترك دراسته بالأزهر، وفي 1912م تخرج من الأزهر وحصل على شهادة العالمية، وهي السنة التي توفيت فيها والدته، وعاد خلالها مصطفى أخوه من فرنسا، فاتفقت الأسرة على أن يعود مصطفى لاستكمال دراسته في فرنسا، وأن يرافقه أخوه علي لدراسة الاقتصاد بجامعة أكسفورد في إنجلترا، وهناك أتقن علي عبد الرازق الإنجليزية، ولابد أنه اطلع على ما كتبه المستشرقون عن الإسلام وشريعته، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى في يوليه 1914 اضطر الأخوان إلى أن يعودا إلى مصر.
وفي أوائل أكتوبر 1915 تم تعيين مصطفى سكرتيرا بمجلس إدارة الأزهر بفضل السلطان حسين كامل الذي كان صديقًا لحسن باشا عبد الرازق (الصغير) منذ تعرف عليه حين كان الأمير حسين رئيسًا للجمعية الزراعية التي أنشأها كبار ملاك الأراضي في مصر، وكان حسن باشا من أبرز أعضائها، وتوثقت العلاقة بينهما، فلما أصبح حسين سلطان مصر (1914م) اتخذ حسن باشا وكيلا للديوان العالي السلطاني.
وعندما كان مصطفى يدرس في فرنسا قابله الأمير حسين كامل في إحدى رحلاته هناك، فأعجب به ووثق فيه، حتى أن الأميرة قدرية بنت السلطان كلفت مصطفى بأن يترجم كتابها “طيف خيال ملكي” إلى الفرنسية.
وهكذا صار مصطفى عبد الرازق واحدًا من أهم المسئولين عن إدارة الأزهر وشئونه.
أما علي فقد عمل بالتدريس بالأزهر سنة واحدة بعد عودته من إنجلترا، قبل أن يوظف قاضيًا شرعيًا حتى 1925م عام صدور كتابه “الإسلام وأصول الحكم”. ولما عُزل علي عبد الرازق من القضاء عمل بالمحاماة، حتى صار نقيبًا للمحامين الشرعيين.
وفي أغسطس عام 1945م توفي المراغي شيخ الأزهر، وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق وزيرًا للأوقاف، وحدثت أزمة بين الملك فاروق وهيئة كبار علماء الأزهر، فقد رشحت الهيئة الشيخ عبد المجيد سليم لخلافة المراغي، ولكن الملك أصر على تعيين مصطفى عبد الرازق، وهو ما حدث بالفعل، بعد أن تم تغيير قانون التعيين خصيصا من أجله، إذ لم يكن مصطفى عضوًا في هيئة كبار العلماء، وكانت عضوية الهيئة شرطًا للتعيين في مشيخة الأزهر وفق قانون الأزهر المعمول به وقتها، فتقدمت وزارة النقراشي بتعديل لقانون الأزهر ألغى هذا الشرط، ووافق مجلس النواب على التعديل بجسلة 11 ديسمبر 1945م، وأحيل المشروع إلى مجلس الشيوخ فوافق عليه، وصدر الأمر الملكي بتعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخًا للأزهر في 16 فبراير 1946م.
ولما توفي الشيخ مصطفى في 15 فبراير 1947م، طُرح اسم الشيخ علي عبد الرازق وزيرا للأوقاف، ولما كان هناك حكم بإخراجه من زمرة العلماء، ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر، فقد تقدم العلماء بالتماس للملك فاروق نُشر بالصحف في 26 فبراير 1947م، بعنوان “العلماء يلوذون بالعرش في مسألة علي عبد الرازق بك” ونُشر بالصحف المرسوم الملكي بتعيين علي عبد الرازق وزيرا للأوقاف في 3 مارس 1947م.
أما حسين بك عبد الرازق ثاني أولاد الباشا فقد نال الليسانس من مدرسة الحقوق، وأراد له والده أن يكون عمدة بلده، وحين اشتكى حسين إلى صديق والده المقرب الشيخ محمد عبده، أرسل إليه الأخير رسالة يؤيد فيه رأي والده.

وهكذا بفضل التعليم نجح أفراد آل عبد الرازق في الوصول إلى أعلى المناصب. حسين عبد الرازق عمدة أبو جرج، ومصطفى عبد الرازق وزيرا للأوقاف ثم شيخا للأزهر، وحسن عبد الرازق محافظًا للإسكندرية ثم وكيلا للديوان السلطاني، وعلي عبد الرازق وزيرا للأوقاف.
لم يكن “التعليم” بالطبع هو العامل الوحيد الذي أوصلهم إلى تلك المكانة السياسية والاجتماعية الرفيعة، فقد كانت هناك عناصر أخرى لتلك الخلطة السرية التي أوصلتهم إلى السلطة، وهذا ما سنتناوله في الحلقات القادمة إن شاء الله.
هوامش:
- حسين خلاف: التجديد في الاقتصاد المصري الحديث. ↩︎
- أنثروبولوجيا الفقه الإسلامي: ص 127 ↩︎
- المعجم الوسيط مادة كتب 1/45 ↩︎
- الكامل للمبرد 4/78 ↩︎
- أنثروبولوجيا الفقه ص 125 ↩︎
إلى لقاء في المقال الرابع…
لقراءة المقال السابق، اضغط الرابط التالي:
بيت القضاة: من المكان إلى المكانة .. بقلم: أحمد خفاجي
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com
تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد