الدين.. والتدين.. الطبيعة المزدوجة للنص … بقلم: عمرو عبد الرحمن

ظل الخلاف بين العلماء طويلاً على تحديد ماهية الضوء.. هل هو موجات أم جسيمات؟
كل رأي له أدلته والجماعة التي تدعمه. فالضوء أحياناً يتصرف كالموجات وأحياناً يتصرف كالجسيمات. فهل كان الضوء مراوغاً أم أنه من الصعب التصديق بوجود طبيعة مزدوجة للأشياء؟

بقلم/
عمرو عبد الرحمن

280709377_5758375077522788_4038074696299373968_n2 الدين.. والتدين.. الطبيعة المزدوجة للنص ... بقلم: عمرو عبد الرحمن

في هذا المقال أقدّم قراءة لكتاب الأستاذ عبد الجواد ياسين، “الدين والتدين.. التشريع والنص والاجتماع”. وهو كتاب أعتبره جزءاً من مشروع ساهم فيه كُتاب كثيرون مثل نصر حامد أبوزيد وعلى مبروك، يهدف للتعامل مع النصوص بشكل أكثر اتساقاً مع الواقع وأكثر فهماً لمدلولاته.

bwgdf1sigvhjwcuqf0lwhbciznf5jtl5m9i7u1hf الدين.. والتدين.. الطبيعة المزدوجة للنص ... بقلم: عمرو عبد الرحمن

يبدأ عبد الجواد ياسين كتابه الدين والتديّن بالتأسيس في المقدمة لفكرة أثر التديّن أو العنصر البشري في الأديان السماوية.. فمثلاً اليهودية تُعتبر ديانة قومية، مرتبطة بمجموعة من البشر وبمكان محدد من الأرض، وانتقلت من الوصايا
العشر التي كانت تعتبر كلاماً بسيطاً إلى جمع التوراة وكلام الأنبياء وصولاً للتلمود.
والمسيحية ومدى تأثير الرومان عليها في مجمع نيقية الذي رأسه الإمبراطور الروماني قسطنطين، والذي لم يكن قد تم تعميده بعد. وقرر بالتصويت اعتماد تجسد المسيح ونبذ أي رؤى لاهوتية أخرى تناقض رؤية بولس التي كانت الحد الفاصل بين المسيحية كامتداد لليهودية وبين كونها دين مستقل، ليصدر الدين بعد غياب مؤسسه بثلاث قرون وبآلية ديمقراطية وإشراف من الدولة. وبعدها في مجمع بنزرت يتم اعتماد الأناجيل الأربعة كنسخ حصرية للكتاب المقدس، بعدما كانت التوراة فقط هي الكتاب المقدس.
تخلي بولس عن الشق التشريعي للمسيحية كان له أثر في احتواء الرومان للمسيحية، فكان ما لقيصر لقيصر والديانة أصبحت لاهوت صرف وتكريس لمركزية الكنيسة التي طورت صلاحياتها التشريعية مع الوقت.

في الإسلام كان حضور الاجتماع واضحاً، بداية من اللغة والتشريعات المتماشية مع البيئة البدوية المحيطة، وفكرة الجهاد ومركزيتها التي أدت لاتساع الدولة واستيعابها لأجناس مختلفة من البشر دخلوا الدولة قبل دخول الدين، فكان لذلك أثر في نشأة صراع سياسي تحول لمذهبي وفقهي.
في ظل هذه الحالة من السيولة كانت الحاجة لنص أوسع من القرآن حتى يواجه التطورات اللاهوتية والتشريعية، وبعد قرنين كان فيهم القرآن نص وحيد له قدسية، تحولت السيرة إلى سنة والسنة إلى نص مكافئ للقرآن في حجيته.. السنة كمصطلح لم يكن جديداً لكن الجديد كان تحوله لنص محدد، تأصيلاته تضفي عليه قدر من القدسية. إنشاء النص هو فعل بشري، ونقله تم عن طريق البشر.

في المبحث الأول يبدأ الأستاذ عبد الجواد ياسين بالكلام عن العلاقة بين الدين والإطار الزمني والموقع الذي بدأ فيه ومجموعة الناس المستهدفين في البداية.
ففي اليهودية كان موسى امتداداً لدين موجود فبدأ بالألواح والوصايا مباشرة، بينما المسيحية كانت روحانية بشكل أكبر في مواجهة الفريسيين، وتعتبر حركة تجديد لليهودية إلى أن استقل بها بولس الذي انطلق من أن الشريعة ليست صلب الدين.

وفي الإسلام نستطيع أن نلاحظ التأثير الزمني من الفرق في محتوى السور المكية والمدنية. ففي المكية نجد مفهوم الدين لذاته بدون تشريع في مواجهة المجتمع الوثني عن طريق حوار نظري، وفي المدنية ومع إنشاء الدولة بدأ التشريع في الاستحواذ على النصيب الأكبر.
النص القرآني كان تفاعلياً مع الوقائع في البيئة المحيطة به، ويظهر ذلك في مرونة النص في التعامل مع الواقع المتغير، الأمر الذي احتواه التدين السلفي بنظرية النسخ وكون النص وحدة واحدة تهدف للتشريع للمستقبل بشكل تفصيلي، وليس أنها تتعامل مع الواقع في فترة الوحي.

ويناقش أستاذ عبد الجواد ياسين الفكرة عبر ثلاث محاور:
أولها التنجيم، وهو نزول النص بشكل متقطع ودلالة الأمر على منهجية التشريع في مقابل التدين السلفي الذي يتبنى فكرة أن النص مجمل بشكل سابق على نزوله المفرّق.
التشريع القرآني مرتبط بوقائع معينة وأشخاص معينة، فلو أن التشريع مجمل وسابق الوقائع، فالوقائع حتمية ولا يمكن أن يختار أصحابها حدوثها بشكل مختلف، لأن الأحكام أزلية وسابقة عليها.. الأمر الذي ظهر واضحاً في قصة خلق القرآن.

ثاني المحاور هو أسباب النزول وضرورة ربطها بالأحكام القرآنية لفهم مرونتها وتفاعلها مع البيئة المحيطة، الأمر الذي يتخطاه التدين السلفي بمبدأ “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، والتفرقة بين إرادة الله الأزلية التي تظهر في المبادئ العامة للتشريع القرآني، وبين التشريع التفصيلي المرتبط بأحداث بعينها.
فالسؤال هنا هل ورود الحكم في نص يجعله مطلقاً في الزمان بغض النظر عن محيطه الاجتماعي؟
فمثلاً في تعامل النص مع العبودية نجده يتعامل برفق مع واقع موجود، يحث على تغييره لكن لا يمنعه بشكل مطلق. فهل هذا الحكم مطلق؟ هل لا يجوز منع العبودية لأن النص لم يمنعها؟ هل يجوز إعطاء الناس الحرية في أن يصبحوا عبيداً، لصعوبة ظروفهم الاجتماعية في زمان ونظام اجتماعي مختلف عن زمان وبيئة نزول النص؟

المحور الثالث هو النسخ، هل تغير الأحكام هو تعبير عن مرونة في التعامل مع واقع متغير، أم أن من الواجب تأويل النص لتنزيهه من تناقض لا يليق؟
يعرض الكاتب عدة أمثلة عن أسلوب النسخ وأنواعه، وهل يمكن للسنة أن تنسخ حكماً قرآنياً؟ مثل حكم رجم الزاني الذي لا وجود له في القرآن رغم الكلام عن آية تحدثت عنه لكن تم نسخها تلاوةً، وحديث ووقائع منسوبة للنبي أقر فيها الرجم.
أيضاً الآية الخامسة في سورة التوبة المعروفة بآية السيف والتي يوافقها الحديث المعروف “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله”، وهما اللذان اعتمدهما التدين السلفي منهجاً نهائياً للتعامل مع كل غير المسلمين، فهم في حالة حرب دائمة هدفها نشر الإسلام، واعتبروا الآية ناسخة لكل الآيات السلمية مثل “أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس – 99).

إن ما يحدد موقفك هو نظرتك لطبيعة النص هل هو مجمل أم مفرق؟ أزلي أم يتعامل مع واقع وبيئة محددة؟
قضايا اهتم بها علم الكلام، الذي تم استبعاده من الدائرة الدينية المؤثرة لحساب العلوم التدوينية المهتمة بالنص المجرد… وكان نتيجة ذلك أن بدلاً من أن يواكب النص التغيرات الزمنية والمجتمعية ليعيش في المستقبل، يريد التدين السلفي أن يتوقف التغير عند زمن نزول النص، ليعيش الناس في نفس ظروف القرن الأول الهجري إلى الأبد.

نستكمل قراءة الكتاب مع عمرو عبد الرحمن في سلسلة مقالات، ترقبوها يوم الأحد من كل أسبوع، نسعد بمتابعتكم ونتمنى لكم قراءة ممتعة.

لقراءة المقال التالي من سلسلة الدين والتدين بقلم عمرو عبد الرحمن، اضغط على الرابط التالي:
التشريعات في إطار الاجتماع.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

6 comments

اترك رد

ندوات