الراوي… قصة قصيرة.. بقلم: محمود عادل
بقلم: محمود عادل

على الحافة تتراجع القدمين خطوة تلو الأخرى يبدو الانهيار في كل خطوة وروح التشبث فارقت ذلك الجسد المهترئ، يقف شاب هلع الوجه وحيدا قبالة مجموعة مجهولة ولكنها مألوفة الوجه، واضح عليهم جميعا الأنهاك وتسارع الأنفاس وترقب اللحظة الأتية، تتصارع عيناهم في تحدي صارخ علي الفتك بذلك الشاب الممزق، لا هوادة ولا رحمة ولا يثنيهم حتى نظرة الاستجداء في عينيه، اما عن هلع الشاب فكان مختلفا فليس ذلك الذي يصاحب الفريسة وإنما هي نظرة الهول، النظرة التي تحكي عن سنين وسنين من الخديعة او لعلها البغتة التي تسبق معرفتك بالنفخ بالصور، من موضعهم حوله لا ينفك أن تستوعب ان تلك برهته الأخيرة بعد عراك غير متكافئ الأطراف، وبالنظرة لاستسلام ذلك المسكين حُسم لقائهم؛
كان مشهد السقوط ملحميا، الحصار المُطبق على أنفاس ذلك اليَئِس عجلت قهقرته، حتى انزلقت قدماه جملة واحدة من الحافة، عجيبة تلك الروح البشرية، إنها المفارقة الدائمة بين الهلاك والأمتلاء بالحياة، فعند أقصى عتبات اليأس تُعاند الأنهزام، وفي رغبة أخيرة للحياة تتشعب أصابعه كالجذور وتتماسك أنامله وفي عينيه مناشدة بالتوقف، تقدم إليه أحدهم ببطئ يستمتع في لذة بوقع حسيسه، رفع الشاب ناظره حتي تجلى امامه المُتقدم فأبتسم بسمة الحسرة، وترك يديه متعمدا وكأنه فقد جل المعاني وكأنه فطن أسطورية الكمال؛
الشاب (اللاوعي)…،
أنا ..!!
أنت..!!
من أنا ومن أنت؟
من هولاء؟
لما أنا؟
لما هذا؟
متي، أين، وكيف ذلك؟
ما الجدوى؟
كيف وصلنا هنا؟
أمعهم الطريق أم الهاوية؟
الهاوية !!
ألم تسأم الهاوية؟
الهاوية!!
وما أدراكم ما الهاوية !!
ففي الحديث عن الهاوية نشوة تعتري مُحياي، كيف لا، وأنا من قبعت بها وأتخذت منها ملاذ للسكينة، لم يعرفها أحد مثلي، تخبطت في البدأ كالكبش المنحور للافتكاك من افتراسها، ارتعبت مرارا ومرارا، ثم سلمت لها جل أمري عن رضا، كيف أحدثكم عن الأمان في عدم الارتطام بالقاع مجددا، ساحرة الهاوية فهي تسلبك النور في أكثر لحظاتك تبصرا، تلتهم إرادتك، ثم تُطعمك الفراغ، تنهش روحك وأنت في تمام الحياة، النهاية الأبدية حيث نقطة اللاعودة، مجيدة تلك البرهة الأخاذه، تُشعرك بقيظ الحرية وقت صقيع السأم، رحلة الخروج من عالم مجنون لم يعلم ولا يعلم ولن يعلم،
تركت يدي، لم يكن إستسلام مني، ولكن دعوني أخبركم، فتحت عيني وانا علي تلك الحافة وجدتهم جميعا حولي بأيادي ممدودة، كنت أظنها يد العون حتى على صوت صراخهم، لا يشفع لي فيهم النحيب ولا يجدي استوضاح المواقف، أخذت في التراجع رغم رباطة الجأش لعل في ذلك حسم الأمور، فأزدادوا في النبش، ولم يهزمني يومها إلا وجه من هَم في هرس أناملي فأثرت في نفسي الترفع حتى انزلقت بالهاوية،
الهاوية؟!
وما أدراكم ما الهاوية!
المجموعة المجهولة…،
الرأي الأخر، الغناء متفردا، الخروج عن النص، تفريع الرئيسيات، السير خارج السرب، تحطيم القوالب والصندوق، لأجل تلك الأعراض خُلقنا، فنحن أصحاب الصوت الواحد لا يجرؤ منكم أحد أن يتلو صوته او ينكرنا، نحن المستقر وفي سربنا تترعرع أذهانكم، أما ذلك الغر فلم يكن له مثيل، ضال الوفاق، حديثه نشاذ، نبرته تنم عن جهل مُدقع، إستشطنا غيظا فلم يستعصى علينا يوماً أحد، اطلقنا عليه سهامنا اليأس والوحدة، فكان يزداد طربا، حاوره المتنمر فأخرسه، تقدم له الأكتئاب سيد القاهرين فصرعه، تكالبنا عليه فأرهقنا وها نحن نقف جميعا عند تلك الحافة بعد أن حاصرناه، نُظهر له الضراوة وفينا اليأس يضرمُ، حتى تقدم له مجهول فأخذ بالتراجع في هلع، فتملكتنا الدهشة؛
الحافة…،
يدعونني بالحافة، ملتقى التائهين، وهي مكيدة لو يعلمون، فهاويتي ليست كما تُرى، والمجاهيل ليسوا سوا وهم، على أرضي فُقدت الأرواح وتاه العابرين، كُتب علي نصرة الزيف ونبذ الصحيح، بواباتي جميعها بور وإن حسنت وهاويتي سحيقة، تؤلمني إبادة العارفين ولكن هذه انا، ومفتاحي سري، ولسري لا دليل؛
الشاب (الوعي)…،
مكررة، تلك الصورة مكررة، ذلك المشهد اعلمه جيدا، ذلك الراوي صوته يداعب أذني وهو يسرد للمرة التي لا أحصي عددها، جميعهم مألوفِ الوجه، فكيف لا يتذكرون، تلك الأرض الخربة المسماه بالحافة جوفاء، تلك الأبواب خاوية الوفاض، الهاوية، أجل إنها الهاوية، كانت دائما الإجابات بالهاوية، لا دليل لا إشارة، يكمن السر في وضوحه، حسنا ماذا بعد؟ صارت لعبتهم اللاهية مكشوفة، ولكن.. هنالك شئ ما مفقود، أين المستحيل؟ أين ذلك الغول القابع في ثنايا المشيئة؟ الخوف ذلك العاجز، الأبن البار للعبودية، ممثل السراب وقاتل الأقدار لننتظر قليلا، فصبرا سيأتي،
لنتراجع بعض الخطوات في إنكسار، فذلك مراده، ولن يضر بعض المناشادات فالوقت أصبح مملا وأقتربت الهاوية،
صبرا، سيأتي،
لا مانع من التدلي فالتأرجح بالمجهول لذة، والوصول أكيد،
الأن
استفززت غروره، أشم رائحته، أسمع حسيس قدميه وهو يتقدم بنشوة ما، أخيرا وجه لوجه،
من؟ كيف هذا؟ لا يعقل !
أكان أنت من البداية؟ أكنت أنت الخوف؟
ألم يكن أولى أن ترعى طريقي وتتفقد وصال عقلي؟ لما حاربتني؟ ولاجل من تخدعني؟ لما تركتني في كل هذا؟
تركت اناملي الحافة وهويت، لم يكن إستسلام مني ولكن من هول صاحب الوجه المنتشي؛
السقوط الحر…،
من رسومات سملى.

كان كشهاب ساقط من العناية الألهية في فضاء هوة الواقعية، كالجمر المُتقد من لهيب صراعه، العدم ثم الفراغ، صوت البداية والنهاية، هكذا ولدنا وهكذا نموت، عينان مغمضتان تتفتح علي صفحة بيضاء يلونها العالم والأقدار، حكاية طويلة من الألوان تخطها الاحداث والمواويل، لوحة مشوهة غير مكتملة أو أهمل أصحابها تزيينها فشابها اللوث، وتنتهي بإغماضهم، سقط الشاب وفي سقوطه النجاه، اعتصرته الصدمة ومنها تبصر، تسارع الهواء من أثر السقوط، أخذ يضرب بيديه كما الغريق يريد النجاة، لم يستسلم بعد، يدور في عقله صراع بين اللاوعي والوعي، لمن الغلبه في فضاء الهاوية، يُطمئن اللاوعي الشاب أن في الهاوية راحة، لا صدام ولا سجال ولا فيضان تساؤلات قاتلة، اترك جسدك يتهاوى في سلام، فيسخر الوعي من الاثنان ويتهمهم بالوهن، أين يا موتى متعة الفشل؟ كيف تقتل شغف السعي فيك؟ كيف يا صديقي تترك ذلك البائس يطفئ لهيبك وأنت الفريد، وفي ظل تلك الحرب القائمة، انفرد بنفسه يتذكر، الأن تعلم عنهم جميعا، تدركهم وتدرك نواياهم وتدرك من يحركهم، ذلك الغامض، من رميت نفسك في الهاوية من أجله، إنه انا، كان وجهي،
انا الخوف، انا صاحب تلك الحافة، انا قائدها وسيد مجهوليها، انا صنيعة نفسي وانا الصانع، جميعهم انا، وانا العبث، ولكل عبث نهاية، وليحيا صوتي يجب أن يموت الجميع، فأغمض عينيه؛
الراوي…،
يتهاوى صديقنا كالعادة، جميع من في تلك الحكاية كان يعرف نهايته المحسومة، كأنه مضمار ويمشي صاحبنا علي خطه المرسوم، هو نفسه كان يتجه في ثبات لذلك القدر،
لحظة، ماذا يحدث؟ من أين تلك الومضة في كبد السماء،
وفي لمح البصر انفردت أجنحته متحديا وكاسرا قيود الحافة يتعالى ويرتقي كالسهم الخاطف بوقت الغفلة، لم ولن يرضا بذلك المصير، لم يكن اصلا ينتمي، لم يكن يوما إيكاروس بل مُمتطي بيجاسوس، فاختار طريق العابرين،
أن يمضى بالغاب المظلمة ممسكاً قنديله ليس لغيره مدد، زائر يطوف بالوديان ليس له أرض ولم يكنز مما تكنزون سرابَ، يمضي ويمضي لا يركن ولا يهدأ ولا يسكن، طار بعيدا عن تلك الأراضي الخربة،
والأن بعد أن أختفى،
لا نعلم أكان بيننا فعلاً أم تلك خاطرة نتمناها لأنفسنا ونرددها.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد