الزواج على الطريقة العربية: حديث المدينة عن إشاعة حب … بقلم: د. وليد الخشاب

بقلم: د. وليد الخشاب

أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا.

d8af.-d988d984d98ad8af-d8a7d984d8aed8b4d8a7d8a8 الزواج على الطريقة العربية: حديث المدينة عن إشاعة حب ... بقلم: د. وليد الخشاب

أمضيت سنيناً طويلة باحثاً عن الأصل الغربي لفيلم “إشاعة حب” من إخراج فطين عبد الوهاب عام 1960، وبطولة عمر الشريف وسعاد حسني وهند رستم ويوسف وهبي وعبد المنعم إبراهيم. فلطالما بدا لي ذلك الفيلم مقتبساً عن أصل غربي، رغم أنه من كلاسيكيات السينما الكوميدية المصرية، ومن بطولة مجموعة من أحب النجوم إلى قلوب المشاهدين منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات. تشير تيترات الفيلم إلى أنه مقتبس عن نص للكاتب الأمريكي ذي الأصول الأرمنية ويليام سارويان (William Saroyan) بعنوان “حديث المدينة”. ولعل تلك الإشارة المضللة في تيترات فيلم “إشاعة حب” هي التي قادت أبحاثي إلى طريق مسدود، فالفيلم المصري مقتبس عن فيلم أمريكي، والفيلم الأمريكي مقتبس هو نفسه عن مسرحية أمريكية، لكن لا علاقة لويليام سارويان بالقصة.

إشاعة واحدة ومدن عديدة

أشعر بالامتنان للمؤرخ والناقد رفيق سالم الذي نشر على صفحته في منصة فيس بوك يوم 9 يونيو 2021 منشوراً يؤكد فيه أن فيلم “إشاعة حب” مأخوذ عن فيلم “حديث المدينة” (The Whole Town’s Talking) الذي أخرجه جون فورد (John Ford) عام 1935. ولما قمت ببحثي بناء على تلك الإشارة الثمينة التي أشكره عليها، تبين لي أن “إشاعة حب” مقتبس بالفعل عن فيلم يمكن ترجمة عنوانه بعبارة “حديث المدينة”، لكن ليس عن النسخة الناطقة التي أخرجها جون فورد عام 1935، بل عن النسخة الصامتة التي أخرجها إدوارد ليمل (Edward Laemmle) عام 1926. ولمزيد من الإيضاح، لا بد أن نذكر أن هناك فيلماً أمريكياً آخر معروفاً بعنوان “حديث المدينة”، والعنوان العربي بتلك الصيغة ترجمة ل (Talk of the Town)، والعبارة العربية هنا تمثل ترجمة دقيقة له. لكن “حديث المدينة” هذا فيلم مختلف عن فيلم جون فورد، فهو من إخراج جورج ستيفنز عام 1942، أي أنه قد ظهر بعد سبع سنوات من ظهور فيلم جون فورد. أما الفيلم الأمريكي الذي اقتبسه الفيلم المصري “إشاعة حب” فعنوانه (The Whole Town’s Talking) وترجمة عنوانه الدقيقة هي “المدينة كلها تتحدث”، أو بعبارة أخرى بالعامية، المناسبة للأصل الأمريكي: “الناس كلها بتتكلم”.

the-whole-towns-talking-1926 الزواج على الطريقة العربية: حديث المدينة عن إشاعة حب ... بقلم: د. وليد الخشاب
The Whole Town’s Talking 1926

في العشرينات من القرن الماضي، كتبت السيناريست الرائدة آنيتا لوس وزوجها جون إيمرسون مسرحية “الناس كلها بتتكلم”، وحظيت المسرحية بنجاح كبير على خشبة المسرح الأمريكي. والحقيقة أن المسرحية كانت اقتباساً وإعداداً لمسرحية ألمانية ولم تكن تأليفاً بالمعنى الدقيق. كانت مسرحية “الناس كلها بتتكلم” الأمريكية مبنية على مسرحية ألمانية من تأليف إيريك باخ وفرانز آرنولد بعنوان “الشاب العفيف الماجن” (Der keusche Lebemann). وعام 1926 تحولت المسرحية في نسختها الأمريكية إلى فيلم صامت شارك في إعداده سينمائيا ريموند كانون وعرض الفيلم بالعنوان نفسه: “الناس كلها بتتكلم”.

يكاد فيلم “إشاعة حب” يتتبع السيناريو الأصلي للفيلم الأمريكي الصامت “الناس كلها بتتكلم” بحذافيره. ففي الفيلم الأمريكي الصامت والفيلم المصري الناطق هناك أب لفتاة، وهو رجل أعمال ثري، يتبنى شاباً يتوسم فيه الخير، ويعرف أنه وريث لثروة معتبرة، ليزوجه ابنته. ولأن الفتاة ترى الشاب مملاً وجلفاً لا خبرة له بالنساء ولا بالغزل، تنصرف عنه. فيختلق والدها علاقة بين الشاب ونجمة سينمائية مشهورة بأنوثتها الفائقة، ويوقع باسم النجمة على رسالة حب مكتوبة على ظهر صورة فوتوغرافية للنجمة، ويزعم أنها رسالة غرامية موجهة للشاب، فتصير تلك العلاقة المزعومة أمراً تتحدث به الناس جميعاً في المدينة. ثم يحدث أن تزور النجمة تلك المدينة بصحبة زوجها الغيور، وتسمع بإشاعة الحب هذه فتتظاهر بأنها إشاعة حقيقية، لتلقن زوجها الغيور درساً. وفي النهاية تتضح الأمور ويتزوج البطل من الفتاة.

من الواضح في هذا السرد شبه التطابق بين القصة الألمانية التي تحولت إلى مسرحية ثم فيلم أمريكيين وبين قصة الفيلم المصري “إشاعة حب”. الاختلافات البسيطة بين الفيلمين تكمن في قدر التمصير وخلق سياق تاريخي اجتماعي مصري يعطي الفيلم الأحدث مسحة مصداقية وواقعية. تميز تلك الخاصية العديد من الأفلام الكلاسيكية المصرية المقتبسة لا سيما في الستينات، فهي تحمل إشارات للتاريخ الاجتماعي المصري أكثر مما تحمل الأفلام (الأمريكية عادة) من إشارات للسياق الاجتماعي والتاريخي الغربي. وكأن الأفلام الكوميدية الأمريكية تركز على الإضحاك وحده، بينما تعنى الأفلام المصرية الكوميدية في الفترة الناصرية بالقيم الواقعية.

الزواج على الطريقة العربية

يختلف “إشاعة حب” المصري عن “الناس كلها بتتكلم” الأمريكي في طبيعة العلاقات الأسرية بين الشخصيات. في الفيلم الأمريكي، شخصية الأب معادل يوسف وهبي يتبنى معادل عمر الشريف لأنه كان موظفا عنده قبل ذهابه مع الجيش الأمريكي إلى أوروبا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى. لكن في الفيلم المصري، يوسف وهبي هو عم عمر الشريف وهو يسعى لتزويج ابن أخيه من ابنته سعاد حسني بمنطق تقليدي محافظ: البنت لابن عمها، وكذلك بمنطق الحفاظ على ثروته لتبقى بين يدي ابنته وابن أخيه فلا تخرج إطلاقا إلى يد زوج “غريب”. في الفيلم الأمريكي هناك منافس للشاب البطل يحاول أن يفوز بقلب الفتاة، مثلما في الفيلم المصري. لكن في “إشاعة حب” هذا الخطيب المنافس هو ابن خالة سعاد حسني. مرة أخرى، منطق الفيلم شديد المحافظة اجتماعيا لأنه يحصر الصراع على قلب سعاد حسني بين ابن عمها وابن خالتها، وكأننا في عالم من مطلع القرن العشرين في جو أبعد ما يكون عن الحداثة التي تفترض أن مجال العلاقات العاطفية مفتوح على المجتمع كله، لا على أقرب الأقربين من بعد الأخ والأخت. وهو منطق محافظ اقتصاديا لأن الهدف الأساسي لتلك الترتيبات الخاصة بزواج البنت من ابن خال أو ابن عم هو الإبقاء على ثروة الأسرة في دائرة أضيق ما تكون.

لكن على السطح، يظهر في بناء المواقف أثر الخطابات التحديثية التي تبنتها الدولة الناصرية في الخمسينات والستينات. فالمتنافسان على حب الفتاة الشابة سميحة/سعاد حسني ليسا مجرد غريمين شخصيين، بل هما يمثلان طبقتين وخيارين سياسيين واجتماعيين متقابلين. لوسي -ويجسده الفنان جمال رمسيس- يمثل تلك الأرستقراطية المتخيلة التي ابتدعتها المنتجات الثقافية التي أنتجتها دولة يوليو: شاب مخنث، عاطل، لا يجيد إلا الرقص وإغواء البنات بميوعته. وعلى النقيض منه تماما شخصية حسين -ويلعب دورها عمر الشريف- الجاد الخشن، المكفهر الوجه، الذي لا يعرف كيف يخاطب النساء ويلاطفهن، بل يتحدث بكل صراحة عن أعمارهن أو عما لا يراه مناسبا في مظهرهن من ملابس وماكياج. لكنه يعمل بجد وإخلاص وينمي ثروة العائلة من خلال شركة العائلة. ومع تعاظم خطاب دولة يوليو عن قيمة العمل والتصنيع كأرقى حالات التحديث، لا نرى الفيلم يمجد في الصناعة. فشركة العائلة في الفيلم متخصصة في الاستيراد والتصدير. لكنها تقوم بدور أشبه بدور شركة النصر للاستيراد والتصدير التي أنشأتها الدولة الناصرية وتخصصت في التجارة الخارجية، فهي على سبيل المثال تقوم بتصدير البطاطين إلى الكونغو.

نحن هنا إزاء طبقة بدأت في الزوال، لا تستحق صفة الوطنية لأنها لا تنتج ولا تحتفي بالثقافة المصرية الأصيلة ويمثلها لوسي/جمال رمسيس: فهو لا يعمل، ولم يدرس إلا الرقص الغربي، ولا يفهم فيما عداه، ويرتدي ملابس ملونة مشجرة ضيقة تكشف عن جزء من صدره، ولا يرتدي البذلة التقليدية، ويتحدث بلكنة “الخواجة”. أي أنه كاريكاتير للطبقة الأرستقراطية “البائدة” المستعمرة ثقافيا وسياسياً. هناك طبقة يمثلها الشاب العاطل المستغرب “فاقد الرجولة”، الذي لا يقدر يوسف وهبي للوهلة الأولى على تحديد جنسه، أرجل أم امرأة. وفي مقابل تلك الطبقة، يرى المشاهد طبقة أخرى صاعدة يتسارع تثبيت أقدامها في الشرائح العليا للطبقة الوسطى. ووفقاً لما سميته في دراساتي عن الكوميديا: “أيديولوجية الفودفيل”، تعرض دولة التحرر الوطني على الشخصية التي يجسدها حسين/عمر الشريف متعاً فودفيلية: توطيد انتمائه إلى الطبقة الوسطى وتصعيده إلى شرائح أعلى داخل تلك الطبقة، وحب سعاد حسني، ومزيداً من الثراء، والسكن في فيلا راقية، وكل هذا مقابل ولائه للنظام. يتجلى هذا الولاء -على سبيل المثال- في تصدير بعض المهمات إلى الكونغو، التي كانت القوات المصرية تتمركز فيها بالفعل وقت صناعة الفيلم. فقد أرسلت مصر حوالي 3500 جندي لحفظ السلام في الكونغو في منتصف عام 1960، حوالي خمسة شهور قبل عرض “إشاعة حب”. كذلك يتأكد ولاء شخصية عمر الشريف للنظام بتمثله نموذج الرجولة التي تتبناه دولة التحرر الوطني وتنشره: الرجل الخشن، الذي لا يعرف الهزل، “الحمش” الذي ينهر موظفة لإفراطها في التزين بالماكياج، والذي يتفانى في العمل (ولا يتحدث في السياسة).

بهذا المعنى، فالفيلم الأمريكي “الناس كلها بتتكلم” مجرد قصة مرحة لذيذة تهدف للمتعة، ولا إشارة فيها لسياق تاريخي ما إلا كون البطل معادل عمر الشريف جندياً عائداً من ميادين القتال في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لكن لا يوجد أثر واضح لتلك التفصيلة السياقية في الفيلم. أما “إشاعة حب” فهو يمتع المشاهد، ويمتدح منجزات الدولة الثقافية والاقتصادية معاً. فيحتفي الفيلم بحفلات أضواء المدينة ويجعلها السبب في زيارة هند رستم لبورسعيد حيث تدور الأحداث، ويحي من طرف خفي قدرة مصر على التصدير إلى قلب أفريقيا من خلال الإشارة إلى التصدير للكونغو. والفيلم في النهاية تجسيد للخطاب حول التغيير الثقافي الذي تجريه دولة التحرر الوطني بدعمها للعمل والرجولة الخشنة والسلوك “الجاد”، في مقابل نقدها للاستغراب والوقوع تحت السيطرة الثقافية للغرب الاستعماري، والذي يعني بالضرورة فقدان ملامح الهوية المصرية الأصيلة وملامح “الرجولة” الحقة. يتجسد هذا الموقف حرفيا بنهاية الفيلم حين يُكَافأ عمر الشريف بالزواج من الجميلة سميحة/سعاد حسني ويُعَاقَب بالحرمان منها.

إشارات السينما للسينما

في الأصل الأمريكي تحمل النجمة السينمائية التي زج باسمها في “إشاعة حب” اسماً متخيلاً، بينما في الفيلم المصري، تلعب هند رستم دور النجمة هند رستم وتستخدم اسمها الحقيقي ولوازمها المتكررة في أفلامها، من حيث الحركات والإيماءات وتقصع العود وتغنج الصوت. وفي “إشاعة حب”، يلعب دور الزوج الغيور نجم كرة القدم وقتها حارس مرمى النادي الأهلي عادل هيكل واسم شخصيته في الفيلم هيكل. إشارات الفيلم لعالم السينما والرياضة خارج دائرة الخيال في القصة تعطي جواً به شيء من الواقعية لأنها تكسر حاجز الإيهام بأن الأحداث المتخيلة في عالم مغلق على نفسه. في الفيلم الأمريكي تقتصر تلك الإشارة من السينما لعالم السينما على كون الفيلم يضم شخصية ممثلة، لكن الأحداث لا تتفصل في الإشارات لحياة الممثلة الحقيقية خارج حبكة الفيلم.

ينطبق الأمر نفسه على سخرية يوسف وهبي كممثل كوميدي في الستينات من شخصيته كممثل متخصص في الميلودراما في الثلاثينات والأربعينات. في الفيلم، ينفعل العم يوسف وهبي عندما يدعي اكتشاف ماضي ابن أخيه عمر الشريف كزير نساء ويتمادى في سبه ولعنه، رغم أن الأمر كله تمثيلية هدفها إثارة اهتمام ابنة يوسف وهبي التي تؤدي دورها سعاد حسني. يعاتب عمر الشريف عمه يوسف وهبي الذي يعتذر بأنه قد أخذته الجلالة. تلك الإشارة الساخرة من نفسها إلى مبالغة يوسف وهبي الميلودرامية في العقدين الأولين من حياته كممثل واستخدام عبارات شبيهة بتلك التي كانت تذخر بها مسرحياته وأفلامه تساهم في عملية كسر الإيهام وبالتالي تزيد من مسحة الواقعية أو الاقتراب من واقع تاريخ الممثلين.

d8a3d981d98ad8b4-d8a5d8b4d8a7d8b9d8a9-d8add8a8 الزواج على الطريقة العربية: حديث المدينة عن إشاعة حب ... بقلم: د. وليد الخشاب

يشير الفيلم إلى تاريخ السينما المصرية الأقدم وكذلك إلى اتجاهات السينما البريطانية والأمريكية المعاصرة له. يقدم أحد الملصقات الأصلية ل “إشاعة حب” الفيلم واصفاً إياه بأنه “فيلم الحب… والمرح… والشباب” وبذلك يحاول الفيلم المصري أن يتقرب -ولو من بعيد- إلى سلسلة من الأفلام التي تقتبس الروح العامة لنوع من الأفلام الغربية يعرف باسم “أفلام الصيف”، أو “أفلام المرح على الشاطئ” (Beach party Movies, Summer Movies) أو أفلام الشباب (Teen Movies) التي انتشرت في هوليود منذ نهاية الخمسينات تعبيرا عن ظهور الشباب القوي على ساحة المجتمعات الغربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. معادل تلك الظاهرة هو أجيال الشباب المتعلم في مدارس الدولة وجامعاتها والمتطلع إلى الفوز بنصيب في قيادة المجتمع المصري مثلما فعل مجموعة من شباب الضباط عندما تولوا الحكم عام 1952 في حركة الجيش التي سريعا ما اتفق الجميع على تسميتها ثورة 23 يوليو 1952. يتقرب “إشاعة حب” من هذا النوع السينمائي على سبيل الدعاية، إنما الحقيقة أن الفيلم يهتم بالشباب مثل سعاد حسني وعمر الشريف، لكن ينتصر لانخراطهما في شكل حياة معاصرة، مع الاحتفاظ بقيم محافظة. لو كان “إشاعة حب” فيلم مرح على الشاطئ على النموذج الأمريكي بحق، لكان محور الفيلم هو قصة حب قوية بين سميحة/سعاد حسني ولوسي/جمال رمسيس.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات