السرد ضرورة قرآنية ج2 … بقلم: د. محمود فرغلي
تنشر مجلة تفكير مقال “السرد ضرورة قرآنية” على جزأين، لقراءة الجزء الأول من المقال اضغط الرابط التالي:
السرد ضرورة قرآنية ج1 … بقلم: د. محمود فرغلي.
بقلم: د. محمود فرغلي

أما الباب الثاني فهو تطبيق لرؤية الباحث للسرد القرآني وطبيعته الأدائية، فنحن حين نتحدث عن أداء سردي نقصد مختلف مكونات السرد المؤسسة لبنيته سواء على مستوى القصة أو الخطاب، وقد توقف الباحث أمام عدة قضايا رئيسة رأى أنها تبرز جماليات الأداء السردي في القرآن الكريم، وتعبر عن فاعليته التداولية، وعدم ارتكانه للواقعة التاريخية رغم تأكيده لها، وأول هذه القضايا خاص بتساوق السرد داخل النص، فالنص القرآني يمتاز من بقية النصوص بفرادة تماسكه وكيفية هذا التماسك.
فهو نص يقدم نفسه بوصفه نصوصا متداخلة في إطار السورة الواحدة. كما يقدم نفسه بوصفه نصا واحدا في إطار السور المتعددة، فالسرد القرآني خطاب منسجم في سوره وآياته، لا يختلف عنها أسلوبا أو أداء، ذلك أن كل سورة ذات نسيج أسلوبي وتركيبي واحد في إطار ما يطلق عليه البعض الوحدة العضوية مستعيرا المصطلح من الشعر، أو ما يعرف بالوحدة البنائية، هذه الوحدة التي لا تنفي التعدد وتتوجه للقارئ بالأساس، تستحثه على التدبر، وتأمل ما قد يراه من اختلافات لاستجلاء نقاط تقاطعها، وما يبدو له أنه متشابه فينظر في اختلافه؛ ولهذا جاء الفصل المخصص للحديث عن التساوق بين السرد والأشكال التعبيرية داخل السور والآيات في إطار الوحدة الكلية للنص، وهو يتعلق فيما يتعلق بعملية دمج ورصف للسرد بأشكال التعبير والتوجيه الأخلاقية، أي بمجمل المقاصد الدينية التي تم استيعابها داخل النص، دون إخلال بالتماسك النصي أو النسيج السردي،
“فقد تخلل النسيجَ السردي عددٌ من الأساليب ذات العلاقة الدلالية بتلك المقاصد وحدها، ولكن الملاحظ أن النسيج السردي لم يتأثر، وإنما استوعب هذه المتخللات الأسلوبية واستعاد تماسكه مرة أخرى. الأمر الذي استنبط منه أن جنس القص يتمتع بالقابلية الفائقة في استيعاب المغاير له من الأساليب والاحتفاظ بتماسكه السردي والبنيوي على السواء. نظرا لأن طرائق السرد هي المميزة له كجنس أدبي وليست لغته”1.
وفي فصل ثان توقف الباحث أمام ظاهرة الأداء التكراري للقصص، وهي أحد أبرز خصوصيات السردية القرآنية، التي تجاوز بها السرد الواقعة التاريخية دون نفيها، وهي التي من شأنها أن تضيق آفاقه الدينية والتوجيهية والمعرفية الرحبة، بل ربما تعيق حركة النص وديمومة تواصله، في حين يكفل الأداء التكراري فاعليته، والانتقال بالقص على رسوخه في الواقع، إلى آفاق من القراءة والتأويل تتجاوز الواقع إلى التجريد والرمزية التي تكفل تفاعلا أكثر رحابة وتبصرة تحرره من قيود واقع لا ينكر، ولكن يحول دون الإفادة الناجعة من عملية السرد ذاتها، ورغم أن القرآن في قصصه هو الضابط الفعلي والأكيد لكثير من قصص الرسل والمؤكد لصدق أحداثها والكاشف لما اعتورها من تحريف ممن يكتبون الكتاب بأيديهم، غير أن تجاوز السؤال عن الواقعة وصدق حدوثها يمثل ضرورة حياتية لمن يرى في القرآن كتاب له فاعليته في حياة الإنسان المسلم، إذ إن الوسيط اللغوي يخلق واقعه الخاص والموجه لبشر يؤمن به ويتعلمون من أحداث قصصه ومواقف شخصياته وتتفاعل مخيلتهم مع ما بشرهم به الله من جنان وترجف مما حذرهم منه من عذاب، فالفاعلية بالأساس للنص والتأثير ينجم عن تدبره وقراءته في سياقه النصي قبل مرجعيته في عالم الواقع، بل وتعاليه إلى درجة الترميز،
ذلك أن “التعبير الرمزي يقتضي استعادة جديدة للبعد التجريدي القادر وحده على تخليص التجربة من بعدها المشخص، وإسكانها مفاهيم قابلة للتداول خارج سياقات اللغة، وفي انفصال كلي عن خصوصيات التلوين الثقافي. وتلك هي الغاية من كل تعبير استعاري، لأنه رابط غير مرئي بين الغامض في هوى النفس، وبين تجربة العقل، كما يمكن أن تعبر عن نفسها في التجريد المفهومي. وهذه الحقيقة هي التي تحتم علينا التفكير في النص من خلال إحالاته الرمزية، لا من خلال الحدث الموصوف فيه”،2
ومن منا لا يرى في قصة موسى والرجل الصالح قصة رمزية بامتياز لما تحمله من دلالات على نمطين من العلم ولما فيها من دروس وعبر على محدودة علم الإنسان ولو كان نبيا مرسلا، وعلى مفاهيم إسلامية رئيسة كاللطف والغيب والقدر ومطلق علم الله سبحانه، ولا شك أن الكسر المستمر للنسق السردي وللحدث والالتفاتات المستمرة إلى الرسول الكريم، والمبثوثة في السرد تؤكد أهمية الانفلات من تاريخية الحدث إلى رحابة التأويل والإفادة من النمذجة البشرية الكاشفة لمسيرة الإنسان على الأرض في ماضيه وحاضره ومستقبله، فكل قراءة لا تفضي إلى تصويب تال أو تلفت الانتباه إلى خطأ ما هي قراءة منقوصة، أو قراءة غير متدبِّرة.
وفي فصل ثالث توقف الباحث أما الزمن في السردية القرآنية، ولشدة خصوصية هذا العنصر يمكننا أن نطلق عليه الزمن القرآني لما له من تفرد في التعامل مع الزمن، بما يعبر عن مصدره من جهة، وبما يكشف عن تحولات البشرية في تجاربها التي شهدت تغير لرؤية للبشر لمفاهيم الزمان والمكان، على نحو ما نجده في تجارب الرسولين الكريمين إبراهيم وموسى عليهما السلام، فقد يتجاوز الزمن في السرد القرآني الأنماط التقليدية والبشرية لتعالقات زمني القصة والسرد، إذا اتسم الزمن في القرآن بالتعالي والسعة والتداخل والحرية المطلقة في تداخل الأزمنة، وتوحد الماضي والحاضر والمستقبل في زمن واحد، فيما أُطلق عليه الأبعاد الإلهية الخاصة للزمان والمكان، فالزمن في القرآن شذري لا تتابعي، ولا يُعنى بأمر التسلسل المنطقي أو فكرة الحبكة في الأغلب الأعم، لأن مقاصده العقدية هي الحاكمة لمختلف عناصر السرد، وكثيرا ما نجده يقطع السرد ليقوم بالالتفات الزمني نحو حاضر التنزيل، ويوجه خطابه إلى الرسول الكريم منبها إياه، حيث يتحرك الزمن إلى المستقبل تارة وإلى الماضي تارة في حركة بندولية صعودا وهبوطا، ومن خلال هذا الفصل درس الباحث عدة أشكال من التصرف القرآني في الزمن كالتحديد والتعميم والتزامن والالتفات كما توقف على أبعاد الزمن في قصة موسى عليه السلام نظرا لخصوصية تجربته في هذا السياق.
ثم انتقل الباحث في فصل رابع إلى المتلقي، وهو طرف أصيل في بناء المعنى واستكناه دلالات السرد، ومن خلال هذا الفصل درس الباحث دور كل من المخاطِب والمخاطَب في بناء النص وتلقيه، فتوقف الباحث أمام المخاطَب الأول(ﷺ)، وكيف التفت إليه السرد ليقوم بعملية ربط وتوحيد للدعوة إلى الله عبر الزمن، ولهذا الحضور المحمدي في السرد أبعاد تتصل بطبيعته البشرية بالأساس وتأكيدها، بل تأكيد بشرية كل الرسل والأنبياء من خلال ما يعتمل بداخلهم من مشاعر متنوعة متباينة، إضافة إلى تطور مفهوم الوحي في ظل القرآن وفي علاقة الله بالرسل والتحول من التجارب الحسية إلى أعلى درجات التجريد في ظلال الإسلام، فقد أخذت علاقة الله بالإنسان بعدا جديدا ومغايرا في كل مرحلة من مراحل البشرية، في إطار الانتقال من تجربة الإيمان الحسي إلى الإيمان الغيبي، واعتماد الرسالة الخاتمة باعتبارها منهج الله على الأرض إلى يوم القيامة، فالإنسان هو الطرف الأساسي المقصود بالنص، له أنزل وعليه قراءته وتدبره، فالقرآن نزل من أجل الإنسان، ووصف نفسه أنه هدى وذكر وشفاء وموعظة وتبيان…إلخ، وكلها صفات تؤسس لقارئ خاص وتستدعيه بعقله وقلبه وكيانه، وهذا استدعى من الباحث أن يضرب صفحا عن مصطلحات في علم السرد لا تتوافق مع السرد القرآني في كل مستوياته، فالقصص القرآني لا يخاطب متلقيا سلبيا بل يسعى بمختلف السبل إلى استثارة عاطفته ودعوته إلى التدبر العقلي وترسيخ العقيدة بالحجة والبرهان، والقصة والمثال،
وفي هذا الإطار يقف الباحث أمام القارئ المتدبر والمعتبر، خاصة أن الدعوة إلى التدبر والتفكر مبثوثة في مختلف آي النص الحكيم، الذي نصَّ على صنوف من القراء تفاوتت مشاربهم في تلقي النص قبولا ورفضا، من جهة أخرى نجد أن حضور الله وإرادته الإلهية في القص لا يتعلق فقط بالعلم بالأحداث؛ لكي نصفه بالراوي العليم، تقدست أسماؤه، بل إن حضوره جاء في إطار مفهوم التدبير الإلهي، وعلمه بالغيب، فحضور الله في القصص يناظر حضوره في الكون دون تجسيد أو حلول أو جبر، هذا الحضور هو حضور هيمنة وتوجيه ونصرة وتدخل مباشر وكسر لقوانين الكون زمانا ومكانا، وقد تمظهر بأشكال مختلفة في إطار التجارب الحسية والتدخل المباشر، وصولا إلى الرسالة المحمدية، التي بموجبها حدث تغيرٌ مفصلي في التدبير الإلهي وفق جدلية الغيب والواقع.
وفي فصل أخير توقف الباحث أمام الحجاج باعتباره حضورا ملازما لكل الخطاب القرآني، والحجاج حاضر في السرد القرآني بطريقة مغايرة لحضوره في أنواع الخطاب القرآني القائم على التنوع الشديد في كل طرق الإقناع والاستمالة، بحجج مباشرة وغير مباشرة، وحجج تقف عند مستوى الخطاب السردي من خلال الحوارات بين الشخصيات المتضادة، وتقف في مستوى أعلى عبر التساوق بين السرد والآيات السابقة والتالية المؤطرة له، حيث يتجاوز الحجاج حد العبارة أو الروابط والأدوات إلى المشهد والخبر والمثل بوصفها وحدات نصية حجاجية؛ ولهذا تضمَّن القرآن أشكالا متنوعة من الحجاج وأساليب الإقناع، وتوافر فيه من المعطيات اللسانية -الأسلوبية والبلاغية والدلالية والتركيبية- ما جعله خطابا حجاجيا متفردا عن غيره من سائر الخطابات، وذا وظيفة حجاجية متميزة؛ لأنه تفوق بالقدرة على التأثير في متلقيه.
- محمد فكري الجزار، البلاغة والسرد، البلاغة والسرد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1 القاهرة 2011، ص 111. ↩︎
- سعيد بنكراد، السرد الديني والتجربة الوجودية، قصة إبراهيم نموذجا، مجلة علامات، ع 39، المغرب 2013، ص5: 18 ↩︎
لقراءة الجزء الأول من المقال اضغط الرابط التالي:
السرد ضرورة قرآنية ج1 … بقلم: د. محمود فرغلي.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد