الشعر والميتافيزيقا أو ميتافيزيقا الشعر … بقلم: أبانوب خلّاف

يقول شلنج (١٧٧٥م – ١٨٥٤م) : «إن الفلسفة التي كانت قد تحدَّرت في بداية العلم من الشعر وكانت تغتذي منه، ومعها كل العلوم التي تدين للشعر بكمالها، ترتد عقب تمامها وكأنها مجموعة من التيارات المنعزلة نحو المحيط المشارك الذي انبثقت عنه». وهكذا ينحدر الأصل المعرفيّ والاسطوريّ والفلسفيّ من المخيِّلة الشعرية، إذا نرى دعاةً في العصر الحديث دعوا إلى العودة الأصل، إلى المنبع، إلى المخيلة والفن.

بقلم: أبانوب خلّاف

d8b5d988d8b1d8a9-d8a3d8a8d8a7d986d988d8a8-2 الشعر والميتافيزيقا أو ميتافيزيقا الشعر ... بقلم: أبانوب خلّاف

بمثابة مقدِّمة:

إن العلاقة بين الشعر والميتافيزيقا حلَّت على البشرية بمجرد التفكير في الأسطورة؛ فإن الأسطورة تقول ما هو موجود، لكنه في الحقيقة غير موجود أيضًا؛ فكيف نرى اللامرئي؟ المخيلة هنا هي الحاكمة، والمخيلة، بحسب تعبير نوڤاليس (١٧٧٢م – ١٨٠١م)، شاعر مباشر. وهنا قد بدأت العلاقة بين الاثنين منذ فجر التاريخ؛ فلولا المخيلة الشعرية لم يكن للدين أن يستحيل إلى نصٍّ، أي أن يدخل الوجود. وحتى مع ظهور الفلسفة بشكلها اليونانّي نشأت علاقة فورًا بين الشعر والفلسفة، متناقضة في حين، مترابطة في حين آخر. وليست الفلسفة فقط التي اشتبكت مع الشعر، بل إن الدين كذلك. يقول هيجل (١٧٧٠م – ١٨٣١م): «إن الفن كان، لدى الإغريق على سبيل المثال، أسمى شكل يمكن فيه للشعب أن يتصور الآلهة وأن يعي الحقيقة. لذا أضحى فنانو اليونان وشعراؤها خالقي آلهتها». وإن الفن الرومانتيكيّ عند هيجل هو المحطِّم الأعظم للمادة، روح خالصة بحسب تعبيره. والشعر هو أعلى الفنون جميعًا، بل إنه البداية أيضًا! يقول شلنج (١٧٧٥م – ١٨٥٤م) : «إن الفلسفة التي كانت قد تحدَّرت في بداية العلم من الشعر وكانت تغتذي منه، ومعها كل العلوم التي تدين للشعر بكمالها، ترتد عقب تمامها وكأنها مجموعة من التيارات المنعزلة نحو المحيط المشارك الذي انبثقت عنه». وهكذا ينحدر الأصل المعرفيّ والاسطوريّ والفلسفيّ من المخيِّلة الشعرية، إذا نرى دعاةً في العصر الحديث دعوا إلى العودة الأصل، إلى المنبع، إلى المخيلة والفن، لدينا هنا على سبيل المثال لا الحصر هربرت ماركيوز (١٨٩٨م – ١٩٧٩م)؛ فبحسب فرويد (١٨٥٦م – ١٩٣٩م) إن الحضارة، أي حضارة، تقوم على كبت الدوافع والغرائز الإنسانية من أجل العمل. الحضارة عمل مستبد في الأساس. الإستبداد إذًا من طابع الحضارة، فلا يوجد تحرر إلا بهدم الحضارة، أو بالحلم بحضارة ما بعد الإستبداد، أي حضارة الإيروس التي يكف فيها العمل قليلًا، وكذلك وضع فعل التفكر في درجة متأخرة عن المخيلة (العقل كان الأداة الرئيسية في يد حضارة الكبت والقهر، وهو الذي أتاح للمجتمع الصناعي بالتسلط على كل جوانب الإنسان وتوجيهها في خدمة أغراض الربح والتوسع الاقتصادي). الإيروس يرتبط بالتحرر إذًا، وكذلك المخيلة. كلما زاد الكبت زاد التسلط. وكلما زاد العقل عن المخيلة زادت الأداتية (العقل الأداتي). وهذا بمثابة ملخص للرؤية الماركيوزية في هذا الشأن.

النبوءة النوڤالسية والرومانسية الألمانية:

يقول نوڤاليس في غنائيةٍ مِسيانية: «سيأتي مخلِّص ونابغةٌ حقيقيّ وسيكون أخًا للبشر وسنؤمن به من دون أن نتمكن من رؤيته وسيراه المؤمنون بألف مظهر وسنأكله ونشربه على شكل خبزٍ وخمرٍ وسنقبِّله كما العاشق وسنتنفسه كما الهواء وسنسمعه كما نسمع الكلمة أو اللحن وسنحتضنه وسط الشهوات السماوية كما الموت بين عذابات الحب الأليمة في عمق أعماق جسدٍ عرفَ السَّكينة أخيرًا».

يحدثنا نوڤاليس عن عصرٍ تفاهميّ ذهبيّ يختلط فيه الدين بالفلسفة بالشعر بالعلم، حيث تنزاح كل النزاعات، ويأتي المخلص، فكرةً كان أو جسدًا، فنبتلعه ابتلاعًا. أما ثالوث توبنغن الشهير (هيجل، هلدرلين، شلنج) فقد أتي بميثولوجيا العقل: حيث يعود العقل الأنكساجوري اليوناني القديم إلى غايته التي لم يعرفها هو ذاته، أن تكتمل الفلسفة، أن تكتمل المعرفة في نَسَقٍ رومانسيّ/ فلسفيّ… أن يكتمل العقل يا إخوتي هذا ما نسعى إليه. هكذا صاحوا. انفصل هيجل عن الطريقة الحسيّة بشكلٍ نظريّ، لكنه لم ينفصل أبدًا عن الميثولوجيا التوحيدية العقلية؛ فرأي تجليات المطلق وهي تزحف عبر التاريخ وتتسلل في كل فكرة حسية ودينية وفلسفية لتنفجر في النهاية بشكلها الحر المتكامل. قد رأى أنه في النهاية، الفلسفة والدين والفن، غايتهم واحدة: الوصول إلى الله. إنه قداسٌ إلهيٌّ يتجلى بكلماته غير الملموسة عبر كل واحد منهم، بشكل مختلف. قدم لنا هيجل مطلقًا يجمع في داخله كل شيء، ويبتلع العالم ابتلاعًا… نحو وحدة تفاهمية توحيدية.

من هؤلاء من رأى الفلسفة هي المجمِّعة، ومنهم من رأى الشعر هو الطريق، يقول شليجل (١٧٧٢م – ١٨٢٩م): «إنه شعرٌ عالميٌّ آخذ في التطور. فليست غايته إعادة ربط الأنماط الشعرية المنفصلة قاطبةً وجعل الشعر يرتبط بالفلسفة والبلاغة فحسب. إذ إنه يرمي، لا بل يتحتم عليه أن يرمي، إلى الجمع حينًا والمزج حينًا آخر بين الشعر والنثر، والعبقرية والنقد، والشعر الفني والشعر الفطري. إنه يتوق، لا بل عليه أن يتوق، إلى جعل الشعر حيًّا واجتماعيًّا وإلى إضفاء الطابع الشعري على الحياة والمجتمع وإلى شَعرَنة الفكر وإتمام الأشكال الفنية وإشباعها بواسطة المحتويات الثقافية الملائمة». يقول نوفاليس: «العبقرية تتصف بطابع شعري إلى أقصى حد». منهم من انتصر للفلسفة، ومنهم من انتصر للشعر، لكنهم اتفقوا على التوحيد والتفاهم بين الأشياء. وقد أتى بهذه النبوءة التفاهمية الكانطيّ الشهير، والمُتَذَوُّت الكبير: فيشته (١٧٦٢م – ١٨١٤م).

يتحدث هؤلاء عن مخلص يأتي في النهاية لينقذ البشرية (ولو كانت البشرية عند بعضهم -يا للسخافة- قومية، فهذا لا يهمنا)، إنسانًا كان أو فكرة، يبحثون عن جامع حالم يقضي على حضارة الإستبداد غير التفاهمية، المفُرَّقة من رأسها حتى قدميها. لا يختلف مسيحُ هؤلاء عن مسيحٍ إبراهيميّ يأتي في النهاية ليحقق العدل. وهذه رؤية مسيانية، والمِسيانية تشير حرفيًّا في اللغة العبرية إلى من تم مسحه بزيت الزيتون دلالةً على تكريسه كاهنًا أو ملكًا. 

ومن بعدهم أتى القويّ ظاهريًّا – الطفوليّ إيمانًا- الشاعريّ جوهريًّا نيتشه (١٨٤٤م – ١٩٠٠م): حدثنا نيتشه عن فكرةٍ ميتافيزيقية، معناها الحرفيّ ما بعد الإنسان. إن الإنسان عند نيتشه «شيء» يجب تجاوزه. لِمَ نتجاوزه؟ لأنه أصبح بلا هدف وبلا معنى، كُتب عليه أن يرث كل حماقة القدماء. عمّ يبحث نيتشه؟ عن كائن آخر «نصفه حكيم، نصفه قديس» هكذا يقول حرفًا. القداسة عند نيتشه ليست عمودية قائمة على الأوامر بل أفقية قائمة على الحرية (فتحي المسكيني). ما علاقة نيتشه بكل ما سبق؟ إنه أتى لنا بزرادشت: ذاك الجامع بين النبوءة والفلسفة والشعر! إنه سليلُ النبوءة التي حدثنا عنها الرومانسيّ.

socrates-8736024_1280-1 الشعر والميتافيزيقا أو ميتافيزيقا الشعر ... بقلم: أبانوب خلّاف

سقراط والشعراء: من أين يأتي هذا الصوت؟ 

كان سقراط (٤٧٠ ق.م – ٣٩٩ ق.م) يقول: “إنه يحدث لي شيءٌ ما إلهيٌّ وشيطانيٌّ… إنه صوتٌ أستطيع أن أسمعه، وهو يعمَد في كل مرّةٍ يحصل لي ذلك إلى تحويلي عرضيًّا عن ما أكون على وشك فعله لكنه لا يدفعني أبدًا إلى القيام بأي فعل”. امتلك سقراط حدسًا قويًّا لا ينتمي -في نظره- إلى عالم البشر، بل إن مَلكَة مثل هذه شيطانية «و» إلهية. إن الحدس السقراطي هنا هو حدسٌ فلسفيّ بامتياز، فالفلسفة السقراطية، رغم ما اهتمت به من فضح الأوهام اليومية والزّيف اليومي، ظلت مرتبطة بالسماء، وكأن هناك من يوسوس في أذن الفيلسوف.

كنت قد كتبتُ: الشعر راهب عجوز يسكن الصحراء ويقدس الصمت، وهو في الحقيقة سارق؛ ذهب إلى السماء خلسة وسرق إلهها ووضعه في قلبه، ثم ذهب إلى الجحيم في ليلة مظلمة وسرق شيطانها ووضعه في قلبه.. تخيل معي إلهًا وشيطانًا في مكان واحد؛ «يشعر» الشاعر بهذا الصراع الميتافيزيقي الدائر في قلب الراهب، و«يرى» صمته الأليم المهيب؛ «فيستمع» -بطريقة ميتافيزيقية- إلى الصمت المقدس هذا ويحوله إلى قصيدة!. يقول بودلير في قصيدته «سموّ»: «من تقوم أفكاره مثل القبَّرات، بانطلاقٍ حرٍّ في الصباح إلى السموات، من يحلِّق فوق الحياة ويعي بلا عناء لغة الزهور والأشياء الصامتة!». 

الشاعر هنا يستمع إلى الصمت، ويرى ما وراء الواقع، أو ما في داخله، ويشعر بما لا تسمعه أذن ولا تراه عين. الشاعر يفعل كل هذا بطريقة حدسية، ولعله يتساءل: من أين يأتي هذا الصوت؟ ربما لهذا رحَّب الشعر الحديث بفكرة الوحي والإيحاء. 

كان سقراط يبحث أيضًا عن وحي «شعب الدلف» والذي هو في رأيه أكثر الشعوب حكمة من بين كل الإغريقيين، وهو بحث أجراه حول السياسيين حتى وصل إلى الشعراء. وسرعان ما أيقن أن الشعراء “لا يشعرون باسم الحكمة”، بل ب”اسم غريزة ما”، وأن إلهًا يفتنهم تمامًا كهؤلاء الذين يتمتعون بنعمة النبوءة الذين يُعطى بواسطتهم الوحي الإلهي. ثمة شيطان وإله يوسوسان في أذن الشاعر والفيلسوف. 

يقول فتحي المسكيني (١): “ليس أقل من شاعر أو نبي للدخول في علاقة مع الآخر الكبير، مع الله”. ويعلق عماد أبو صالح (٢) على ثنائية الشاعر/ النبي هذه: ليس نبيًّا، دوره أصعب من النبي. فالنبي محروس من الله، والشاعر مفتوح على الشيطان.

أما أنا فأقول أن في اللعبة شيطان وإله. هناك وسوسة متناقضة دائمًا تهمس في أذن الشاعر والفيلسوف إنٔ لم يروِّضها بالكتابة سوف يُجنّ. يقول عبد الغفار مكاوي (٣): «إن الشاعر يحس «بالعطش إلى اللامتناهي»، ولكنه يغوص إلى حضيض «الشيطان» لكي يتسنَّى له البحث عن الجديد. إنه إنسانٌ ممزق؛ إنسان ذو طبيعة مزدوجة (كما قال باسكال واليونان من قبل). ثمة قطبان يتجاذبه كلٌّ منهما ويشده من ذراع، ولا بد أن يشبع نهم القطب السالب لكي يلمس أثر الموجب على روحه، لا بد أن يطيع الشيطان قبل أن يشتاق إلى السماء». إذًا هناك صوت دائمًا يقع خلف النصّ، هناك ميتافيزيقا علينا أن نشعر بها كي نفهم بعمق. ولكي نكتب بعمق علينا أن نستمع جيّدًا إلى هذا الصوت.

مارتن هايدجر وكيركجارد: الحقيقة الذاتية ومهمة الشاعر:

ما فائدة الحقيقة إن لم تكن ذاتية؟ ما فائدتها إن لم تزعزع ما هو ساكن في داخلي؟ هل هناك قيمة للحقيقة المنطقية إن كانت خالية من العاطفة؟ فمثلًا يمكنك أن تستدل على الله بالمنطق والحجة، وستواجه الكثير من المصاعب، وعندما تجد الحجة المناسبة التي لا غبار عليها (إن وجدتها) تجدها مثلها مثل وثنٍ خالٍ من الشعور، لا قيمة لها من الأساس، بل إنك لم تنتفع شيئًا بعد كل هذا العناء، لهذا قيل عن إله الفلاسفة أنه «إلهٌ وثنيٌّ».

يفرِّق كيركجور (٤) بين لونين من الحقيقة: الحقيقة الموضوعية، والحقيقة الذاتية. الأولى هي التي، رغم احتمالية وجودها الموضوعي، غير مبالية، ساكنة، تتسم بالبرود؛ «فأي فائدة تعود علي إذا وقفت الحقيقة أمامي عارية وباردة لا تبالي كثيرًا إن عرفتها أم لم أعرفها». إنها لا تقيم وزنًا للعلاقة بين الذات والموضوع. وهنا يتجه كيركجور إلى وصف جديد للحقيقة: فمثلًا ليست الحقيقة هي اتفاق بين المضمون الذاتي والواقعة الموجودة في العالم الخارجي بحيث يكون الحكم أو الفكرة مماثلًا لها. بل تأخذ الحقيقة مفهومًا جديدًا عنده. وهنا نتجه إلى الحقيقة الذاتية: «حين تثار المشكلة من الناحية الذاتية فإن الفكر يتجه، ذاتيًّا، نحو الفردية، فإذا كان نمط هذه العلاقة على صلة بالحقيقة كان الفرد على صلة بالحقيقة حتى ولو حدث وكان على صلة بما هو باطل أو غير حقيقي». ويعني هذا أن الحقيقة يجب أن يكون لها بعدًا ذاتيًّا، وانفعالًا داخليًّا. إن الحقيقة الموضوعية ناجحة في دراسة ظواهر الطبيعة، لكن عندما تتجه نحو دراسة الوجود البشري يتضح زيفها. وإن مشاكل مثل: الوجود، وطبيعة الإنسان، الخ. كل هذه مشاكل تخص الحقيقة الذاتية لا الموضوعية. «إن الموضوعية تعني أن نقبل القيام بدور الملاحظ – فيكون مثلك كمثل من يكتشف قوانين عامة». وإن الحقيقة الذاتية هي: «فخ أو شرك لا تستطيع أن تمسك به دون أن تقع فيه. إنك لا تستطيع أن تصل إلى الحقيقة بتلك الطريقة التي تستطيع أن تصطادها بها، بل فقط بتلك الطريقة التي تصطادك هي بها». وهذه الحقيقة يجب أن تتفاعل مع ذاتيتك؛ فيغلب على هذه العلاقة الكثير من العاطفة والقلق والتوتر. يقول كيركجور: «إنه ما صلى الفرد لصنم أو وثن ومارس الصلاة بكل عاطفته اللامتناهية فإنه بذلك يستطيع أن يقترب من الحقيقة أكثر مما يصلي لله بطريقة موضوعية، أعني بلا عاطفة، ومن هنا يكون «كيف» العلاقة بالغ الأهمية».

لهايدجر (١٨٨٩-١٩٧٦) عبارة تقول: المفكر يقول الوجود والشاعر يذكر المقدس. لنتامل قليلًا في هذه العبارة تحت التأثير الكيركجاردي:

كل الأدلة العقلية والبرجماتية لا تعادل تجربة روحية صادقة كما رأينا عند كيركجارد، لهذا وجب اتخاذ الصمت أمام سؤال المطلق؛ لعجز الحجج أولًا، ولأنه الطريق الوحيد للمطلق. ولأن الشاعر في استطاعته أن يحول الصمت للغة فيأخذ هو دور ذِكْر المقدس؛ فتتحول معرفة المطلق لغويًّا من الحُجَّة إلى القصيدة. وحده الشاعر يحول الصمت للغة. وحده الشاعر يذكر المقدس. الشاعر هو الكائن المفتوح على الما-وراء، وليس من العجيب أن نجد الشاعر والنبي مشتقين من أصل لغوي واحد، يقول فتحي المسكيني: «تعود اللفظة السائدة في اللغات الغربية عن معنى النبي إلى جذر يوناني (prophetes)؛ أي الذي «يتكلم» (phanai) «قبل» (pro) ما سيحدث، أو قبل الآتي. ومع ذلك، هو اصطلاح تم استعماله، حسب موريس بلانشو (٥)، للإشارة إلى وضع غريب عن الثقافة اليونانية، ذلك أن الألوهة اليونانية لم ترتقِ بعدُ إلى توق الكلام. وكان قد تم استعمال هذه اللفظة عند ترجمة التوراة إلى اليونانية في مقابل لفظ «نبي» العبرية (נָבִיא). ويجدر بنا أن نذكّر بأن اللاتينة تشتقّ اسمَي «النبي» و«الشاعر» من جذر لغوي واحد هو (vates)، والذي يرجع لشيء مثل (videre) أو (viere)؛ أي «وصل» و«ربط». النبوة مثل الشعر نوع استثنائي من الوصل «اللغوي» مع زمن أو عالم آخر.».

الشعرُ والميتافيزيقا والحب، أو في شَعرَنَة المقدس. بين ابن عربي وفويرباخ:

يُسحرني ابن عربي (١١٦٥م – ١٢٤٠) بتفسيره لحركة الوجود، فالعالم الذي تسوده الكراهية ضَحَت كل حركة فيه حركة حبيَّة: «فإن الحركة أبدأ إنما هي حبيَّة، ويُحجب الناظر فيها بأسباب أخر، وليست تلك. وذلك لأن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنًا فيه إلى الوجود، ولذلك يقال إن الأمر حركة عن سكون: فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة حب». 

أيمكننا تخيُّل الله كشاعر أنتج التراجيديا العظيمة للطبيعة؟ (على حد تعبير فويرباخ). نعم يمكننا، فنحن نفعل ذلك الآن. 

وما الشعرُ إلا جمال خالص، وما الجمال إلا تجلٍّ للكمال. أليس الجمال في صفاته! فكل وجودٍ هو، وليس كمثله شيء لأنه وحده يمكنه أن يكون كل وجودٍ.  

النص الآتي يُظهر رؤية ابن عربي بشكل أوضح: «قد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله (( كنت كنزًا لم أُعرَف فأحببت أن أُعْرف)). فلولا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه. فحركته من العدم إلى الوجود حركة حب الموجِد لذلك: ولأن العالم أيضًا يحب شهود نفسه وجودًا كما شهدها ثبوتًا، فكانت بكل وجه حركته من العدم الثبوتي إلى الوجود حركة حبٍّ من جانب الحق وجانبه: فإن الكمال محبوب لذاته، وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غني عن العالمين، هو لهُ. وما بقى إلا مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان، أعيان العالم، إذا وجدت. فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين، وكذلك تكمل مراتب الوجود: تظهر صورة الكمال بالعلم المحدَث والقديم فتكمل مرتبة العلم بالوجهين، وكذلك تكمل مراتب الوجود: فإن الوجود منه أزلي ومنه غير أزلي وهو الحادث. فالأزلي وجود الحق لنفسه، وغير الأزلي وجود الحق بصورة العالم الثابت. فيسمى حدوثًا لأنه ظهر بعضه لبعضه وظهر لنفسه بصور العالم. فكمل الوجود فكانت حركة العالم حبيَّة للكمال فافهم».

تظهر صورة الكمال في العلم المحدث والقديم لأن الكمال يشمل الكل بما في ذلك النقص. الأزلي هو الله، الحادث هو ظهور الله في العالم فجعله وجودًا بعد أن كان عدمًا. «فثبت أن الحركة كانت للحب؛ فما ثمَّ حركة في الكون إلا وهي حبيَّة».

كعلاقة تكاملية محرِّكها الأساسي هو الحب.

tdmnfho الشعر والميتافيزيقا أو ميتافيزيقا الشعر ... بقلم: أبانوب خلّاف

لننتقل الآن إلى فويرباخ (١٨٠٤م- ١٨٧٢م):

الرؤية الفويرباخية تضع الحب مساوٍ لله؛ لأن الله حب، والحب هو ما يجمِّع البشر ويُفرِّقهم. ولأن الله حب، ومن صفاته أن يكون كلّي، فهو يقف أمام الفردانية في أنانيتها؛ «فالعدم الفعلي والحقيقي للمتناهي هو اللامتناهي ذاته». فكيف يكون المتناهي موجود أمام اللامتناهي! إن كل شيء يذوب تمامًا في الحب.

لم يكتف فويرباخ بهذا، بل وضع الحب في مكانة ما فوق الله، وهل يوجد أعلى من العليّ!!!، نعم يوجد: «ما هو الحب في قوته وفضيلته وفي عليائه وعظمته؟ فضيلته هي اللا – شيء، وقوته تتواجد من خلال كل شيء. علياؤه هي بعلو الله. وعظمته أعظم من الله. وكل من يجده يجد لا شيء وكل شيء».

في رأي فويؤباخ أن علياؤه بعلو الله؛ لأن الحب يقودك إلى نفسك بعلو الله نفسه. وعظمته أعظم من الله لأنه يذهب إلى حيث الله لا يقطن. وحين نكون خائفين الحب يقودنا خارج الخوف. عندما ننظر داخلنا نجد الله بصورة حبٍّ مختبئ. يقول: «لذلك فالحب غير قابل للمقارنة بالكامل، لأنه أعمق من كل شيء. إنه كل الأشياء بوصفه لاشيء، لأنه غير قابل للتخيل، يكون حرًّا من كل الأشياء وهو الخير الوحيد الذي يستحيل تعريفه. وأخيرًا، من الصحيح أن يقال: يجد كل شيء من يجده. لقد كان بداية كل شيء وهو يحكم الجميع. فحين تجد الحب، أنت تدخل في الأرضية التي خرجت منها كل الأشياء والتي تتواجد فيها. أنت، في الحب، مَلِك على كل أعمال الله».

sufi-stories-e28093-towards-enlightment-3 الشعر والميتافيزيقا أو ميتافيزيقا الشعر ... بقلم: أبانوب خلّاف

هناك سؤال مشروع الآن: ما علاقة الحب بالشعر؟

يقول أحد أفراد محاورة المأدبة لأفلاطون (٤٢٧ ق.م – ٣٤٧ ق.م) «إنَّ الحبّ شاعر في المقام الأول. والحبّ هو باعث الشعر في الآخرين أيضاً، ولا يمكنه فعل ذلك إذا لم يكن هو ذاته شاعراً بلمسة منه. يمكننا أن نستشهد بهذا كبرهانٍ مناسب، وهو أن الحبّ شاعر جيد». وكما رأينا عند فويرباخ أن الله شاعر هو الآخر، لأنه الحب. يقول فويرباخ: «فقد نسي الله نفسه عندما خلق العالم. فقد أنتج الطبيعة، بالإرادة والوعي فعلاً، لكن ليس من الإرادة والوعي، لكن من طبيعته، إذا جاز القول، في خلفية وعيه. ليس كرأس يحسب بذكاء لرب الأسرة أو رئيس العمال، بل كشاعر نسي – ذاته، فأنتج التراجيديا العظيمة للطبيعة».

لِمَ نقرأ ؟ بين الصوفيّ والشاعر:

نقرأ الكتب كي نقرأ أنفسنا في المقام الأول (قرأ الشيء: جمعه وضمَّ بعضه إلى بعض). القراءة إذًا فعل توحيدي. وبالنسبة للصوفيين والبانثيوسيِّين (pantheism) فإنهم أدركوا المعنى الحقيقي لقراءة الذات؛ يقرأ المرء فيهم ذاته كي يوحِّدها، وكيف يوحِّدها؟ وما هي الأجزاء المتفرقة من ذاته، أين تقع؟ هذه هي الإجابة: العالَم (الذي هو في نظرهم ليس إلا ظلَّا للإله، أو، وفي بعض الأحيان، هو الإله)، يلمُّ شتات نفسه منه وفيه، فيدرك أن العالم واحد متصل بعضه ببعض (فرأيت الكون كله شجرة [ابن عربي]) فحين يقرأ ذاته فهو يضم العالم إليه حتى يستطيع أن يقول أنا العالم والعالم أنا (ألستُ أنا العالم بكل شيء فيه؟ [شلّنغ]). ويمكننا أيضًا أن نقرأ هيجل على هذا النحو: أخذ يجمع ويفهم الروح مذ تكوَّنت حتى وصلت إليه، في فلسفته؛ فالفلسفة عنده هي معرفة الفكرة (بشكلها الكلي) نفسها لأنَّ ما يُعرَف هو الفكرة، وما يَعرِف (العقل الفلسفي) قد انفصل عن الحسي (أي أدرك الفكرة بنحوٍ لا-مادي)، فهو فكر خالص، أو هو الفكرة. وهكذا أصبحت الفكرة ذاتًا وموضوعًا، وهنا تتضح الوحدة.

وهكذا نفهم أيضًا قول فيورباخ: «وبمعزل عن وحدة الوجود كل شيء أنانية». الصوفية إذًا، وأصحاب فكرة الوحدة، عرفوا الجوهر الكامن في فعل القراءة، أو في الأمر الإلهي «اِقرأ». إنْ سألتني عن تعريفٍ للمتصوف لقلت باختصار: إنه قارئ جيد.

والشاعر، عم يبحث الشاعر؟ لنقرأ سويًّا الآن -بمثابة خاتمة- قصيدة لجوته (١٧٤٩م – ١٨٣٢م) توفر علينا الكثير من الكلام (القصيدة من ترجمة أبو العيد دودو):

أممكنٌ هذا! يا نجمةَ النجوم،

أن أضمَّكِ ثانيةً إلى قلبي!

آهٍ، أيَّةُ هوّةٍ في لَيْلِ

البِعادِ عنكِ، أيُّ ألم! 

أجل! أنتِ كنتِ خصمَ

مسرَّاتي العذبِ الجميل،

حينَ أتذكر ما مضى من آلامي

أرتجفُ أمام حاضري.

عندما كان العالمُ في عمقِ الأعماقِ

من صدرِ الإلهِ الخالدِ،

نَظَمَ الساعةَ الأولى

بأسمى لذة الخلقِ،

ونطق كلمة “كُن!”

فتصاعدت رنَّةُ آهةٍ مؤلمةٍ! 

عندما الكونُ تبدَّى

حقائقَ بحركةِ المقدِرَة.

انبثقَ النورُ، فانصرفت 

الظُّلمةُ عنهُ مرعوبةً،

وراحت العناصرُ في الحينِ

تفرُّ بعضُها من بعْضٍ. 

وسرعانَ ما غابَ كلُّ واحدٍ في

أحلامٍ رهيبةٍ جوفاءَ ساعيًا نحو المدى

جامدًا، وفي أماكن لا تُحدُّ،

بلا شوقٍ ولا نغمة.

كلُّ شيءٍ كان صامتًا مُقفرًا،

والإله في وحدته للمرَّةِ الأولى!

عندها خَلَقَ شفقَ الصباحِ،

الذي رحِمَ العذابَ

وهيَّأ للحزينِ لُعَبًا

من ألوانٍ منغومة. 

حينئذٍ عادَ إلى حبِّه كلُّ

ما سقطَ 

بعضُه عن بعض. 

وفي سعيٍ عجِلٍ

راحَ كلٌّ يبحثُ عن أليفِه،

وعاد إلى الحياةِ النزقة

كلٌّ من الشعورِ والنظر.

سواءٌ للمَسك أو للخطفِ

فالمهمُّ التماسُكُ والالتحام!

ما اللهُ بحاجةٍ إلى الخلقِ،

فنحن نخلقُ عالَمه.

بأجنحةٍ في حُمرةِ الفجرِ

انْطلقتُ نحوَ ثغرِك، 

وقوَّى الليل بألفِ شرَاعٍ

رِباطنا غمرةً من صفاء.

كلانا فوقَ الأرضِ 

نموذجٌ للبهجةِ والعذاب،

وكلمةٌ ثانيةٌ: كُن! 

لن تفصلنا للمرَّة الثانية.

بمثابة خاتمة أخرى: ما الذي يحتاجه المرء للتفلسف؟ 

أهم شيء للتفلسف هو الحسّ الاستيطيقيّ؛ فلا بد للمُتَفَلْسِفِ أن يسْتَنَّ حسًّا استيطيقيًّا، بل قوة استيطيقيّة تعدِلُ تلك التي يمتلكها شاعر. ولا يمكن لهذا أن يحدث إلا بتدخُّل ميتافيزيقي؛ فالميتافيزيقا هي أساس كل شعورٍ جماليّ، والجمال نفسه فُسِّر على أنه “الرفض الأكبر للواقع”؛ فلا يمكن للجمال أن يُفهَم إلا ميتافيزيقيًّا، والنظر التأمليّ للوجود لا يمكن أن يقام إلا بطريقةٍ متعالية؛ متعالية عن التجربة ومتجاوزة لها. وهذا ما يفتقر إليه كل مذهب مهاجم للميتافيزيقا. وأيضًا، وإذا ابتعدنا عن الحس الاستيطيقيّ، فإنه حين يهاجم الميتافيزيقا فكأنه يهاجم ذاته ولغته ووجوده؛ لأنه ما دام الإنسان أسير اللغة فهو أسيرُ الميتافيزيقا، وإذا تهرَّبَ من اللغةِ بالصمتِ؛ تحرَّر، لا منها، بل من قيدها؛ أي أنه ابتلعها، لا ابتلعته. فالصمت هو نوعٌ من أنواع التحرر الميتافيزيقي. والميتافيزيقا ليست شيئًا يمكن التخلص منه. إذًا، يلزم المرء، للتفلسف، شيئان: الحس الاستيطيقي، وأن يتعلم الصمت ويعرف ماهيته.

هوامش:

١- كيركجور (١٨١٣م – ١٨٥٥م): فيلسوف دانماركي مسيحي يعد أحد الآباء المؤسسين للفلسفة الوجودية، ويعني إسمه حرفًا «المقبرة». أقام كيركجور حملة ضد المسيحية الوضعية في وقته بكونها ديانة مظاهر لا جوهر، وأقام أيضًا حملة ضد الفلسفة الهيجلية بكونها تهمل الفرد في سبيل وجود المطلق. يمكن اعتبار كيركجور عاكس لهيجل؛ فالأول يهتمّ بالفرد وعاطفته وعلاقته مع المقدس، والثاني يهتم بالمطلق وتجلياته المتعددة التي يقع ضمنها الفرد. قيل عنه إنه «سقراط عاطفي».

٢- عماد أبو صالح (١٩٦٧): هو شاعر مصري معاصر، يعد عماد أحد أرقّ وأصدق الشعراء في مصر، بل الوطن العربي. حاز على جائزة سركون بولص للشعر عام ٢٠٢٠.

٣- عبد الغفار مكاوي (١٩٣٠م – ٢٠١٢م): أكاديميٌّ وفيلسوفٌ وأديبٌ مصريّ، يعد أحد أعلام الترجمة من اللغة الألمانية، وله مؤلفات وترجمات عديدة ومهمة في الأدب والفلسفة والشعر والقصص والدراسات الأدبية، نالَ مكاوي جَائزة الدَّولة لتَّشجِيعية في الأَدبِ عامَ ١٩٧٦م عن كِتاب «ثورة الشِّعر الحديث»، ومِيدالية جوته مِن ألمَانيا عامَ ٢٠٠٠م، وجَائزة التميُّز من اتِّحاد الكُتَّابِ عام ٢٠٠٢م، وجَائزة الدَّولة التَّقدِيرية في الآدَابِ مِنَ المجلسِ الأَعلى للثَّقافة عام ٢٠٠٣م.

٤- فتحي المسكيني (١٩٦١م): شاعر وفيلسوف ومترجم تونسي كبير، له العديد من المؤلفات والترجمات الهامة في الفلسفة، وقد ركز بشكل أكبر على الفلسفة الألمانية، وتحديدًا على مارتن هايدجر. يشغل حاليًا منصب أستاذ تعليم عالٍ في الفلسفة المعاصِرة بجامعة تونس. وقد حصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب عام ٢٠١٣ في الترجمة عن ترجمته لكتاب الكينونة والزمان لمارتن هايدجر.

٥- موريس بلانشو (١٩٠٧م – ٢٠٠٣م): كاتب وفيلسوف ومنظّر أدبي فرنسي، له كتابات مهمة مثل: الفضاء الأدبي (١٩٥٥م)، وكتاب المستقبل (١٩٥٩م).

مصادر:

1- كريستيان دوميه: جنوح الفلاسفة الشعري، ترجمة: ريتا خاطر، المنظمة العربية للترجمة.

2- فتحي المسكيني: الإيمان الحر أو ما بعد الملة، منظمة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

3- فتحي المسكيني: هيغل في ضوء براديغم اللغة أو هيغل بوصفه (شاهدًا) على الصيغة الرومانسية للانتقال من براديغم الوعي إلى براديغم اللغة في الفلسفة القارية، الكراسات التونسية، 2002، ع 182.

4- هيجل: فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي.

5: ابن عربي: فصوص الحكم، شرح: الشيخ عبد الرازق القاشاني، ط ١ القاهرة – دار آفاق للنشر والتوزيع .

6- فويرباخ: أفكار حول الموت والأزلية، ترجمة: د. نبيل فياض، الطبعة الأولي، بيروت – لبنان.

7- فؤاد زكريا: “هربرت ماركيوز”، مؤسسة هنداوي ٢٠٢٠، نُشِرَ الكتاب عام ١٩٨٠.

8- عبد الغفار مكاوي: “ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر” في جزأين: جزء للدراسة وجزء للنصوص، مؤسسة هنداوي ٢٠٢١، نُشِرَ الكتاب عام ١٩٧٢.

9- إمام عبد الفتاح: “كيركجور رائد الوجودية”، الجزء الأول، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة ١٩٨٢.

ابن عربي ورمزية الشعر

الفلسفة والشعر تاريخ من الحكمة والجنون

“فلاسفة في ضيافة الشعر”.. التبريزي والرومي وهيغل وهايدغر وجها لوجه

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات