العجوز والبحر.. تأليف: سيجيزموند كرچيچانوفسكي .. ترجمة: أنطونيوس نبيل

أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

d8a7d986d8b7d988d986d98ad988d8b3-d986d8a8d98ad984-d8b4d8a7d8b9d8b1-d988d985d984d8add986 العجوز والبحر.. تأليف: سيجيزموند كرچيچانوفسكي .. ترجمة: أنطونيوس نبيل

كانَ هناك كوخٌ قائمٌ اتَّخَذَهُ البحرُ دريئةً يَرْشُقُها بِنِبَالِ رَذَاذِهِ: الِّريحُ تسندُهُ كَأنَّها مِنْسَأةٌ لَهُ، ولا يَجْنَأُ عليه إلا سحابةٌ تُظِلُّهُ. وكانَ يعيشُ في الكوخِ خَلْفَ نافذةٍ غَبْشَاءَ عجوزٌ يبيعُ علاماتِ الاستفهام.

كان العجوزُ يعملُ مِن فاتِحَةِ الفَجْرِ إلى خاتِمَةِ الشَّفَقِ، مُنْكَفِئًا على آلةٍ لا تَكُفُّ عن الأزيزِ، ومُحَاطًا بكمَّاشاتِ وزَرَدِيَّاتِ وقَوَامِطَ وأوراقِ كَشْطٍ ومَبَارِدَ خَشِنَةٍ، يَصْنَعُ عَلَاماتِ استفهامٍ مُخَاتِلَاتٍ واحدةً تِلْوَ الأخرى: كانَ يُحَدِّبُ، ويُرْهِفُ طَرْفَ العَلَامةِ، ويَضَعُ نقطةً أسفلها، ويَعْرُكُهَا على أوراقِ الكَشْطِ، ويَطْلِيها بالسَّوادِ، ثُمَّ يُلْقِيها في صندوقٍ: العلامةُ جاهزةٌ، في وسعِكَ أنْ تَأْخُذَها معك في أيِّ كتابٍ. إنَّها بضاعةٌ رَائِجَةٌ؛ كَثُرَ طُلَّابُها وسَدَّدُوا أثمانَها مُقَدَّمًا: كان يبذلُ في عَمَلِهِ كَدَّهُ وَوُكْدَهُ بلا كللٍ ولا مللٍ؛ ليتمكَّنَ مِن تسليمِ العلاماتِ لشتَّى أصنافِ الاستفهاماتِ والاستفساراتِ والأسئلةِ بانتظامٍ حثيثٍ. لم يستطعْ العجوزُ أنْ يُوَاكِبَ على تَلْبِيةِ سَيْلِ الطَّلَبَاتِ الدَّافِقِ إلَّا بشِقِّ الأَنْفُسِ: المَبَارِدُ الخَشِنَةُ تَجْهَرُ بخشخشتِهَا وعجلةُ الشَّحْذِ تَجْأَرُ بطنينِهَا، والمزيدُ والمزيدُ مِن علاماتِ الاستفهامِ -الصَّقِيلَةِ، السَّوْدَاءِ، المَنْقُوطَةِ، المعقوفةِ بمهارةٍ، المُتَّسِقَةُ في كَبِدِ البَرَاعةِ، المشحوذةِ بدِقَّةٍ وإتقانٍ- تدورُ مئةَ مَرَّةٍ بين أصابعِ العجوزِ الطَّوِيلَةِ النَّاحِلَةِ قبلَ أنْ تَسْقُطَ في الصندوقِ فلا يُسْمَعُ لها صَوْتٌ سوى أَنْدَاءِ رنينٍ واهنٍ.

كان العجوزُ يعيشُ في عُزْلَةٍ تامَّةٍ، حتَّى الذُّبَابُ في الكوخِ كانَ صائمًا عن الطنينِ: عندما كانت الآلةُ تَغْفُو هَزِيمُ سَوْرَتِها وأوراقُ الكَشْطِ تَخْبُو خَشْخَشَةُ فَوْرَتِها كان الصَّمْتُ المُطْبِقُ يَسْتَبِدُّ بالكوخِ. لكنْ، في غسقِ يومٍ مِن الأيامِ، عندما كان البحرُ هَامِدًا وليس على وَجْهِهِ الوَدِيعِ مِنْ أَثَرٍ للحياةِ سوى مُوَيْجاتٍ بَكْمَاوَاتٍ بالكادِ يَزْحَفْنَ، تَنَاهَى عَبْرَ الصَّمْتِ صَوْتُ حَفِيفٍ وَاهٍ لا تَكَادُ تَعِيهِ الأذنُ إلَّا بصعوبةٍ بالغةٍ. صَغَا العجوزُ ليَتَبَيَّنَ مَصْدَرَ الحَفِيفِ، فَاكْتَشَفَ أنَّهُ يَنْضَحُ مِن قلبِهِ. وَإِذْ أَعْدَمَتْهُ كُلُّ حيلةٍ، اِلْتَقَطَ مِثْقَبًا حَادًّا وَرَكَزَهُ في صَدْرِهِ، نَقَّبَ تحتَ الضِّلْعِ الثَّالِثِ على الجانب الأيسرِ ناقِفًا عن الحَفِيفِ الخَبِيءِ. أَسْلَكَ إصبعَيْنِ في غَوْرِ النُقْبَةِ ثُمَّ سَحَبَهُمَا ببطءٍ وَخِيمٍ مُتْخَمٍ بالحَذَرِ، وحالما أَخْرَجَ إصبعَيْهِ، نَظَرَ فَوَجَدَهُمَا مُمْسِكَتَيْنِ بدُودَةٍ. وَضَعَ الدُّودَةَ على سطحِ الآلةِ ثُمَّ نحَّى المَبَارِدَ والمَلَاقِطَ جانبًا. رَفَعَتْ الدودةُ بالغةُ الضآلةِ رأسَهَا الأمَهْقَ ذا العَيْنَيْنِ القَانِيَتَيْنِ وطفقتْ تزحفُ فوقَ سطحِ الآلةِ مُتَّجِهَةً نحو القلبِ لتؤوبَ إليهِ. دُهِشَ العجوزُ، فَمَسَحَ زجاجَ نظَّارتِهِ ثُمَّ عَطَفَها عن مَسْعَاهَا بإصبعٍ يَحْبُو بِحَيْطَةٍ وعَطْفٍ.

هكذا عاش العجوزُ والدودةُ معًا في سعادةْ، لكنَّ العجوزَ بعدَ أَنْ بدأَ جُرْحُ صَدْرِهِ الغَائِرُ في الاندمالِ انْتَبَهَ إلى أَنْ الدُّودَةَ التي اقْتَلَعَها مِن قلبِهِ، تزحفُ إقبالًا وإدبارًا –بحلقاتِها التي تَمَازجَ فيها الأبيضُ والقُرْمُزيُّ- باحثةً عنْ شيءٍ ما، وظَلَّتْ مُثَابِرَةً على هذا السُّلُوكِ يومًا، ثُمَّ يومَيْنِ. وإذْ أَعْدَمَتْهُ كُلُّ حيلةٍ، نَكَأَ العجوزُ جُرْحَهُ بأصابعِ يَدِهِ اليُسْرَى حتَّى فَغَرَهُ. أَمْسَكَ بضَيْفَتِهِ الجَوْعَانَةِ مِن ذَيْلِهَا الزَّلِقِ، ثُمَّ أَوْلَجَ رأسَها في الثُغْرَةِ الدَّامِيَةِ للجُرْحِ، وحالما اِلْتَقَمَتِ الدُّودَةُ بممصَّاتِها دَبِيبَ النَّبْضِ، أَلَمَّتْ بها رَجْفَةٌ مِن النَّشْوَةِ الغامرةِ.

هكذا كان يَقَعُ الأمرُ: بمجرَّدِ أنْ يَأَزَفَ وَقْتُ الغَسَقِ، كان العجوزُ يَغْمِزُ بعينَيْهِ للدُّودةِ ويُومِئُ إليها بإصبعٍ عَقْفَاءَ مُصْفَرَّةِ البَشَرَةِ؛ فتزحفُ الضَّيْفَةُ الجَوْعَانَةُ وتَمُطُّ ممصَّاتِها، وعَيْنَاها الكَابِيتَانِ تَأْتَلِقَانِ جَذَلًا. يومًا بعدَ يومٍ، ازدادتْ الدُّودَةُ بَدانَةً، جَحَظَتْ عَيْنَاها القَانِيتَانِ واستدارتا حتَّى صَارَتا شبيهتين بِحَبَّتَيْنِ مِنَ الكَرَزِ، واكْتَنَزَ جَسَدُهَا لَحْمًا قُرْمُزِيًّا غَضًّا، أمَّا العجوزُ فكانَ يَتَسَلَّلُ إلى جَسْدِهِ الخَوَرُ والضُّمُورُ حتَّى صارَ مُحْقَوْقِفَ الصُّلْبِ -شبيهًا بعلاماتِ الاستفهامِ التي يَنْكَفِئُ عليها مِنَ الفَجْرِ إلى الغَسَقِ بِتَرَاخٍ وخُمُولٍ- مُحْدَوْدِبًا مَثْنَى. وبينما كانَ العجوزُ عاكِفًا على عَمَلِهِ، زَحَفَتْ الدُّودّةُ -رَضِيعَتُهُ بالتَّبَنِّي- إلى داخلِ الصندوقِ الذي يَشْتَمِلُ على علاماتِ الاستفهامِ، وَزَعْزَعَتْ كُتْلَةَ العلاماتِ الشائكةِ بِحَمَاسَةِ تَمَعُّجِها الحثيثِ، فقال العجوزُ مُغَمْغِمًا “بَهْلَوَانَة” مُسْتَرْسِلًا في الكَدْحِ ومَبَارِدُهُ لا تَكُفُّ عَنِ الخَشْخَشَةِ.

في يومٍ مِن الأيام، دخلَ شابٌّ إلى الكوخِ وألقى على الطَّاولةِ صُرَّةً مِن العملاتِ الذهبيةِ، طالبًا مِن العجوزِ أنْ يَصْنَعَ له علامةَ استفهامٍ، لكنَّهُ استطردَ قائلًا: “أريدُهَا شديدةَ الاحديدابِ هائلةَ القوَّةِ حتَّى يصيرَ تقويمُ اعوجاجِهَا ضربًا مِن ضروبِ المستحيلِ، أريدُها حَرُونًا عَصِيَّةً لو أناخَ العَالَمُ كلُّهُ عليها لَمَا استقامتْ قِيدَ شَعْرَةٍ.” تَسَاوَمَا وتَمَّ الاتِّفَاقُ بينهما.

أَخَذَ العجوزُ يُفَكِّرُ -وهو ينظفُ ويُرَتِّبُ مَبَارِدَهُ وكَمَّاشاتِهِ ومَلَاقِطَهُ- في كيفيةِ صُنْعِ العلامةِ المنشودةِ. وما إنْ انكبَّ على الآلةِ -التي تَيَقَّظَتْ مِنْ غفوتِهَا لتَبُثَّ أزيزَهَا المُجَلْجِلَ مُجَدَّدًا- حتَّى سارَ الأمرُ على النحوِ التالي: فجرٌ ينبلجُ وليلٌ يَبِيدُ، نهارٌ تتكبَّدُ فيه الشَّمسُ السَّماءَ وتبحرُ في لُجَّةِ الأفقِ جانحِةً إلى بَرِّ المَغِيبِ، ظلامٌ يُخَيِّمُ، ليلٌ يَبِيد وفجرٌ ينبلجُ مِن جديد، والعجوزُ مُنْكَبٌّ على عَمَلِهِ، يَثْنِي ويَكْشِطُ ويَصْقُلُ ويَشْحَذُ، غيرَ مُبَالٍ بشيءٍ آخرَ. انتظرتْهُ الدُّودةَ وقتًا مَدِيدًا، زحفتْ وزحفتْ في دَأَبٍ، ثُمَّ بِرِقَّةٍ لَمَسَتْ يَدَ سَيِّدِها مُتَوَدِّدةً، ولكنْ ذلك لم يُجْدِهَا نفعًا.

بعدَ أنْ أنجزَ العجوزُ عَمَلَهُ، اِعْتَدَلَ في جِلْسَتِهِ مُقَوِّمًا اعوجاجَ ظهرِهِ، وتَبَسَّمَ ثُمَّ طَفَقَ يبحثُ عن الدُّودَةِ: كانت تَرْقُدُ بلا حِرَاكٍ فوق العلاماتِ، مَيِّتَةً.

قرَّر العجوزُ أَنْ يَمْتَحِنَ قوَّةِ العلامةِ -التي كَلَّفَهُ الشَّابُّ بصناعتِها- بعدَ أنْ أَكْمَلَ صَقْلَهَا وطِلَاءَهَا بالسَّوَادِ: بَتَرَ ذَيْلَ الدُّودةِ المَيِّتةِ، وأَسْلَكَهُ في انحناءةِ علامة الاستفهامِ، وعَقَدَ خيطًا طويلًا شَفَّافًا فِضِّيًا تحتَ نقطةِ التي في أسفلِ العلامةِ، ثُمَّ فتحَ البابَ الذي يُطِلُّ على البَحْرٍ ذي اللَّجَبِ الذي كان يَنْثُرُ على عَتَبَةِ البابِ رَذَاذًا مِرنَانًا، وفي صَمْتٍ طوَّحَتْ اليَدُ النَاحِلَةُ المُرْتَجِفَةُ للعجوزِ بِطُعْمِ الصَّيْدِ –ذَيْلَ الدُّودةِ المُثَبَّتَ على خُطَّافِ علامةِ الاستفهامِ- في عُمْقِ الأمواج المُصْطَخِبَةِ. ابتلعتْ سمكةٌ صغيرةٌ الطُعْمَ، وصَارَ العجوزُ والسمكةُ يتجاذبانِ الخَيْطَ: العجوزُ يَسْحَبُهُ نحوَ الشَّاطِئِ والسَّمَكَةُ نحوَ قاعِ البحرِ، لينتهي الأمرُ بانتصارٍ للعجوز. لكنَّهُ عِوَضًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ مِن ذلك الفَوْزِ خاتمةً لصيدِهِ، بَتَرَ بطنَ الدُّودَةِ المَيِّتَةِ وأَسْلَكَها في علامةِ الاستفهامِ، وفي صَمْتٍ طَوَّحَتْ يَدُهُ المَهْزُولَةُ المُرْتَجِفَةُ بالطُّعْمِ في مَهْلَكَةِ الأمواج الموَّارَةِ الرَّاعِدَةِ. ابتلعتْ سمكةٌ الطُّعْمَ، وظَلَّ العجوزُ والسَّمكةُ يتجاذبانِ الخَيْطَ: السَّمَكَةُ تَسْحَبُهُ نحوَ قاعِ البحرِ والعجوزُ نحوَ الشَّاطِئِ. استمرَّ التنازُعُ بينهما بلا فوزٍ ولا خسارةٍ، حتَّى انقطعَ الخَيْطُ بصوتِ رنينٍ واهنٍ، فَفرَّتِ السمكةُ جاذِبةً علامةَ الاستفهامِ نحوَ الأغوارِ السَّحِيقَةِ. وبَدَلًا مِنْ أنْ تكونَ لحظةُ انقطاعِ الخيطِ خاتمةً للصَّيْدِ، اتَّقَدَ العجوزُ العنيدُ غَيْظًا وقفزَ خلفَ العلامةِ في البحرِ الهَائِجِ ويَدُهُ قابضةٌ على قطعةٍ مِن الخَيْطِ المُمَزَّقِ.

أتى الشَّابُّ ليلًا. قَرَعَتْ الرِّيحُ بابَ الكوخِ المفتوحَ. وَلَجَ الشابُّ الكوخَ فوَجَدَهُ خاليًا. رأى الصندوقَ الطَّافحَ بعلاماتٍ عَقْفَاءٍ مُتَوَاشِجَةِ الانحناءاتِ، فَدَنَا مِنْهَا وتَسَاءَلَ: “أينَ العجوزُ؟” لكنْ، لَا جَوَابَ؛ فليس بمقدورِ علاماتِ الاستفهامِ إلَّا أنْ تسألَ.

1922

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل:
salontafker@gmail.com

تابعنا عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي:

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات