العرب من التحديث المباغت إلى الحداثة المتعثرة.. بقلم: د. قاسم المحبشي

أ.د. قاسم المحبشي

أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة بجامعة عدن

d8af.-d982d8a7d8b3d985-d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a العرب من التحديث المباغت إلى الحداثة المتعثرة.. بقلم: د. قاسم المحبشي

البارحة كنا في صالون تفكير، ندوة مهمة عن التقليد والحداثة وكيف تطورت نظرة النخب المصرية لشروط النهضة الحديثة ( دراسة حالة لليسار الوطني والتراثيون الجدد منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧ حتى اليوم ). قدمها الأستاذ فؤاد السعيد، مفكر مصري عاش التجربة بذاته.

حرصت على حضورها بدافعين؛ الأول أهمية وحيوية موضوعها ولطالما وقد شغلني التفكير فيه منذ سنوات مضت وحينما تفكر مصر بمسألة التقليد والحداثة فهذا يعني أن الموضوع يهم كل عربي بحكم دورها المحوري في العالم العربي.

وثانيا احتراما وتقديرا لصالون تفكير وأدارته الرشيدة بقيادة المثقف المحترم جمال بن عمر.

كانت ندوة رائعة أدارها بكفاءة واقتدار عضو الصالون الفعال أ. محمد عوض.

إذ أعادت خطاب الخلافة الولاية الهاشمية وأحفاد بني هاشم والبطتين والخمس وأشياء كثيرة أخرى آخذت تعيد إحياءها الآن في صنعاء بعد أكثر من ستين عاما على ميلاد الجمهورية بفضل ثورة 26 سبتمبر 1962م بدعم الجيش المصري السخي؟ 

d8b5d988d8b1d8a9-d981d8a4d8a7d8af-d8a7d984d8b3d8b9d98ad8af- العرب من التحديث المباغت إلى الحداثة المتعثرة.. بقلم: د. قاسم المحبشي

استمعت إلى الأستاذ فؤاد السعيد، المحاضر الرئيسي في الندوة باهتمام وفهمت فحوى الرسالة التي أراد إيصالها

وطلبت الكلمة للتداخل من وحي قراءاتي السابقة في تلك الإشكالية التي تعنينا في اليمن أكثر من أشقائنا العرب. إذ كتب الباحث الفرنسي (فرانك مرمييه) دراسة بعنوان (اليمن: موروث تاريخي مجزّأ) ما يلي: ” كان للقطيعة مع النظام القديم والناتجة عن قيام نظام جمهوري في الشمال وفي الجنوب نتائج مختلفة على البنية الاجتماعية والسياسية حتى من حيث الطبيعة المتناقضة للدولتين اليمنيتين… وبدا أن النظام الاشتراكي في الجنوب قد (حل) المشكلة القبلية ونجح في خلق دولة حديثة ومواطنة حقيقية متحررة من التعصب العشائري. وهكذا بدا متناقضاً تناقضاً قوياً مع (دولة) الشمال التي ظلت خاضعة لمشايخ القبائل الزيدية … وتناقضت السيطرة على سكان الجنوب، وفقاً لنموذج بلدان الكتلة السوفيتية السابقة، تناقضاً قوياً مع الاستقلال الذاتي لرجال القبائل في الشمال … ولم يؤد إنشاء جيش وطني في الشمال إلى وجود قوة معادلة لقوة المؤسسة القبلية لأن رجال القبائل والمشايخ اخترقوا الجيش نفسه…” ويضيف قائلاً: “تبدو الجمهورية اليمنية اليوم على المستوى السياسي استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن وقد شبهت هذه السيطرة للسلطة الشمالية على جميع مناطق البلاد بـ(الاستعمار الداخلي) ينظر كتاب اليمن المعاصر ترجمة علي محمد زيد ص15”

وهذا الوضع المفارق هو الذي جعل المفكر الإنجليزي بول دريش يعبر عن دهشته واستغرابه في كتابة (الأئمة والقبائل: كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) بقوله أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبت بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور وهذا لا ينطبق على اليمن .. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة … ومن المثير للدهشة في المعايير الإقليمية أن الرئيس (يقصد صالح) قد ذهب إلى حد التصريح أن اليمن بلد قبلي .. وفي جواب الرئيس على السؤال إلى أي حد قد نجحت اليمن في الانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة؟ (أجاب الرئيس بحزم) الدولة جزء لا يتجزأ من القبائل.

وشعبنا اليمني هو مجموعة من القبائل فمدننا والريف كلها قبائل وكل أجهزة الدولة الرسمية والشعبية هي مشكلة من القبائل) ينظر كتاب اليمن كما يراه الآخر ص250.ويختم درويش كتابه المهم الذي أعاد ترجمته الدكتور, علي محمد زيد بعنوان جديد (الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث) بدلا من عنوانه الأصلي (الأئمة والقبائل: كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) بالقول (إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما، جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله)ص 250.هذا معناه أن اليمن الشمالية أخفقت في تحويل فكرة (الجمهورية) إلى مؤسسة سياسية تسمى (دولة) الشعب الجمهور المواطنون، وهو شكل من أشكال الائتلاف الاجتماعي السياسي لا يمكن أن يوجد بدون دولة جامعة، وهذا هو ما أصاب (ثورة الشباب) اليمنية في صميمها لأنها تألفت من جمهور غير متجانس( ينظر، بول دريش، الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث ، ترجمة على محمد زيد) وفي سياق مداخلتي أشرت إلى وجهة نظر فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي في موقف العرب من تحدي الحضارة الغربية اليكم الفكرة. 

آرنولد توينبي في وصف استجابة العرب لصدمة  وتحدي الحداثة الغربية من منظور نظرية التحدي والاستجابة.  

إذ يرى توينبي أن كل مجتمع يجد نفسه بإزاء تحدٍ خطير مثل هذا (يقصد المجتمع العربي وتحدي الحداثة الغربية) يسلك طريقين للرد على التحدي، ويمكننا إيراد أمثلة واضحة على نوعي الاستجابة هذين في رد فعل الإسلام إزاء ضغط الغرب اليوم في موقف سابق نشأ من صدام الحضارة الهلينية والمجتمع السوري القديم. فتحت تأثير الصدمة الهلينية برزت في المجتمع السوري نزعتان هما: نزعة التزمت (الزيلوتية) ونزعة المسايرة (الهيرودية) ويستخدم توينبي لفظ (الزيلوتية) بمعنى مرادف للسلفية أو التزمتية أو الرجعية، وكذلك يستخدم لفظ الهيرودية والمستقبلية والتشكلية أو (المسايرة) بمعنى واحد، إذ يرى “أن نزعتي التزمت والمسايرة خطتان لا محيص للهيئات السياسية في المجتمعات المعتدى عليها أن تختار إحداهما، إلا في حالات نادرة”

والسلفية أو التزمتية هي محاولة للارتداد إلى إحدى تلك الحالات السعيدة التي يتطلع إليها الناس في عصور الاضطرابات بحسرة بعد أن يضفوا عليها مثالية لا يسوغها التاريخ، وكلما بعد العهد بها اشتد الحنين إليها، وهي شعور بالتفاهة والعجز. “والسلفية موقف متناقض من التاريخ‘ فإذا حاول صاحبها استعادة الماضي دون أن يأخذ الحاضر في حسبانه، فإن من شأن حافز الحياة الذي يتجه بطبعه صوب التقدم أن يحطم بناءه الهش إلى شظايا، وإن ارتضى من الناحية الأخرى إخضاع نزوة خياله المتصلة بإحياء الماضي لإنجاز فعل يجعل من الحاضر شيئاً مفيداً، عندئذٍ تبرهن سلفيته على تدليسها”

والمستقبلية بالمثل هي محاولة للهروب من حاضر كريه وذلك بالقفز إلى مستقبل مجهول لا يعرفه أحد. على أن هذه الحركة جالبة للهلاك أيضاً، فهي تقوم على محاكاة نظم مجتمع آخر وتقاليده الخلقية. وعلى أحسن فرض تكون هذه المحاكاة مسخاً لأصل، لا يبعث على الإعجاب في حين أنها على أسوأ فرض تجي مزيجاً متنافراً من عناصر شتى متنافرة().على هذا النحو يمكن تلخيص الموقف، المتزمت والممتثل، أنهما موقفان ينبثقان من موقف واحد هو رفض الحاضر المأزوم المهزوم، لكن يختلفان فيما عدا ذلك فالمتزمت يتطلع إلى الماضي البعيد رغبة في استعادته، والممتثل يتطلع إلى المستقبل رغبة في تقليده، المستقبلي (صاحب نزعة المسايرة) يخيل إليه أنه يتطلع إلى الأمام، ولكنه في الواقع يتطلع إلى جانبيه، محاولاً أن يكون نسخة طبق الأصل من جيرانه، وإذا كان المتزمتون أشبه بالنعامة تخفي رأسها في الرمال هرباً من صائدها وهي تتصرف على وفق الغريزة، فإن (المتشكلين) وإن تصرفوا على وفق العقل فإنهم يمارسون لعبة خطرة، إنهم على وفق المثل الإنجليزي (كفرسان يحاولون أن يتبادلوا خيولهم في أثناء عبورها المجرى .

ويرى توينبي أن المستقبلية والسلفية على السواء محاولتان للإفلات من سقام قائم بالفعل، ويتأتى تحقيق ذلك الإفلات بطفرة خاطفة، تدفع المرء إلى ناحية أخرى من تيار الزمن، دون التخلي عن جانب الحياة الدنيوية على الأرض. ويتشابه كذلك مجال اختيار هذين القائمين على السعي للفرار من الحاضر مع البقاء في محيط البعد الزمني، في كون كل منهما عملاً فذا تبرهن التجربة على قصوره. ولا تختلف المستقبلية عن السلفية إلا في ناحية الاتجاه أي فوق تيار الزمن أو تحته وفي هذا الاتجاه تدبر النزعتان سبيل الإفلات من مأزق قائم إلا أن المستقبلية تذهب أبعد من السلفية في حملتها ضد الطبائع البشرية، فإن من طبائع البشر الأصيلة الفرار من الحاضر باتخاذ وسيلة الانسحاب إلى ماضٍِ مألوف. لكن الطبيعة البشرية أشد ميلاً إلى التشبث بحاضر مكروه، منها إلى المجازفة في مجاهل المستقبل. ومن ثم نجد الجهد النفساني (الإرادوي) في حالة المستقبلية أقوى على نحو واضح منه في حالة السلفية وغالباً ما تصبح المستقبلية؛ نزعة رد الفعل التالي لتلك النفوس المتحفزة التي سبقت لها تجربة السلفية، فخاب أملها، لكن إخفاق المستقبلية هو أشد من السلفية. ويخلص توينبي إلى تشبيه “نكبة السلفية بفرقعة سيارة تنزلق على مسالكها في دائرة تامة، ثم تندفع صوب دمارها في الجانب المضاد، ويشبه المستقبلية بسيارة تندفع في طريق مجهول تتحطم عند أول منعطف أو هاوية”

تسجيل فيديو لندوة أ. فؤاد السعيد.

تجدر الإشارة إلى أن توينبي قد حاول تطبيق هذه النظرية التأملية الكلية على مختلف الحضارات التي درسها، وجمع شواهد من عدد من المجتمعات الحديثة التي واجهت الموقف مع الغرب، كالصين واليابان وروسيا، أما شواهد النزعتين السلفية (الزيلوتية) المتزمتة، والمستقبلية (الهيرودتية) الممتثلة في المجتمع الإسلامي فيرصدها توينبي على النحو الآتي:

أولاً: الاستجابة (الزيلوتية) السلفية المتزمتة:

التي تتمثل في رأي توينبي في الحركة الوهابية في نجد والحجاز من الجزيرة العربية والسنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والأسرة الحميدية الزيدية في اليمن. جميع هذه الحركات ازدهرت في مناطق قاحلة مأهولة بشتيت من السكان، بعيدة عن خطوط المواصلات الدولية الرئيسة في العالم الحديث، وقد بقيت غير جديرة بالاهتمام حتى اكتشاف النفط، تشذ عن هذه القاعدة الحركة المهدية التي سيطرت على السودان الشرقي بين سنة 1883-1898.

ومن الطريف الإشارة إلى أن خليفة المهدي (عبد الله) قد بعث برسالة إلى ملكة بريطانيا حينها يطلب منها الاستسلام ودخول الإسلام ويعرض عليها الزواج من أحد أتباعه بعد إعلان إسلامها. غير أن المهديين السودانيين اصطدموا بقوة غربية هي بريطانيا ما لبثت أن اجتاحتهم بأسلحتها الحديثة.ويضرب توينبي مثلاً آخر على الموقف (الزيلوتي) الغريزي، الذي يقف موقفاً متناقضاً من الحضارة الغربية الحديثة، مثل الإمام الزيدي يحيى حميد الدين إمام صنعاء الذي كان يعتقد بأنه يمكن أن يكتفي بأخذ التكنيك العسكري الغربي من الحضارة الغربية وتكريس حياته الباقية (لحفظ الشريعة) في شتى المناحي الأخرى، وبذلك يستديم لنفسه ولذريته استحقاق نعمة الله وبركاته، إذ أجاب على محدثه الإنجليزي بعد أن امتدح هذا الأخير الإمام لمظهر جيشه على الطراز الحديث مضيفاً بقوله: “أعتقد أنكم ستتبنون كذلك المؤسسات الغربية الأخرى؟ وأجابه الإمام مبتسماً: لا أعتقد ذلك. وحينما سأله عن السبب قال: إنني أحب أن أكون أنا نفسي الحكومة لأن المجلس النيابي متعب كما أنني لا أسمح بدخول الخمر إلى بلادي”.

ويعلق توينبي على تلك الواقعة بقوله: “إن هذه الكلمات كانت تنفذ إلى صميم القضية وتدل على أن تحدي إمكانية إدخال المستحدثات الغربية الأخرى إلى صنعاء كانت لدى الإمام أكثر أهمية مما شاء أن يعترف به، فالواقع أن تلك الكلمات تدل على أن الإمام، في نظرته إلى الحضارة الغربية إنما كان يراها عبر المدى وحدة لا تتجزأ، وكان يعد بعض مظاهرها جزءاً متصلاً اتصالاً عضوياً بتلك الوحدة الكاملة، بينما لا يرى الغربي في هذه المظاهر نفسها غير أجزاء منفصلة لا علاقة الواحد منها بالآخر، ومن هنا كان الإمام بمجرد اقتباسه أصول التكنيك الحربي عن الغرب يعترف ضمناً بأنه قد أدخل في حياة شعبه الطرف الحاد لإزميل يشطر مع الوقت حضارته الإسلامية التقليدية المحكمة التماسك إلى شطرين اثنين. فقد بدا انقلاب ثقافي لن يترك اليمنيين في النهاية إلا أمام بديل واحد هو “تغطية عريهم بملابس جاهزة من المصنوعات الغربية أي المضي قدماً حتى النهاية في التغريب” وإذا كان من حق توينبي أن يرانا ويتصورنا ويفسر تاريخنا كيف ما يشاء، فمن حقنا بل من الأولى بنا أن نكون على معرفة وإدراك للكيفية التي يرانا بها الآخر الغربي، وأن نتخذ موقفاً نقدياً يتيح لنا أن نميز بين الحق والباطل.

في الواقع أن توينبي الذي ينظر إلينا من أعلى قمة بلغتها الحضارة الغربية البريطانية في زمانه أي من الشرفات العالية لبرج الإمبراطورية المنتصرة، لن يرى في حياة الشعوب غير الغربية إلا مجرد ردود أفعال متزمتة أو ممتثلة على الفعل المركزي الواحد الوحيد، الذي هو الحضارة الغربية، مركز الإشعاع الحضاري والمدني والثقافي في العالم الحديث والمعاصر، وإذا كنا نتفق مع توينبي بشأن تفوق الغرب العلمي والتقني والعسكري، فمن الصعب الاتفاق معه في تفسيره التأملي لحياتنا الحديثة، فالقول أن الحركة الوهابية والسنوسية والمهدية والمتوكلية هي رد فعل متزمت على ضغط الغرب، هو قول ينطوي على كثير من الزيف والتناقض من وجوه عدة أهمها:

-1. أخطأ توينبي حين حشر كل تلك الحركات والنظم السياسية في سلة واحدة، معتقداً بأنها ردود أفعال مخفقة على طغيان الغرب الحديث، وهو إذ نظر إليها من بعيد ومن خارجها بدت له متشابهة (كما تبدو في الليل جميع البقر سوداء)، ونحن نعلم أن الحركات الوهابية والسنوسية والمهدية والمتوكلية، لم تكن في حقيقة أمرها إلا استجابات لعوامل وأسباب داخلية أكثر منها خارجية، وأن تفسيرها لا يمكن أن يكون بمعزل عن شروط نشأتها.

-2. ويتناقض توينبي حين أكد ظهور تلك الحركات في مناطق قاحلة بعيدة عن مدى التأثير الغربي آنذاك يؤكد في الوقت نفسه أنها استجابة فاشلة للتحدي الغربي.

3. -عزل توينبي الصورة الذهنية التي كونها عن تلك الحركات عن السياق التاريخي لنشوئها وتبلورها وازدهارها، فهي لم تظهر كما يعتقد توينبي، أنبثاقاً مفاجئاً لضغط الغرب، بل تمتد بجذورها الراسخة في البنية التاريخية لتطور المجتمعات العربية الإسلامية، التي كانت تمارس حياتها الطبيعية قبل ظهور الحضارة الغربية الحديثة، فالنظام المتوكلي مثلاً كان استمراراً للدولة الزيدية التي نشأت في إيران بين عامي 864-928م، واليمن عام 897 م كما يقول توينبي في كتابه تاريخ البشرية، فهي لم تكن استجابة لضغط الغرب، وكذلك حال الوهابية التي لم تكن في حوافزها ولا في أهدافها المعلنة حصيلة العامل الخارجي، بل جاءت مثلها مثل كل الحركات الدينية الإسلامية القديمة بمثابة رد فعل لتفشي مظاهر الانحلال الديني، وتجديد روح العقيدة الإسلامية، ولا يوجد أي أثر في نشاطها الباكر للضغط الخارجي الغربي الحديث.

4. -حين قامت تلك الحركات لم تكن تعي وجود الآخر الغربي من حيث كونه تحدياً يستدعي استجابة واعية، ورسالة المهدي إلى ملكة بريطانيا هي أصدق تعبير عن غياب الوعي الكلي بخطر الآخر والاستعداد لمجابهته.

5. -لقد خلط توينبي بين القوى الثلاث للتاريخ، الحضارة المدنية والثقافة، حينما اعتقد بأن أخذ التكنيك العسكري الغربي يستوجب الأخذ بالنظم الحضارية الغربية، من حيث أن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم بل أنها تخلق عالمها المجازي أيضاً، أي أن نقل بعض مظاهر المدنية الغربية لا يتم بمعزل عن نقل السياق الثقافي والحضاري لتلك المدنية، وهذا ما يراه توينبي في حديثه عن إمام صنعاء.

ثانياً: الاستجابة (الهيرودية) المسايرة أو المستقبلية: 

ابرز من يمثل الموقف (الهيرودي) هو محمد علي باشا الذي عده ماركس (الرجل الوحيد في الشرق الذي أحل رأساً حقيقياً محل عمامة قشيبة) ويرى توينبي أن محمد علي يمثل نزعة التشكل والمسايرة، بمعنى أنه أول من أدرك ضرورة الأخذ بأسباب تفوق الغرب لمجابهته والانتصار عليه. ويورد توينبي مقطعاً من تقرير حول مصر في سنة 1839 وضعه الدكتور (جون باورنغ) للورد (بالمرستون) أوضح كيف أن محمد علي أراد أن يؤدي دوراً مستقلاً في القضايا الدولية، وكان يتوجب عليه من أجل ذلك أن يقوي الجيش المصري والترسانة البحرية بأخذ التكنيك الغربي وإدخال السلاح الحديث، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا باستجلاب الخبراء الفنين من البلدان الغربية، لكن هؤلاء الخبراء يرفضون أن يدخلوا في خدمة مصر إلا بتأمين شروط حياتهم الصحية والخدمية، ومن شروط الرفاهة في نظرهم المعونة الطبية يقدمها لهم أخصائيون غربيون مجربون، وكانت النتيجة المستخلصة أن لا ترسانة حديثة دون مستشفى حديث، وعلى هذا أمر محمد علي ببناء مستشفى متكامل في الترسانة البحرية في الإسكندرية. يقول توينبي: “يشير الدكتور (باورنغ) إلى أمر يبدو لأول وهلة غريباً، وهو أن مستشفى التوليد الوحيد للنساء المسلمات الموجود في مصر كان قائماً داخل ترسانة محمد علي البحرية، وهكذا أنشئ في البدء مستشفى بهيئة من الموظفين الغربيين. وفي ذلك الوقت كانت الجالية الغربية فئة قليلة وكان موظفو المستشفى تتآكلهم تلك الحيوية التي ضرب الله بها الإفرنج (يقصد الحيوية الجنسية) وكان المصريون كثيرين، وحوادث التوليد أكثر القضايا الطبية العادية الممارسة شيوعاً، وهكذا تتوضح الطريقة التي قامت بها في قلب الترسانة البحرية دار لتوليد النساء المصريات نظمها خبراء غربيون”

ويخلص توينبي إلى أن محمد علي الذي حكم بين (1805-1849) يعد الممثل الأبرز لطائفة الهيروديين، المتشكلين بعد الفشل الذي أصاب مشروع السلطان العثماني سليم الثالث، الذي أراد أن يحذو حذو بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي أعاد إنتاج أوربا في روسيا. وكان محمد علي كذلك أول من واصل السير في هذا الطريق بنجاح ملموس يعكس ما واجهه سيده ومعاصره في اسطنبول السلطان العثماني محمود الثاني الذي حكم من 1808-1839. لكن ما لم يذكره توينبي هنا، هو تكالب القوى الغربية على محمد علي ومشروعه التحديثي الغربي الذي أجهض. “لقد كانت خطورة قيام دولة فتية وقوية ذات جيش منظم وحديث واقتصاد متين وسلطة دولة شابة قادرة على الإمساك بزمام الأمور خطورة كبيرة بالنسبة إلى الغرب الذي لم ير في الشرق سوى سوق بضائع ومصدر ثروات ومناطق نفوذ. ولهذا ليس غريباً أبداً أن تتفق معظم دول الغرب على إيقاف هذا العقل الجموح ورجل الدولة الداهية الذي يحكم أهم ولاية تؤمن له مركز التوسع وبناء دولة شرقية قوية. فكان أن تجاوزت الدول الغربية خلافاتها بصدد الإمبراطورية التي تحتضر ووضعت حداً لطموحات محمد علي ولكل طموح يمكن أن يستمر لدى خلفائه بحجة إعادة السلم إلى الشرق. وبعد أن أرغم محمد علي على قبول معاهدة لندن التي “قضت بعزل مصر داخل حدودها وتحديد عدد جيشها بـ 18 ألفاً فقط، وفتح أسواق مصر للبضائع الأوربية فقدت مصر كل ما بنته خلال ثلث قرن”.

لكن إذا كانت محاولة محمد علي وخلفائه في أن يجعلوا من مصر قطعة من أوربا قد أدت إلى الاحتلال البريطاني لمصر، فإن محاولة تركيا ولاسيما ثورة مصطفى كمال أتاتورك() قد أفضت إلى نتائج مختلفة، إذ يرى توينبي أنه بعد أن قضى (الهيروديون) من ساسة تركيا على الوضع الحميدي بانقلاب بطولي، سارت (الهيرودية) على أيديهم إلى نهايتها المنطقية في ثورة تتضاءل أمام طابعها الراديكالي الثورة اليابانية فبدلاً من أن تنحصر الثورة التركية في ميدان واحد تلو الآخر، كما هو الحال في ثوراتنا الاقتصادية والسياسية والجمالية والدينية المتعاقبة، راحت الثورة التركية تجتاح جميع هذه الميادين دفعة واحدة وتقلب حياة الشعب التركي رأساً على عقب، من أعلى نشاطاتها وتجاربها الاجتماعية إلى قاعها الأدنى، ولم يكتف الأتراك بتغيير دستورهم بل خلعت هذه الجمهورية الفتية حامي الإسلام وألغت خلافته، وأزالت حجاب المرآة ونبذت جميع مقتضياته وأبطلت الوقف الإسلامي، وحلت الزوايا والخانقات وحملت الرجال على الاختلاط بغير المؤمنين (الأجانب) إذ فرضت عليهم مجاراة هؤلاء بلبس القبعات ذات الحواشي التي تمنعهم من ممارسة التقليد الإسلامي القاضي بأن تمس جباه المصلين أرض المسجد، وصفت الشريعة الإسلامية بترجمة القانون المدني السويسري إلى التركية، واقتبست قانون الجزاء الإيطالي واستبدلت الأحرف العربية والتركية بالأحرف اللاتينية. أما التغيير الأعمق والأجرأ الذي أدخله الأتراك على حياتهم فهو الانصراف عن حياة الفلاحة والحرب والإقطاع إلى حياة التجارة والصناعة والرأسمالية لكي يبرهنوا أنهم قادرون على مجاراة الغربيين واليونانيين (المتغربين) والأرمن واليهود، في نشاطات كانت تبدو لهم فيما مضى مستنكفة محتقرة. 

ويثني توينبي على محاولة تركيا الحثيثة تقليد الغرب إلى حد أنه يعفو عن أخطائها وجرائمها، ويتمنى لها التوفيق والنجاح في مهمتها الجبارة، وينتقد أولئك المتشككون من النقاد الغربيين الذين مازالوا ينظرون إلى تركيا باستكبار وسخرية في محاولتها تقليد الغرب ومحاكاته كما تفعل القرود، بحيث أصبح التركي بعد أن تم قطعه عن تراثه القديم ولغته كائنا لا هو بالشرقي ولا هو بالغربي، ومع أن تركيا في المجال السياسي حليفة دول الغرب فإن هذه الأخيرة لا تعد تركيا جزءاً من حضارتها، وأصبح التركي يخاطب الأوربي بنبرة مشحونة بالأسى والعتاب من أنجيله (زمرنا لكم فلم ترقصوا نحنا لكن فلم تلطموا!(وكما خلص توينبي في عرضه للاستجابة الإسلامية الأولى السلفية المتزمتة الزيلوتية على حد تعبيره بأنها مخفقة لا محالة، يخلص هنا إلى بيان نقاط الضعف القاتلة التي تكتنف الاستجابة الثانية، الهيرودية التركية وضعفها يكمن في كونها تقلد ولا تبدع، تنسخ ولا تأصل، تحاكي ولا تتمثل، تساير ولا تتجاوز، تمتثل ولا تخلق، كما أنها في قطع صلتها بالماضي تنتج شخصية مسخاً غير محددة الملامح ينتابها حالة من الإحساس بالضياع والاغتراب والقلق والتوتر.ويرى الأستاذ مدني صالح عن حق أن الدعوة إلى ترك الماضي والتخلف لم تكن في حقيقة أمرها إلا قناعاً سايكسبيكوياً للدعوة إلى ترك المنحى الآسيوي العربي التركي القرآني. ولم تكن الدعوة إلى المستقبل والتقدم (الأوربة) إلا قناعاً سايكسبيكوياً للدعوة إلى المنحى الأوربي الإنجليزي الفرنسي التوراتي. وهذا ما يكشف عنه توينبي بنفسه حينما استعرض احتمالات الصدام بين الإسلام والغرب على مستقبل الحضارة الغربية بقوله: “في استعراضنا موضوع الدراسة، وهو التأثير الذي قد يكون للصدام بين الإسلام والغرب، فإننا نستطيع أن نهمل المتزمتين والممتثلين جميعاً ما دامت استجاباتهم مقصورة على ذلك الحد من النجاح السلبي في مجال البقاء المادي، فالزيلوتي المتزمت يستحيل إلى راسب حضاري متحجر منقرض من حيث طاقته الحيوية، أما الهيرودي الذي ينجو من الغرق فيمسى مقلداً للحضارة الحية التي يندمج فيها. والحق أنه لا الزيلوتي ولا الهيرودي يقدران على أن يشاركا مشاركة خلاقة في نمو الحضارة الغربية الحية”

ويضرب توينبي مثلاً لإخفاق المتزمتين، كإخفاق المماليك حين واجهوا مدافع نابليون الحديثة بالسيف والدرع والرمح فكان الهلاك مصيرهم، إما أخفاق المتشكلين فمن نوع إخفاق مبتدئ في الفروسية في امتطاء جواد جديد إذ يهوي به ويجرفه التيار إلى الهلاك المحتوم، وهكذا جاءت حركة التشكيل مخيبة للآمال، لقد مر عليها أكثر من قرن في مصر، ونصف قرن في تركيا ولكن النتيجة جاءت عقيمة بل مؤسفة في نواح كثيرة في حياة البلدين.

كما أن إخفاق الاستجابتين يعود في جانب منه إلى الصراع بين المتزمتين والمتشكلين، فقد كانت أولى العمليات الحربية التي قام بها محمد علي باشا لتجربة جيشه (الغربي) الحديث مهاجمة الوهابيين في عقر دارهم محاولاً إخماد نارهم واجتثاث شافتهم منذ بدء انطلاقهم. وبالمثل حاولت ثورة المهدي المتزمتة توجيه الضربة القاضية لمشروع الحداثة المصرية، وهذا ما أفضى إلى الاحتلال العسكري للسودان سنة 1882 ويستطرد توينبي في قراءة المشهد العربي الإسلامي في أفغانستان والهند وباكستان وإيران وتركستان وجنوب شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا) وإفريقيا محاولاً البحث عن مخاطر الوجود الإسلامي على الحضارة الغربية، وبعد أن يستطلع كل مقومات البلدان العربية والإسلامية ودور الانتداب البريطاني الفرنسي في الشرق، يرى أنه “على الرغم من النكبات التي حلت بالحضارة الإسلامية لوقوع معظم دولها فريسة الاستعمار في القرن التاسع عشر، ما أن حل النصف الثاني من القرن العشرين حتى كانت الحضارة الإسلامية سليمة الجوهر، وإن سلبت أجزاء من أطرافها، لقد استطاعت أن تنتزع نفسها من الاستعمار البريطاني والفرنسي والهولندي”ولكن ما هو مصير الحضارة الإسلامية اليوم؟ هل ستنقرض مثل الحضارات المنقرضة؟ هل ستتحجر كبعض الحضارات المتحجرة أم هل سيجرفها تيار الحضارة الغربية الكاسح؟ يجيب توينبي كلا، ويحذر من مغبة الاعتقاد الساذج بخمود الحضارة الإسلامية، وذلك أن مصير الأكثرية من الشعوب الإسلامية المعاصرة لن يكون الفناء ولا التحجر ولا الانصهار، بل سيكون الاندماج عن طريق الانضمام إلى البروليتاريا (الكوزموبوليتية) الشاملة الكلية التي هي إحدى النتائج العظمى لعملية (تغريب العالم)، ورغم أن “تأثير الغرب قد نفذ إلى قلب الإسلام وراح يهزه من الأعماق، فما زالت الحضارة الإسلامية تنطوي على طاقات هائلة وإمكانات كبيرة، بما يجعلها تنافس الحضارة الهندوكية أو بوذية الماهايان من أجل السيطرة في المستقبل بوسائل تتعدى تصوراتنا”

ولكن ماذا يكمن في الحضارة الإسلامية من طاقات غير قائمة في الحضارة الأوربية الحديثة حتى نتوقع لها الازدهار في المستقبل؟ يرد توينبي: إن الحضارة الأوربية تحمل في طياتها التناقض بين الفكر والسلوك، بين أفكار الإنسانية والمساواة والإخاء والحرية التي ورثتها من الثورة الفرنسية والتفرقة العنصرية التي تمارسها الآن بالفعل والتي تشكل خطراً عليها بزيادة وعي الشعوب الملونة بذاتها وبالآخر، إضافة إلى طغيان النزعة الآلية والنزعة الاستهلاكية والفردية وغير ذلك من مظاهر ضعف الحضارة الغربية الراهنة, هذا في حين أن طابع الحضارة الإسلامية الاتساق بين الفكر والعمل فيما يخص الموقف من الإنسان والمساواة بين جميع الناس، ويرى توينبي أن انطفاء جذوة النزعات العنصرية بين المسلمين يعد ظاهرة من أعظم المنجزات الأخلاقية في الإسلام، فقد شهدت الدولة الإسلامية في أزهى عصورها أن ارتفع إلى مراكز السلطة فيها الرقيق والعبيد، وفي العالم المعاصر تبدو الحاجة ماسة إلى نشر هذه الفضيلة الإسلامية، ومن المعقول أن تكون روح الإسلام هي تلك القوة المدخرة التي قد تقرر مصير تلك المشكلة لصالح التسامح والسلام”

والفضيلة الثانية التي يراهن عليها توينبي في الحضارة الإسلامية هي تحريم الخمر، وقد لا يدرك الكثيرون قيمة هذا التحريم بالنسبة للحضارة ولكن من يشاهد عن قرب سكان المناطق الاستوائية يدرك أن توقف نشاطهم راجع إلى شرب الخمر إلى حد كبير، “ولقد فشل الإداريون الأوربيون في علاج هذه المشكلة التي لا تحلها القوانين المفروضة لأن الامتناع عن شرب الخمر لا يتم إلا بوازع ديني”

d8bad984d8a7d981-d983d8aad8a7d8a8-d8af.-d982d8a7d8b3d985-d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a العرب من التحديث المباغت إلى الحداثة المتعثرة.. بقلم: د. قاسم المحبشي

ويخلص توينبي في بيان ما يمكن أن يكونه الإسلام في عالم الغد إلى القول (إن الطبيعة تخاف الفراغ) ويصدق ذلك على المجال الروحي كما يصدق على المجال المادي، والحضارة الغربية لم تحسن ملء هذا الفراغ الروحي بنفسها، لكنها بالمقابل قد وضعت نظاماً فريداً من الوسائل المادية لعمليات النقل والاتصال المختلفة تحت تصرف أية قوة روحية قد تقرر أن تحل محلها في المستقبل. والإسلام في اثنين من هذه المناطق الاستوائية في إفريقيا الوسطى واندونيسيا هو القوة الروحية التي أفادت من فرصة (الإصلاح) في هذا المجال الروحي الميسور لذي أتاحه رواد الحضارة الغربية المادية لجميع الوافدين، وإذا ما وفق سكان هذه المناطق يوماً إلى استعادة حالة روحية ترد عليهم ذواتهم، فلا ريب في أن هذا يعد كسباً كبيراً للإسلام، هنا في جبهة الغد، نستطيع أن نرى أثرين فعالين يمكن أن يحدثهما الإسلام في العالم الجديد، لكن هذه الاحتمالات المختلفة لا يمكن التثبت من صحتها الآن فقد تسوغها الأحداث وقد لا تسوغها، “فإن هذا الخليط الشامل المتنافر قد ينتهي بانفجار، وفي مثل هذه الكارثة قد يكون للإسلام دور مختلف يؤديه لكونه عنصراً فعالاً في انتفاضة عنيفة ينتفضها العالم الكوزموبوليتي المختلف في ثورته على أسياده الغربيين”(ينظر، قاسم المحبشي، فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر، الجزء الثاني من توينبي إلى توفلر ص163إلى 179, الطبعة الثانية، دار يسطرون القاهرة 2022) 

في الختام أود الإسهام بوجهة نظري الخاصة في معضلة الحداثة والهويات القاتلة التي تستعر اليوم في مجتمعاتنا العربية بضراوة مروّعة إذ شهدت بنفسي تجربة انزياحات الهوية واستراتيجياتها الصراعية المدمّرة في اليمن والعراق، فعلى مدى نصف قرن فقط غيّر الناس هوياتهم في اليمن شمالا وجنوبا مرات عدة، وها نحن اليوم نشهد جدلا صاخبا وصراعا متّقدا بشأن الهوية اليمنية، وهوية الجنوب: أهي جغرافية أم سياسية؟ فضلا عن احتدام أوار الهويات الطائفية، الزيدية والشافعية والحوثية والسلفية وغير ذلك من خطابات الهويات التقليدية الفرعية الكثيرة وهي خطابات أخذت تستقطب جموع واسعة ومتزايدة من الناس في الجنوب والشمال وذلك بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيام (الجمهورية الثورية) في الشمال وإحراز الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني في الجنوب. ليس لأن الناس يرغبون في ذلك بل بسبب الممارسات السياسية التي دفعتهم إليه. وقد أذهلني ما شهدته في بغداد من تبدّل سريع وعنيف في صراع الهويات الطائفية قبل الاجتياح الأميركي وبعده، إذ سنحت لي فرصة الدراسة العليا في جامعة بغداد في تلك المدة الفاصلة، التعرف على حقيقة المعضلة الطائفية في العراق التي نشهد اليوم أهوالها، ففي عام 2004 وجدت العراق بصورة مختلفة كليا عن تلك التي عرفتها في الثلاث السنوات السابقة، وكانت حمى الطائفية هي أبرز ملامح العهد الجديد، على الرغم من أنها مازالت حينذاك في طور التفقيس البريمري (نسبة إلى الأميركي بريمر) الذي حكم العراق بعد احتلالها. وكما دفعت حرب صيف 1994 م التي شنتها القوى التقليدية المهيمنة في الشمال اليمني ضد الجنوب المدني، تحت رايات دينية وأيديولوجية وسياسية مختلقة وما تلاها من ممارسات تعسفية تدميرية لكل مؤسسات دولة مواطني الجنوب (السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والقانونية.. الخ) نقول كما دفعت تلك الغزوة التكفيرية الظالمة الجنوبيين إلى التعرف على ذاتهم الجنوبية المهزومة، وجعلتهم يتشبثون ويضحون بحياتهم في سبيلها، على نحو لم يشهد له التاريخ مثيل، فكذلك فعلت غزوة أميركا للعراق في إيقاد نار الهويات الطائفية التي كانت هامدة تحت رماد الطغيان السياسي الجمهوري البعثي، وزادتها اشتعالا بمنحها المزيد من الزيت الأميركي شديد الاشتعال، في سبيل تحقيق إستراتيجية (الشرق الأوسط الجديد) التي ستكون فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي أنطاكيا الجديدة، (جنة الله في بلاد العرب الخراب) (الشرق الأوسط الجديد)! ألا تلاحظون اليوم كيف تبدو صورة دولة إسرائيل بالمقارنة مع دول الجوار العربي؟!فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف حينما يكون مقدسا، إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة، (دينية أو أيديولوجية) يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي وعصبوي ديني، وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف هو أخطرها على الإطلاق، ذلك لأن (الثار الحر) يشكل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة، ففي كل مرة ينبثق منها من أيّ نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة، يميل إلى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا ما نراه ماثلا اليوم في العراق، حيث يصف (المالكي حربه مع داعش بثارات الحسين) ومن المعروف في مثل هذه الحالات كيف أن أقل عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كإرثي، ومشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل أحيانا الهروب من هذه العدوى، “فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد أناس ينساقون إليه بحرية وحماس، ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكنهم أنفسهم، غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب مؤسسة محايدة للعدالة، أقصد الدولة الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلال المجالات، (السياسي والديني والمدني والاقتصادي والثقافي والعلمي.. الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة، وكل المحاولات الراهنة المعتمدة على المدخل الأمني في ضبط ظاهرة العنف في المجتمعات العربية بالقوة العسكرية العارية المحلية أو الخارجية، من المؤكد أنها تزيده اشتعالاً مثل (اللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه) واعتقد أنه لا بديل من إعادة التفكير بالعلمانية بعيدا عن المنظور الأيديولوجي الذي يشوّش معناها التقني الحقيقي، بوصفها تقنية سياسية ناجعة مجربة ومختبرة عبر ثلاثة قرون من التاريخ السياسي للدولة الحديثة ليس في أوروبا وأميركا فحسب بل في كثير من دول أسيا وأفريقيا وفي مجتمعات إسلامية مماثلة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، ومنها ماليزيا واندونيسيا وتركيا وباكستان وغيرها.

إذ أن الفصل بين المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقلال المجال الديني عن هيمنة السياسي، وبهذا تكون العلمانية ليس كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي في حقيقة الأمر تحرير المقدس من تبعيته للمدنّس واستعادت روح الدين الإسلامي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين ومتتماً مكارم الأخلاق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” (الحجرات الآية 13) أو “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (سورة النحل الآية 125)، “ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن” (العنكبوت الآية 46)، أو ما جاء في السنة الشريفة “لا يرحم الله من لا يرحم الناس″، “لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً” وغير ذلك مما احتواه الدين الإسلامي الحنيف من قيم تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق والإنصاف والعدل والاعتراف والتسامح والتصالح والعفو والإيثار والتعاون والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السلام وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب والخداع والسب والتنابز بالألقاب والكبر والغرور والتطرف والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل.. الخ.

ومن المهم دراسة تجارب الحضارات والشعوب التي نتعايش معها في هذا العالم الوحيد المسكون فكيف ظهرت فكرة الحداثة بوصفها أفقًا عقليا ونفسيا وقيميا في العالم الغربي؟ أو بحسب توماس كون بوصفها براداغيما جديدا ولد من رحم التحديث الغربي للحضارة؟ في الواقع لقد كانت لفكرة التقدم أهمية كبرى في تاريخ أوروبا إذ تنشأ فلسفة التقدم ومفاهيمها الجديدة في الفراغ، بل نشأت في السياق التاريخي الحي لحركة المجتمع وتطوره، على الصعد الحضارية، والثقافية والمدنية كافة، وبهذا المعنى نفهم قول صاحب كتاب “فكرة التقدم” “انه ما كان لنظرية التقدم الإنساني أن تتوطد بالحجج المجردة، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل الذي يقدمه التاريخ نفسه” أن الحاجة إلى رؤية فلسفية حداثية كانت تستمد مقوماتها وحوافزها مما كان يجري في العملية التاريخية في الحاضر الأوروبي من متغييرات وأحداث تقدمية وبما كان يبشر بها المستقبل هناك من آفاق ابعد غوراً أو أكثر تقدماً، وكانت قوى البرجوازية الصاعدة، ترى في التقدم مسيرتها وترسم عليه مستقبلها، إذ أخذت فكرة التقدم تنتشر وتشيع في نسيج الثقافة الأوروبية عقيدة عامة وفلسفة شاملة في ذلك العصر، وهذا ما يراه احمد محمود صبحي بقوله: “إن نظرية التقدم لم تكن مجرد أراء يرددها مفكرون وإنما كانت اقتناعاً عاما لدى أهل ذلك العصر”.

وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من تأكيد قيمة الإنسان وقدرته على صناعة التاريخ، فأنها في بدء الأمر قد اكتسبت بعدين أساسين:- البعد الأول يتمثل في نقد كل ما يحول دون انطلاقة الإنسان ويكبل قواه وهذا ما شهده القرن السابع عشر، الذي يعد قرن تحطيم الأوثان، إذ كان ملتون في ملحمة “الفردوس المفقود” يهاجم بلا هوادة المؤسسات التقليدية، ويرى “أن أعظم عبء في العالم هو الخرافة، ليست المتعلقة بالطقوس الكنسية وحدها، بل بالآثام المتخلية وبفزاعات الإثم في البيت أيضا” وفي كتابه “الاوياثان” 1651 سار هوبز بهذه النزعة النقدية ضد الخرافات والأوثان إلى نهايتها المنطقية فالوثنية كما يقول هوبز عبارة عن عبادة الوثنيين لأفكارهم ذاتها، ولم تكن تلك العبادة ممكنة لولا أن الوثنيين الغارقين في ضلال الجهل لم يدركوا أن أفكارهم ليست مكتفية بذاتها، بل سببتها الأشياء الخارجية وتوسطتها ملكة التمثيل” لقد كانت الثورة النقدية الحاسمة ضد الخرافات والأفكار المطلقة قد اكتملت عند جون لوك وهيوم، وانتقلت إلى فرنسا إذ تلقفها الفلاسفة الماديون أمثال كوندياك وهلفسيوس ودولباخ، الذين ارجعوا كل أفكار الناس إلى الخبرة الحسية المادية، وفي كتابه “رسالة في الإحساسات عام 1754” يذهب كوندياك إلى أن أفكارنا تنتجها دائما قوى مادية لا وجود لـ عقل أو روح مستقل عن الحواس والخبرة الحسية. أن إعادة المكانة للإنسان الكائن الحاس وتأكيد أهمية العالم الحسي ونقد أفكار العرق المورثة وتحطيم الخرافات، كان له بالغ الأثر في صعيد تبلور فكرة التقدم التي وجدت أول صياغة لها على يد المفكر الفرنسي الديكارتي (فونتيل) في كراسه “محاورات الاموت عام 1683” الذي أكد فيه قدرة الإنسان الخلاقة على الحلم والتقدم والكمال، “فلا حدود لتقدم المعرفة الإنسانية والإنسان لن يشيخ بل يتجاوز نفسه باستمرار وفي كتابيه “استطراد حول القدماء والمحدثين وحول تعدد العوالم 1686 ذهب فونتيل إلى إن الإعجاب المفرط بالقدماء هو احد العوائق الرئيسة للتقدم الإنساني الذي يصعب إيقافه أبدا” وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من نقد الماضي ونقد تقديس القدماء وتحطيم الأصنام، فأنما أرادت تمهيد السبيل لتصور جديد للتاريخ يقوم على أساس من تأكيد الحاضر واستشراف المستقبل، بل إن نقد الماضي وتقاليده الذي ساد في عصر التنوير كان شرطاً ضرورياً لتسويغ الحاضر وقيمة المعرفية والحضارية والمدنية. وكان المنور الفرنسي فولتير (1694-1778م) بين اشد المثابرين في هذا المشروع، وكان شعاره (اسحقوا الأباطيل) صيحة الحرب ضد المؤسسة التقليدية. ويعد فولتير أول من استخدم كلمة “فلسفة التاريخ” بالمعنى الحديث للكلمة، من حيث هي فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية، تدرس التاريخ دراسة عقلية ناقدة، ترفض الخرافات والأوهام والأساطير والمبالغات.وتعود أهمية فولتير هنا لما كان يمثله في عصر التنوير من قيمة نقدية مهمة، ففي شخصيته وأدبه الجاد والساخر وفي منهجه النقدي العنيف، وأسلوبه اللاذع وقوة أفكاره كان خير من عبر بعمق عن مزاج عصر التنوير وأتجاهاته التقدمية ، وكان شديد التفاؤل في قدرة الإنسان وعقله في التقدم، إذ يقول: “يمكننا إن نعتقد إن العقل والصناعة سوف يتقدمان دائما أكثر فأكثر وان الفنون المفيدة ستتحسن، وان المفاسد التي حلت بالإنسان سوف تختفي بالتدرج. ويرى فولتير أن الإنسان يتقدم من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية بفضل ما يمتلكه من عقل طبيعي وان الإنسان خير بطبعه هناك أمل في ارتقائه وبلوغه حد الكمال في حالة المدنية المنظمة تنظيماً عقلياً. وكان من أشد المنتقدين للتعصب والانغلاق العقائدي أما الفيلسوف الأخر الذي أجاد التعبير عن عقيدة التقدم الحديثة فهو كوندورسيه (1743-1794م) الذي عاش عهد الثورة الفرنسية عام 1789م هذه الثورة التي نادى لسان الكون في العالم من خلالها، لابـ “الخمول والانقباض” بل بالتحرر والتقدم والكمال، إذ ينزوي هذا الفيلسوف في فندق صغير خارج باريس هرباً من بطش الطاغية روبسبير، ليكتب “معالم صورة تاريخية لمظاهر التقدم في الفكر البشري” مشيراً إلى انه “ليس هناك حدود مرسومة لتقدم الملكات الإنسانية لأنه لا حد على الإطلاق لقبول الإنسان للكمال… وأن مسيرة الإنسان نحو الكمال لن تعرف حداً ولا نهاية… وسيأتي زمن لن تشرق فيه الشمس إلا على الأمم الحرة وحدها, الأمم التي لا تعترف بسيد أخر غير عقلها، ولن يجد الطغاة ولا العبيد ولا الكهنة وأتباعهم الأغبياء المنافقون أي مكان لهم، اللهم إلا على صفحات التاريخ وخشبة المسرح.
في هذا السياق التاريخي والثقافي المحتدم يمكن لنا التفتيش عن العقل ومعانيه الحداثية و لاريب أن أحد المصادر الكبرى لقدرات الانسان العقلية والطبيعية ذاتها هي المذاهب الدينية والقانونية في حضارة من الحضارات وأهم هذه المصادر الصورة الميتافيزيقية الأوسع التي تجرى ضمنها أنماط الخطاب وتشكيل في فضائها أهم المفاهيم التي تشكل تصورات الانسان عن نفسه تشكيلاً عميقاً ،فأما أنها تدعم قواه العقلية أوتضيق عليها. وفي كل عصر من العصور يعاود العقل وظيفته في تأمل العالم ومحاولة فهمه من جديد عبر التساؤل المستمر ما الوجود ؟ يعني من نحن هنا والآن وماذا بوسعنا فعله وكيف نعيش عالمنا الراهن؟ وأجوبة الفلسفة القديمة لا يمكنها أن تسعفنا في تفسير عالمنا الجديد وفهمه. والحاجة إلى نقد العقل واوثانه واوهامه هي حاجة حيوية دائمة ذلك ينجم من طبيعة العقل ذاته فهو ليس مهجعا مهجورا لتخزين المعرفة والمفاهيم كما هو حال مخازن الاشياء والنقود والمجوهرات والبضائع. ومن الاخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العقل هو عضو من اعضاء الجسم إذ يتم المطابقة عند البعض بين العقل والمخ أو الدماغ بمعنى واحد وهذا غير صحيح. فليس هناك شيئا ملموسا محسوسا اسمه العقل يمكن رؤيته ولمسه بالحواس المتاحة. العقل مفهوم مجرد وليس عضوا ماديا متعينا في الواقع بل هو مفهوم يطلق على ممارسة التفكير الواعي الذي يباشره الانسان في أثناء ممارسته لحياته اليومية وهو أهم وأخطر المفاهيم التي مارست تأثير ساحق على حياة المجتمع الانساني وتطوره ويتحدد نظام كل ثقافة أو حضارة من المعنى الذي تمنحه للعقل والموقف الذي تتخذه منه. وهذا أمر يطول شرحه. وكل جيل من الأجيال معني بتدبير العيش في حاضره هو لا ماضي اسلافه ومواجهة تحديات حاضره هو في ظل المعطيات والشروط والممكنات المتاحة في اللحظة الراهنة والمستقبل هو أمام الناس لا ورائهم.
وتعد الفلسفة بما هي طريقة متميزة في ممارسة التفكير وإنتاج المعرفة واحدة من أهم مصادر المعرفة وادوات الفهم والتنوير إذ يشهد تاريخ الافكار بان حضور الخطاب الفلسفي الأصيل حيثما وجد عبر التاريخ كان الشرط الرئيس لنمو وتفتح وازدهار الثقافة والأفكار الخلاقة ونقصد بالثقافة هنا القوة الإبداعية في التاريخ علما وادابا وفنا ولا تطور ولا تقدم ولا نماء ولا ارتقاء بدون معرفة الطبيعة ومظاهرها وفهم قوانين حركتها والتنبؤ بنتائجها وتلك هي وظيفة العلوم الطبيعية ولا تطور ولا تقدم ولا نماء ولا ارتقاء في التاريخ والحضارة الا بمعرفة حقيقة الكائن الإنساني والمجتمع البشري بوصفهما لحمة التاريخ وسداه؛المعرفة القادرة على فهم حاجات الإنسان ودوافعه ومقومات الحياة الاجتماعية المدنية المستقرة وقوانين التاريخ وحركته والتنبؤ بمساراتها المستقبلية وتلك هي وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة في قلبها بل هي أمها التي ابدعت اخصب وانضج المفاهيم الأساسية في تاريخ المعرفة الإنسانية( الوجود، الإنسان، العقل،
الخير، الشر، العدل ، الحرية، الجمال ..الخ) وذلك منذ البواكير الاولى للفكر الفلسفي الشرقي واليوناني القديمين مرورا باللحظة العربية الإسلامية الخصيبة لحظة الترجمة والتفلسف في المشرق والمغرب العربي وانتهاء بالعصور الحديثة والمعاصرة. إذ لم تكن الحداثة الغربية في معناها الاوسع إلا مشروعا فلسفيا عقلانيا قرر اعادة تأسيس وبنا المجتمع من جميع جوانبه على أسس عقلانية. وقد شكلت الفلسفة الفضاء الرحب لانطلاق وتقدم حركة التنوير الاوربية منذ القرن السابع عشر الميلاد وفي سياقها ازهر المنورورون الكبار امثال فرانسيس بيكون وديكارت وهيوم ولوك وفولتير وروسو وديدرو وغيرهم وكان الالماني امانوئيل كانط ثمرة تيار التنوير الأنضج في مقاله ما التنوير؟ بالمقارنة من سيرورة الثقافة الغربية النهضوية الحداثية يمكن القول أن الثقافة العربية الإسلامية مازالت تدور في فلك دائري وليس خطيا تقدميا وسبب ذلك هو غياب مفاهيم العقل المستنير والطبيعة والقانون الطبيعي ،والانسان والضمير وحرية التفكير من آفق الثقافة الإسلامية وهذا أفضى بالمحصلة الأخيرة إلى العجز الكلي عن انجاز الطفرة العلمية الحديثة التي انحصرت في أوروبا الغربية واخفقت في حضارتنا العربية الإسلامية. وتلك هي الحكاية التي يرويها كتاب (فجر العلم الحديث؛ الصين ألعرب والاسلام) إذ كتب توني هب قائلا: كان العرب في كل حقول العلم .. في طليعة التقدم العلمي …إذ أن ما حققه العرب يثير الإعجاب إلى حد يدعو للتساؤل عن السبب الذي منعهم من اتخاذ الخطوة الأخيرة باتجاه الثورة العلمية الحديثة ؟ ويضيف ” كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي) حسب تعبير(Koyre كويري). وبما أنهم عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بداية العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية لا تزال تتمسك بالتقاويم القمرية” وفي سياق تناوله للبُنى الثقافية والمؤسسية التي حالت دون مقدرة العلم العربي على اتخاذ تلك الوثبة الحاسمة من الباراديم التقليدي المغلق إلى الباراديم الحديث الجديد توصل هب إلى نتائج بالغة الخطورة والأهمية اليكم بعضها:
1- لم يكن لعلماء الطبيعة العرب دور معترف به اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يوازي دور الفقهاء من حيث السلطة والنفوذ، بل كانت بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام ذات طبيعة جعلت طلب العلوم الوضعية والعقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك ويجلب لأصحابها كثيراً من المتاعب والتهم الخطيرة على حياتهم.
2- كانت سلطة الفقهاء وسطوتهم شاملة بحيث لم يتركوا شيئاً للعلماء والفلاسفة ليقولوه، بل إن الفلاسفة وعلماء الإنسانيات لم يكن لهم وظيفة ودور معترف بهما في المجتمع، ومن ثم لم تكن لهم حماية، إذا ما أردوا التعبير عن آرائهم بشأن القضايا الفكرية بحرية، كمسألة خلق العالم، والعلية الطبيعية، والحرية الإنسانية، وما إذا كان بإمكان الإنسان الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق الرؤية العقلية بعبارة.
3- غياب فكرة العقل والعقلانية؛ إذ إن مصادر الشرع هي القرآن الكريم، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذا ما أفضى إلى التخلص من العقل بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، وقد أدى التضييق على العقل إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعية؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة ،كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. ويرى فضل الرحمن أن “اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان ،لكن العلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: “أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك”ويخلص (هف) إلى القول: “لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند ألإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للآخلاف. أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة.
لقد كان الاعتراف نتيجة من نتائج الحداثة والتحدث نقصد بالاعتراف هنا التقبل والموافقة، والتقدير والاحترام والإحساس بالآخر بوصفه كائنا جديرا بالتقدير والأهمية والاعتبار بعكس الاستبعاد والتهميش والازدراء والإنكار والإقصاء والقمع والاحتقار..إلخ من الصفات السلبية النمطية التي يتم إلصاقها بالآخر المختلف أو المعايير أو المغاير. والاعتراف يرتبط بقيم إنسانية أخرى أهمها التسامح الذي يعني احترام وقبول وتقدير التنوع والانفتاح تجاه الآخرين المختلفين، والإقرار بحق الاختلاف والتفاهم والفهم، بعكس اللاتسامح الذي يقوم على الجهل والتعصب والانغلاق والاستعلاء والتكبر والتطرف والعنف والإكراه، فالتسامح لا يعني بالضرورة أن نحب الجار بقدر ما يجب علينا أن نجتهد لاحترامه حتى ولو بالقدر الضئيل) وهو يقوم على أساس رسوخ الفكرة الجوهرية لكرامة كل بني الإنسان حتى أقلهم موهبة وشأنا، بالتالي فكرة حق كل منا في أن تكون له أفكاره الخاصة به حتى وإن كانت أكثر الأفكار منافية للعقل، ومخالفة للرأي العام، وهذا هو المعنى من قول فولتير: إنني مستعد أن أقدم حياتي ثمناً في سبيل حقك في التفكير والتعبير بحرية فيما نعتقده وإن كنت على خلاف كامل مع رأيك. وقد حظي مفهوم الاعتراف باهتمام عدد من الفلاسفة والمفكرين. ورغبة الإنسان بالاعتراف كما قال آدم سميث (هي الرغبة الأكثر التهابا في الطبيعة الإنسانية لا يوجد شخص يستطيع أن يبقى غير مبال بسمة اعتراف الآخرين به ولا يوجد ثمن نحن مستعدون لدفعه لكي نحظى بهذا الاعتراف وقد تخلى البشر بإرادتهم غالباً عن الحياة، وذلك لكي يحظوا بعد موتهم بسمعة لم يستطيعوا الحصول عليها والتمتع بها في الحياة). والحرية هي صراع من أجل الاعتراف حسب هيجل إذ يمكن للمرء أن يتحمل كل مصائب الدنيا مقابل أن ينجوَ من الاحتقار والإهمال والازدراء. وهذا هو ما دفع الفيلسوف الألماني المعاصر إكسل هونيت إلى تاليف كتابة المهم (النضال من أجل الاعتراف) 1992م إذ أكد أن كثيرا من النزاعات الاجتماعية والسياسية التي وجدت في الماضي أو الموجودة اليوم ربما تجد أسبابها في مسألة الاعتراف، التي من دونها يستحيل فهم الدوافع العميقة لمساعي وكفاح الناس وغاياتهم.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات