العقل المهاجر .. نصر أبو زيد الإنسان .. بقلم: محمد رفعت

محمد رفعت
ماجستير في الحقوق، سنة ٢٠١٢، كلية الحقوق جامعة المنصورة

d8b1d981d8b9d8aa العقل المهاجر .. نصر أبو زيد الإنسان .. بقلم: محمد رفعت

العقل المهاجر

 (١)

      كانت بداية الأزمة في ١٩٩٣/٣/١٨ عندما رفض مجلس جامعة القاهرة، طلب الترقية المقدم من نصر أبو زيد، من درجة أستاذ مساعد، إلي أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. وبرغم الإشادة من قبل اثنين من أعضاء اللجنة، بمؤلفاته وبجدارة نصر في الحصول على الترقية، إلا أن مجلس الجامعة قد أخذ برأي العضو الثالث الذي وصف مؤلفاته بأنها: “جدلية في جدلية، لتخرج بجدلية تلد جدلية، تحمل فى أحشائها حنينًا جدليًا متجادلًا بذاته مع ذاته”. ولم يكتف بتلك العبارة، بل راح يغمز الكاتب في دينه، بعبارات مثل “كأنه اعتراض على القرآن ذاته” و “هو كلام أشبه بالإلحاد” وغيرها من العبارات الخطيرة.

(٢)

    ولم تقف الأزمة عند هذا الحد بل رفعت قضايا حسبه، تنادى بالتفريق بينه وبين زوجته، وكان أولها فى 17 مايو 1993.

لم تكن الأزمة أزمة نصر وحده، بل كانت أزمة نظام بأكمله، يرفض ويخاف الجديد يعشق الجمود والمياه الراكدة. عائق الحرية الفكرية التي عانى منها، لم يرتبط بحكومة متسلطة، أو استبداد عسكري، أو ديني فقط، وإنما كان مرتبط بوجود عداء اجتماعي، لكل ماهو جديد خاصة إذا كان هذا الجديد متعلق بفهم الدين.

image العقل المهاجر .. نصر أبو زيد الإنسان .. بقلم: محمد رفعت

   وهكذا تحول مفكر كبير فى تاريخ الفكر الإسلامى، إلى مواطن يضيع وقته فى الحديث للمحامين والأمن بدلًا من التفرغ للقراءة والكتابة. ولذلك كانت الهجرة الإجبارية لمدينة ليدن بهولندا. لماذا هذه المدينة بالذات؟

يجيب دكتور محمد أبو الغار عن هذا السؤال في مقال له بعنوان “نصر فى هجرته الإجبارية”. نشر في العدد 89 من مجلة عالم الكتاب فى يونيو 2015 حيث يقول: “اختار نصر ليدن ضمن عروض كثيرة، لأن بها قسمًا كبيرًا وهامًا للدراسات الإسلامية، ولأن بها علماء متميزين هولنديين وأجانب، ولأنها قريبة من مصر فهو لم يشأ أن يقبل عروض جامعات أمريكية، حتى لا تكون المسافة عائقًا من زيارات متكررة لابتهال زوجته، التي كانت تسافر إلى مصر للقيام بعملها الأكاديمي، كأستاذه في قسم اللغة الفرنسية”.

 لم يكن يعلم أن مصيره سيكون كمصير ابن رشد، عقل مهاجر طردته ثقافته العربية الإسلامية، وتلقفته الثقافة الأوروبية الناهضة حيث رحابة الفكر وتقبل الجديد.

     أهم ما يميز نصر أنه مفكر برتبة إنسان. الإنسان لديه هو الأساس وله دور فعال في النص القرآني. فلم يجعل المتلقي الأول للنص متلقي سلبي، فنزلت الآيات الأولى تكشف عن طبيعة الأسئلة التي كانت تحير محمدًا. 

“وليس الحديث إذن عن محمد بوصفه المتلقي الأول للنص حديثاً عن متلقي سلبي، بل حديث عن انسان تجسدت في داخله أحلام الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، انسان لايمثل ذاتا مستقلة منفصلة عن حركة الواقع بل إنسان تجسدت في أعماقه أشواق الواقع وأحلام المستقبل”.

“إن النص في عملية الاتصال الثانية يقصد سورة المدثر؛ مازال يتجاوب مع حالة المتلقى الأول للنص، ويفصح عن أشواقه ويجيب عن اسئلته، فكان الأمر بالاعتذار ردا على حيرته فيما يراد منه، وكانت الأوامر بالتكبير وتطهير الثياب وهجر الرجز تأهيلا له لكي يقوم بالمهام التى يسندها إليه النص ويكون مستعداً لها”

(٣)

بدأ مرحلة جديدة في حياة نصر انتقل فيها من النظر إلى القرآن على أنه نص إلى النظر إليه كخطاب، فدور الإنسان أكثر وضوحاً في الأخير، لأنه مشارك وفعال فيه.

فالمُتكلم بالقرآن لا يشير دائمًا أنه المقدس “الله” فنجد هناك تعدد للأصوات داخل النص القرآني.

فتجد مثلاً اليهود، النصارى، امرأة عمران، امرأة العزيز، امرأة فرعون، حتى الحيوانات كالهدهد كل هذه الأصوات ظهرت بوضوح داخل النص القرآني.

فالقرآن يمثل مجالاً خصباً لعملية متكررة بين (الإنساني وغير الإنساني) و(الإلهى) عملية يتبادل فيها الصوتان مكانهما، ويحل أحدهما محل الآخر.

(٤)

 هو إنسان ومنحاز دائمًا للإنسان. لا أنسى ما كتبه لأمينة ودود أستاذ الدراسات الإسلامية، عندما اعتلت المنبر لإلقاء خطبة جمعة كانت عن معنى التوحيد. التوحيد كرفض لكل أشكال التفرقة، فالتوحيد بالنسبة لها تعنى حقوق Tnl50oySsxL3PHA-mK3_GLOeWOdRsWQyhs9fuZhyeWxwP0CHhydaCpKkaHZzaIwMc92qf3SautJff0L22Qoi_fYilR73rLWolcMcZ64SANrbZoo-U2X6ZyJTU_NRIRw7OU8be9AAVP3_tqeM-IRuUNg العقل المهاجر .. نصر أبو زيد الإنسان .. بقلم: محمد رفعت

الإنسان التى يولد بها كل إنسان بغض النظر عن النوع، أو الجنس، أو الأصل العرقى، أو حتى الأديان، من خلال التكريم الذي خلقهم به الله. طبعًا قوبلت بردود فعل متطرفة ومعارضة كثيرًا، وكرد فعل إعلامي، ضم زملائها ملصق عليه صورة لها كإمام وكتبوا عليه توقيعات عبارات تشجيع وجاءت عبارة نصر نصر لها  “سأقف خلفك”. (٥)

  تقول ودود “أن العبارة كانت فريدة فى دلالتها لعلاقتها بفعل الصلاة ذاته، كلماته تحمل التقبل والمساندة أنه لا يمانع أن يقف خلفي مأمومًا منى ليصلى، لقد تأثرت جدًا بهذا التفرد الرائع”.

    وصفه فكرى اندراوس بأنه إنسان متواضع بشدة، رغم علمه الغزير، لديه شغف بالمعرفة والبحث عنها، مع استعداده لتغيير رأيه إذا استجد عليه جديد. ولكن كأستاذ جامعي كانت إحدى مميزات أبو زيد سعادته حين يجد طالبًا مختلقًا معه فى الرأى، فيحاوره بصبر لا ينتهي، هو صبر المعلم الجيد الذي يرفض التعليم بالتلقين.

وقال أبو الغار عن نصر الإنسان أنه استمر كما هو هذا الفلاح الطيب المكافح، والواعي بمشاكل وطنه فانحاز بطبعه إلى الكادحين، وكانت عينه عليهم طوال الوقت. وخاض معركته الفكرية بكل جرأة وشجاعة واقتدار، لم يخف ولم يتنازل، واصطدم بالكثير من أصدقائه الذين أرادوا حلًا سلميًا للأزمة مع تقديم تنازلات بسيطة، ولكنه رفض تمامًا وانحاز لمبادئه فعاش نصر إنسانًا ومات إنسانًا، وسوف يذكر التاريخ ولو بعد حين بأن هذا الرجل قد قام بتغيير جذري في العقل المسلم”.

ختاما لم يركن إلي حب السكينة إلا أقوام على شاكلتنا، فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التى لا يصلح فيها نبات، وحتى مال بنا الكسل إلى معاداة كل فكر صالح مما يعده أهل هذا الزمن حديث غير مألوف، وكثير ما يكتفي الكسول ضعيف الحجة، بأن يرمى بكلمة باطلة على حق ظاهر فيقول تلك بدعة فى الإسلام وما يرمى بهذه الكلمة، إلا حب التخلص من عناء الفهم، والخروج من مشقة إعمال العقل، وسيأتي اليوم الذي يعلم فيه الأجيال القادمة حجم وقدر مفكر إنساني ننتسب إليه، كان هدفه الأول والأخير هو الإنسان. فسلامًا على روحه العطرة. 


(١)عنوان هذه الورقة هى فى الأصل موضوع بحث ألقاه الدكتور نصر حامد أبو زيد، عن ابن رشد فى المؤتمر الدولى الفلسفي الأول للفلسفة الإسلامية في نوفمبر 1979، تحت رعاية جامعة عين شمس، وجاء فى مفتتح بحثه، أن الحديث عن ابن رشد هو الحديث عن العقل المهاجر العقل الذي طردته الثقافة العربية الإسلامية، وتلقفته الثقافة الأوروبية الناهضة.

مراد وهبه، مفارقة ابن رشد، الطبعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2017.

(٢) عبدالحليم، الحرية وأخواتها، مكتبة مدبولى، ص129.

(٣) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، الهيئة العامة للكتاب،١٩٩٣.

(٤) حمدى الشريف، القرآن بين النص والخطاب في رؤية محمود طه ونصر أبو زيد، ما بعد مفهوم النص: القرآن من النص إلى الخطاب، القاهرة، ٢٠١٦.

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات