العلاقة بين معايير الجودة والحريات الأكاديمية .. بقلم: د. قاسم المحبشي
مجتمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعدائها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية.
بقلم: د. قاسم المحبشي
أستاذ فلسفة التاريخ
اليمن

يصعب الحديث عن معايير الجودة والتمييز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السيوسيوثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، ونحن نعلم أن مسألة النمو العلمي وإزهار العلم والتعليم هي مسألة ليست علمية بل سياسية حضارية وثقافية، فكذلك يمكننا القول، أن مشكلة معايير الجودة والتميز ليست مشكلة فنية أو إدارية أو أخلاقية أو ذاتية يمكن حصرها وحلها داخل جدران الجامعة الأربعة أو في أداء عضو هيئة التدريس فقط بل هي مشكلة أكثر تعقيداً مما يمكن تخيله.
أنها تتصل بنسق هائل من المستويات والعناصر الحضارية والتاريخية والفكرية وكل المنظومة الثقافية للمجتمع التقليدي أو الحديث، إذا أن الجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية التقليدية ظلت عرضه للاختراق من البنى والقوى والقيم والممارسات والعادات والمعتقدات التقليدية التي تشن حرب لا هواده فيها ضد هذه المؤسسة الوليدة بدون وعي في معظم الأحيان وبوعي أحياناً وهذه هي سنة من سنن الحياة الاجتماعية أنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الاستراتيجيات والغايات والأهداف.
صراع بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها هذا يعني أن التعليم الجامعي على صلة وثيقة بالسياق التطوري التاريخي للمجتمع وتراثه وقيمه ومؤسساته وبنياته وتقاليده من جهة وبالمؤسسة الأكاديمية الحديثة وتاريخ نشأتها ومستوى تقدمها من جهة اخرى.
إذ يصعب فهم وتفسير تخلف مخرجات جامعتنا بمعزل عن تخلف المجتمع والجامعة ككل. فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية. ومن المعرف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين وكيفية تجسيد الحياة فيه نابعة من علاقاتهم الاجتماعية.
ففي مجتمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعدائها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية.
وفي ثقافة لا يزال بعض الناس فيها ينكرون الطبيعة وقوانينها والإنسان وعقلة وحريته وغير ذلك الظواهر والموضوعات التي هي الموضوع الأول والأخير لكل العلوم الطبيعية والإنسانية، وينكرون العقل الإنساني كأداة ومعيار للمعرفة العلمية بل وينكرون الإنسان بعده كائن كرمه الله وأكرمه بالعقل وبالقدرة على التمييز والمعرفة ومن ثم فهو يستحق بأن يعيش حياته بحرية وكرامة وأمن وأمان.
هذا الإنسان الذي هو الموضوع الجوهري لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي ثقافة رسمية وشعبيه لا زال مفهوم العلم فيها يثير الالتباس وغير متفق عليه، بل لا زال الاعتقاد الراسخ، بأن العلماء هم “علماء الدين أو علما الشريعة ولا أحد سواهم)، وأن العلم هو العلم الشرعي النافع في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية (وأن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) هذا الحديث الشريف الذي يحذر من البدع والابتداع في العقيدة الدينية الإسلامية الحنيفة السمحاء والذي جرى تأويله وتعميمه للأسف الشديد على كل مناحي حياة المسلمين بسبب الغلو والتطرف في التأويل والتفسير.
وفي مجتمع لا زالت فيه الثقافة السحرية والأسطورة والخرافية واللاهوتية تهيمن على كل الأفق الثقافي والفكري عند الخاصة والعامة في مجتمع ليس من بين مثلة العليا للنجاح العلم والتعليم والتفوق العلمي والكفاءة الشخصية والأداء المتميز والمواهب الفردية بل القرابة، العشائرية القبلية والعصبية والنفوذ والمحسوبية والرشوة والوساطة والانتهازية، والابتذال والنفاق والمزايدات السياسية الأيديولوجية.
الأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية
يقول (جون وجاردنر) في كتابة (التميزة الموهبة والقيادة) إذا أعدت الرثاثة والهرجلة مجتمعاً ما فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام.
ولطالما و قد كتبت في معنى الحرية والجودة الأكاديمية وتوصلت إلى النتيجة التالية وهي: لا جودة أكاديمية بدون حرية أكاديمية إذ أن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة. وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها.
أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف “بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها”.
ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”.
وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره.وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله: “أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع “.
وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها.
لكن كيف يمكن للجامعة أن تكون مؤسسة أكاديمية حرة ومستقلة؟!
ويعود مصطلح الأكاديمية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427- 347 ق.م) إذ كان أول من أطلق اسم (اكاديموس) بمعنى المكان الذي كان يلقي فيه محاضراته الفلسفية ويعلم فيه تلاميذه العلوم العقلية المجردة كالرياضيات والفلك والهندسة والتربية والسياسة … الخ، تمييزا له عن أماكن وأنماط التعليم السفسطائي الابتدائي، والأكاديمية تعني بيت التعليم العقلي والحر والتأمل الفلسفي المجرد والمعرفة الرفيعة التي ليس لها من غاية أخرى غير البحث عن الحقيقة.
وقد ارتبط نمو العلم وازدهاره بالحرية كمعطى إنساني وحق فطري للكائن الاجتماعي، إذ أن الحرية هي الشيء الوحيد الذي يستحيل إنكاره، وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في القرون الوسطى تتمتع بقدر كبير من الحرية والاستقلال الأكاديمي، والحرية هي من التقاليد الراسخة التي ورثتها الجامعات الحديثة المعاصرة ونعني بالاستقلال الأكاديمي حرية الجامعات في اختيار نظامها التعليمي وبرامجها ومناهجها وطرائق التدريس واختيار هيئة التدريس فيها، وعدم وضع قيود على ما تدرسه الجامعة وما يقوله أو ينشره أو يعبر عنه أساتذتها من الأفكار والآراء العلمية وغير العلمية.
والأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، دور الأستاذ الجامعي دور الباحث العلمي، دور المثقف العام ، دور المشرف العلمي (أو حارس البوابة) ودور الخبير المتخصص بما تشتمل عليه تلك الأدوار من قيم مهنية أكاديمية وأخلاقية منها: النزاهة والرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد وبهذا المعنى والأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة ونقدها وإنتاجها بإتباع مناهج وأدوات علمية محددة، بهدف الكشف عن الحقائق وبحث الأشياء والمشكلات بموضوعية وتجرد وحيادية تامة.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد