القرآن الكريم في ميزان أدب سيد قطب … بقلم: إيمان اسماعيل
أعود لسؤال نجيب محفوظ واسأل قطب ألم يخطر بباله أن يتجرد في بحثه ويحدد نوع كلام النص بحرية يستحقها بحثه القوي غير المسبوق في فهم وتحليل النص؟
بقلم: إيمان اسماعيل

فأما السؤال فإنك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني في القرآن وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شئ آخر. أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟ ” هذا السؤال سأله الأديب الكبير نجيب محفوظ في مقال لسيد قطب عندما قرأ كتابه “التصوير الفني في القرآن الكريم”، وهو سؤال يراودني انا أيضا منذ فترة. وقد أجاب سيد قطب سؤال محفوظ بإجابة مصبوغة بصبغة دينية، قرأت الكتاب، وفهمت منه أنني أمام نص أدبي من الطراز الفريد، فرأيت أن تفنيد ما قدمه سيد قطب وعرضه على الموازين الأدبية أمر لا مفر منه.

في البداية أريد أن أتعرف معكم على معنى التصوير الفني؟ عرفه قطب بامتياز فأغنى قراءه عن البحث بعيدا، قال فيه: “التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر عن الصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الانساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة…” (قطب، ص 36)
وذهب كثر غير قطب لتعريف التصوير الفني والصورة في القرآن، أشار الجاحظ (776-868) في كتابه الحيوان إلى مفهوم التصوير الفني قائلا “إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير” (الجاحظ، ص 13)، أما عبد القاهر الجرجاني (1009- 1078) في كتابه دلائل الإعجاز فقال “وأعلم أن قولنا صورة إنما هو تمثيل وقياس نقوله بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا” (الجرجاني، ص508)، أما عزالدين اسماعيل (1929- 2007) في كتاب التفسير النفسي للأدب فذهب إلى أن الصورة ” تركيبة عقلية تنتمي في جوهرها إلى عالم الفكرة” (إسماعيل، ص58) إذا فجميع التعريفات السابقة تشير إلى أن التصوير الفني هو إبراز الصور والمفاهيم المجردة، بألفاظ وتراكيب لغوية لخلق عالم يرى فيه القارئ الأماكن والشخصيات والأحداث بصورة حية، باختصار هو خلق عالم خيالي تتجسد فيه الكلمات وكأنها صورة من عمل سينمائي مصور. وأرى أن أشارة عزالدين إسماعيل إلى معنى التصوير هي أشمل وأعم من قول الجاحظ والجرجاني اللذان حددا قوليهما في الشعر، بينما ذهب إسماعيل إلى ما هو أبعد، إلى كل نص أدبي حمل في تراكيبه تصويرا.
وهنا أنتقل إلى آليات التصوير الفني في النص الأدبي لفهم الصورة التي يقدمها نص ما نحتاج لوضع آليات واضحة لتأويل وفهم معناها، ويمكن تلخيصها في تحديد وتحليل وتأويل مكونات الصورة من لفظ ومعنى. عودة لسيد قطب ونظريته حول التصوير الفني في القرآن، نجد أنه حدد آليات أكثر وضوحا وأدق في فهم الصورة في القرآن، وأفرد صفحات كتابه لشرح أمثلة عديدة من النص القرآني تطبيقاً لما وصل إليه. حدد قطب بعض صور التصوير في القرآن من خلال ظاهرة التخييل الحسي والتجسيم، وشرح التخييل الحسي قائلا “حركة حية مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان، أو المضمرة في الوجدان” (قطب، ص 72)،
أما التجسيم فعرفه ” تجسيم المعنويات المجردة، وابرازها أجساما أو محسوسات على العموم” (قطب، ص72)، ومن أمثلة الظاهرتين: التخييل الحسي

- وللتخييل الحسي في القرآن أشكال وألوان مختلفة ذكر منها قطب التشخيص قوله” ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يس 40 حيث أضفى الحياة على المادة الجامدة فأعطاها سمات إنسانية من إنفعالات وحركة وملاحقة
- الحركة أو الصورة المتحركة كما في آية “فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ” آل عمران 185 لفظ زحزحة يوضع الحركة التي ترسمها الآية
- صورة الحالة العقلية أو الذهنية وأمثلتها “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها” محمد 24
- صورة حسية كما في آية ” أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” يونس 27
- تجسيم المعنوي بالمحسوس كوصف العذاب بغليظ كما في آية ” وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ” إبراهيم 17
ثم انتقل الكتاب لرحلة أوسع بحديثه عن التناسق الفني في القرآن الكريم، وذكر قطب أن التناسق له ألوان مختلفة منها تخير الألفاظ ثم نظمها في نسق خاص وكذلك أشار إلى اللون الموسيقي الناتج عن تخير هذه الألفاظ، ومنها أيضا إختيار الفاصلة المناسبة لكل آية، ومنها التسلسل المعنوي بين أغراض الآية والإنتقال من غرض إلى غرض والتدرج في هذا الانتقال.
يرى قطب أن هذا الجمع أعفى القرآن من القيود ومنحه حرية مطلقة في التعبير وأتفق معه في قوله هذا، ولكن يبقى النسق الداخلي للقرآن في كثير من آياته وسوره يجمع الكثير من خصائص الشعر كالإلتزام بالفاصلة المتقاربة الموزونة، فالقرآن استخدم التقفي في نسقه ونظمه. وهذا الباب في رأيي أكثر الأبواب غرابة في الكتاب

وكلام قطب فيما سبق ليس بجديد وسبقه غيره إليه في الحديث عن النسق القرآني، لكن ما أضافه هو في هذا الباب كان التعمق في تحليل التعبير للتعبير والتعبير للصورة، وعن قدرة اللفظ الواحد على رسم صورة كاملة مثل “إثاقلتم” و”ليبطئن”، وكذلك تقابل الصور كما في “وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ” الشورى 29 وفي هذا الباب لا يمكن تجاوز حديث قطب عن موسيقى القرآن عندما قال “لكن العرب لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر، يوم قالوا عن هذا النسق أنه شعر، لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع، وسحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ اسماعهم بما فيه من إيقاع جميل وتلك خصائص الشعر الاساسية اذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل، على أن النسق القرآني جمع بين مزايا النثر والشعر جميعا” (قطب، ص 102)
ويرى قطب أن هذا الجمع أعفى القرآن من القيود ومنحه حرية مطلقة في التعبير وأتفق معه في قوله هذا، ولكن يبقى النسق الداخلي للقرآن في كثير من آياته وسوره يجمع الكثير من خصائص الشعر كالإلتزام بالفاصلة المتقاربة الموزونة، فالقرآن استخدم التقفي في نسقه ونظمه. وهذا الباب في رأيي أكثر الأبواب غرابة في الكتاب، حيث حاول قطب جاهداً فصل نظم وتناسق النص القرآني في الكثير من سوره، خاصة قصارها، عن نظم الشعر، لكن كلما استفاض في الشرح وصلتني نفس النتائج، أننا أمام نصوص مقفاه وموزونة وبموسيقاها الداخلية التي استفاض قطب في شرحها وإبراز مواطن جمالها وتخير ألفاظها، لابد أن تمر تحت مجهر الشعر، وحتى الآيات الطويلة التي تخرج عن إطار النظم الشعري إلى النثر الأدبي فهي أيضا تحتاج لنظرة أعمق.
والسؤال الأول الذي يخطر ببالي بشانها، هل يمكن التعامل مع نص أدبي أنه حقيقة ثابتة؟ ربما يساعدنا تفصيل قطب الحديث عن “القصة في القرآن ” التي أعطاها ما تبقى من الكتاب، والحقيقة أن هذا الجزء من الكتاب يحتاج لمقال منفصل للحديث عنه. وأعود لسؤال نجيب محفوظ واسأل قطب ألم يخطر بباله أن يتجرد في بحثه ويحدد نوع كلام النص بحرية يستحقها بحثه القوي غير المسبوق في فهم وتحليل النص؟
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد