الكاتب والنقد والتأويل.. قراءة في قصة أيزموف القصيرة «الشاعر الخالد»… بقلم: شادي الشربيني
بقلم: شادي الشربيني

أغلبنا يعرف تلك القصة الشهيرة حول مسابقة لاختيار الأفضل في تقليد “تشارلي شابلن”، والتي شارك فيها شابلن نفسه متحفيا، وكانت المفارقة أنه حصل على المرتبة الثانية! ويقال إن الذي فاز بالمرتبة الأولى ابن رئيس لجنة المسابقة!

القصة كما يتم إيرادها على هذا النحو، تبدو كدلالة على تفشي المحسوبية والفساد. حقيقة لست متأكد من مدى دقتها وصدقها، لكن قصة أيزموف القصيرة التي نتناولها هنا تبدوا في شكلها قريبة للغاية من قصة شابلن السالفة.

أيزاك أزيموف (1920 – 1992) كاتب أمريكي روسي الأصل، من أهم رواد الخيال العلمي، أصدر قرابة خمسمائة كتاب؛ من أهمها سلسلة روايات “القاعدة”، والمجموعة القصصية “أنا، روبوت” التي صاغ فيها قوانين الروبوتات الشهيرة، وقد تحولت العديد من كتاباته إلى أعمال مرئية. استطاع أزيموف الجمع بين الخيال العلمي والفلسفة والدقة العلمية التاريخية، وشكل مع “روبرت أ. هينلين” و”أرثر سي كلارك” ما يُعرف بـ “الثلاثة الكبار في أدب الخيال العلمي“.
بالفعل تبدو قصة أزيموف القصيرة “الشاعر الخالد” كشكل من أشكال أدب الخيال العلمي الذي تخصص وتفوق فيه أيزاك؛ فهي تتضمن استدعاء شخصيات وعقول عبقرية من قلب التاريخ إلى الحاضر من خلال السفر عبر الزمن، فيصرح عالم الطبيعة د. فينيس ويلش لمدرس اللغة الإنجليزية الشاب سكوت روبرتسون، في جلسة على البار في حفلة “الكريسماس” أنه استطاع أن يحضر “أرشميدس” و”جاليليو” و”نيوتن” إلى زماننا. لكن أعتقد أن عقدة القصة وما تشير إليه ليست مما يمت إلى ذلك النوع من الأدب القصصي الذي يعتمد ويقوم على العلم وآفاقه ونظرياته وما تحمله تطبيقاته من انعكاسات وتأثيرات عميقة على حياتنا. فموضوع القصة يتناول في سطور وأحداث شديدة التلخيص والتركيز مسألة العبقريات في التاريخ الإنساني؛ فهل العبقرية شيء يعلو فوق الزمن وليس رهين بظرف تاريخي معين؟
بعد أن يأس د.وليش من أكبر العقول في الطبيعة والعلم الفيزيائي عبر التاريخ، وقع اختياره على شكسبير، مرجحا أن مثل تلك العبقريات الأدبية؛ التي تكشف عن معرفة جيدة للناس، تملك عقول مرنة ومتكاملة تناسب كل زمان ومكان. فماذا كانت النتيجة؟
لم يتمالك روبرتسون – مدرس اللغة الإنجليزية – نفسه عندما سمع هذا الأمر من د.وليش، فهو يُدرس مقرر من أدب شكسبير في الجامعة. لكن دهشته ومفاجأته بلغت مداها عندما عرف أن شكسبير شخصيا قد حضر مقرره هذا، وبالفعل تذكر رجل حضر فصله الدراسي تنطبق عليه مواصفات شكسبير كما رواها د. وليش. القرار الشكسبيري بالحضور؛ بدأ بذهوله عندما عرف أن الناس كتبوا مجلدات تلو المجلدات من الشروح على مسرحياته، فهو لم يتوقع هذه المعاملة، وعندما أطلع على بعض تلك الكتابات والشروح جرفه سيل المعاني الذي يُعتصر من الكلمات في خمسة قرون! كان شكسبير حريصا على معرفة حكم الأجيال اللاحقة عليه، لذلك درس بجد، وهكذا ألتحق بأحد مقررات دراسة أدبه.
لكن خاتمة القصة كانت الأكثر مفاجأة وأدهشًا، فقد أمتحن شكسبير في نهاية المقرر وكانت الإهانة فوق الاحتمال، تفوق بمراحل الإهانة التي تلقها شابلن عندما شارك في مسابقة تقليده!
ما المعنى وراء هذا الطرح الذي أتى به أزيموف في قصته القصيرة تلك؟

يذكر الأستاذ أحمد تركي – المترجم للقصة – أن أزيموف قد كتبها بعدما رأى طرق تعامل الأكاديميين الأدبيين مع كتاباته. فقد كتب هؤلاء عن الخيال العلمي؛ ومنها قصص له شخصيًا، أمورًا لم يفهمها أزيموف مُطلقًا. وهكذا كتب قصة «الشاعر الخالد» ليبرز أولا اعجابه بـ “ويليام شكسبير“، ثم سخريته من التفسيرات والمناهج الحديثة التي بُنيت على أعماله الأدبية، ليقول إن شكسبير نفسه ربما لن يفهم ما يتحدث عنه هؤلاء الأكاديميون والنُقاد.
الموضوع في تقديري يشير إلى العلاقة بين النص وكاتبه، أو ربما خالقه. فهل مسموح أن نقرأ في النص أمورًا لم يقصدها أو يعنيها الكاتب والمؤلف؟ هل النص ملكية خالصة لصانعه فلا يجوز أن نقرأ فيه ما يتجاوز مقاصده؟ أم بمجرد أن يخرج النص إلى المتلقي؛ يمتلكه هذا المتلقي والقارئ، وتصبح أي قراءة يراها مشروعة ومبررة؟
يستحضر ما سبق أمامي أمرين من الذاكرة القريبة بخصوص النص والكاتب والقارئ والدلالة.
الأول بعد الانتهاء من رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ في أحد مرات ماراثون القراءة الذي يقيم فاعلياته بشكل دوري منظمة بيت الحياة الفلسفية الثقافية. ففي حلقة مناقشة الرواية قدمت قراءة بدت عجيبة لشخصية اللص “سعيد مهران” ومحيطه الذي تحرك فيه، فمع أن القصة مستلهمة ومبنية على أحداث حقيقية جرت في خمسينيات القرن الفائت، إلا أني ذهبت إلى أن مهران لا يشير إلى فرد، بل إلى تيار سياسي اجتماعي كان صاعد ومؤثر في تلك الفترة، وأن مطالب هذا التيار الثورية وتبريره للعنف كوسيلة تجد شرعيتها في عدالة مطالبها، ينعكس في أزمة مستحكمة على المستوى الداخلي النفسي وأخرى مع الجماهير التي يرى هذا التيار أنه يعمل من أجلها وثالثة مع الدولة التي يصطدم مع أجهزتها الأمنية. ساعتها لم تلق تلك القراءة قبول أو صدى عند الأصدقاء في المناقشة، وأعتقد لأنها بدت لهم، وعندهم كل الحق في ذلك، أنها تذهب وتسافر بعيدا عن النص ودلالاته. لكني – وأنا أعمل أن أكون دائما منفتح على النقد والمراجعة – مازالت أرى وجاهة في تلك القراءة، ومازالت هي الأقرب إلى فهمي والأكثر قدرة في تقديري على تلمس أبعاد الرواية.
أما الثاني فيتعلق بزميلة تعرفت عليها منذ مدة قصيرة، حدثتني عن شغفها وممارستها للفن وأنها فضلت التفرغ له على العمل بشهادة تخرجها في تخصص علمي بارز ومطلوب. وفي مرة تلتها عرضت على أحد أعملها الفنية التي استلهمتها من قصة حقيقية نشرت في الصحافة، قصة أصبح فيها أحد المدانين بجريمة قتل في الولايات المتحدة رمزا وبطلا قوميا. راحت تشرح لي عملها ودلالات ومعاني كل جانب وتفصيله في لوحتها، لكنها توقفت في كلامها عند أحد العلامات في عملها وقالت إنها لا تعرف بالضبط لماذا أضافته، ورفعت عينها وهي توضح أنه يحدث كثيرا أنها تجد نفسها تضيف أشياء غير مدركة ما تشير إليه أو ما تعنيه بالضبط، وبعد ذلك تتأمل وتسعى إلى فهم رمزية ما أضافته وصنعته بيديها! أثار هذا الأمر عندي اهتمام وفضول كبير، فهو واقعة حية تشير إلى أن الفنان والأديب يدخل في انتاجه طاقات باطنية وتيارات لاواعية بشكل واسع وعميق، وذلك ضروري جدا جدا في اعمال الفن والأدب، لأن خطابهم موجه بالأساس إلى مساحة الشعور والإحساس والتذوق والإدراك الذاتي قبل العقل المنطقي الموضوعي.
ربما كان من حق القارئ والمتلقي أن تكون له مساحته الخاصة والحرة في القراءة والتأويل وإعادة انتاج الاعمال الأدبية والفنية، وهو ليس مطالب بالالتزام والالزام بالرسائل الحرفية وبالمقاصد المباشرة لصانع وخالق العمل. كما أن الدرس والتحليل النقدي بمختلف مدارسه واتجاهاته وخلفياته الفلسفية، قادر على أن يكشف لصاحب العمل ما كان غامض عليه هو نفسه أو كشف أبعاد وأفاق لعمله لم يكن يراها ويدركها عقله الواعي.
يبدو أن خصوبة العقل وحركته تنتج من أفقين للجدل، أفق يتعلق بجدل العقل مع الطبيعة ومع ما يطرح نفسه كموضوع مفارق، وأفق يتعلق بجدل هذا العقل مع ناتجه نفسه، حيث يتم تأمل هذا الناتج وفهمه ودراسته في حركة تسترد فيها الذات نفسها بعد أن تخارجت كموضوع. بل إن اتجاه المثالية المطلقة في الفلسفة يرى أن حتى الطبيعة المحسوسة ليس سوى انتاج للذات التي لا تدرك نفسها إلا من خلال التخارج والاغتراب ثم الحركة لتجاوز هذا الاغتراب المؤلم واللازم في آن لولادة الوعي وتجلي العقل والروح.
تقديري يبقى أن أفق القراءة والتأويل والنقد هو دائما أكثر انفتحا وأوسع مما يتصور وبتخيل صانع العمل وخالقه، ومن هنا خصوبة وثراء الأدب والفن وخلودهم. يمكن القول إن أي انتاج علمي جديد، عندما يحظى بالاعتراف والتسليم، فهو يجُب ما قبله بشكل كبير، فإما ينقضه تماما أو يحتويه بطريقة تجعل العودة إلى هذا الماقبل في ذاته إصرار على الخطأ! لذلك فالعلوم الطبيعية علوم تراكمية، من الصعب جدا أن ترى فيها السابق يزاحم اللاحق. أما التأويل والنقد في الأدب والفن، دائما أكثر انفتحا وأوسع أفقا، حتى أن العمل الأدبي والفني والفكري يستفز أجيال وراء أجيل للعودة إليه قراءةً واستيعابًا وفهمًا. لذلك فإن التجاور يغلب عادة التراكم في مجال وأفق الإنسانيات، فيمكن أن نجد أن السابق كثيرا ما يلهم اللاحق، لكن يصعب ويندر جدا أن نرى حكم بات للحديث والمعاصر بنهاية أو انتفاء أي سابق أو قديم.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
4 comments