الله في نفس الإنسان حين يجدها… عبد العاطي طلبة… 2

عبد العاطي طلبه

من الجامعة الأزهرية

d8b9d8a8d8af-d8a7d984d8b9d8a7d8b7d98a-d8b7d984d8a8d8a9-3472480530-e1724016000835 الله في نفس الإنسان حين يجدها... عبد العاطي طلبة... 2

(2)

ذاكَ هو أنت، أو غسق الأنا

لم تفارقْ نفسي مُلَاحقَةَ الإلهيّ في كل شيءٍ، فطلبتُ اللهَ في كُلٍّ، ولم أنزع أبدًا – على تَقَلُّبِي بين المذاهب – إلى جحودٍ به. طلبتُه في مدوّنات الكلام والفرق، فألفيتُه إلهًا عقليًّا جافًّا وجامدًا تتنازعه الفرقُ وتتناحر عليه، فما قبلتُه، وقلتُ: لا أحبّ الجامدين. وطلبتُه في مدونات الفقه، فظهر ربًّا ماسخًا يريد التسلُّط على كلِّ شيء في حياتي وحياة الناس، فأشحتُ عنه وقلتُ: لا أحب المتسلِّطِين. وطلبتُه في مدوّنات التصوّف الطُّرُقِيّ، فوجدتُ أصحابَهُ يُلْزِمُون السَّالِكَ مسالكَ، ويُلبسونَه ملابسَ، ويقمعونه مقامعَ، فما أسلمتُ قيادي، وانطردتُ لَمَّا اعترضتُ، وقلتُ: لستُ أحب الخرافة. وطلبتُه في أدبيَّات الإسلام السياسيّ، فوجدتُ إلهًا شائهًا؛ مَلِكًا توَّاقًا إلى السُّلطة، والاستبداد بالحكم، والتحكُّم في رقاب الناس، فقلتُ: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا» (النمل: 34). طلبتُه في الأشياء من حولي، وطفقتُ عنه مسحًا بالآثار، فما كاد يظهر إليّ إلا بالقدر الذي يتخفّى فيه؛ وعرفتُ أنَّ الإيمان الذي يُتوصَّل إليه بغيره ليس إيمانًا، وعرفتُ أنَّ الإنكارَ الذي يكون بالآثار ليس إنكارًا، بل هو إيمان، فكيف يطمئنُّ إيمانٌ بالأسباب شديدةِ الخفاء، وكيف يستقيمُ إنكارٌ من شدّة الظهور؟!

  ما وجدتُ الله إلا في نفسي، وما رأيتُه حقًّا إلا عندما رأيتُني حقًّا، فالدليل عليه هو، والطريق به إليه، ومن استعانَ به أعانه، ومن طلبه دون وساطة تجلّى عليه وإليه. عندما نتَّصل به بهذه الصورة في أنفُسِنا؛ ندرك عن طريق تجربته واختباره أنّه إلهُ العالَمين حقًّا وصدقًا، وأنّه رحمان تتَّسع رحمتُه كلَّ شيء في الدنيا والآخرة؛ بل ولعلَّها تتسع للمُنكِر قبل المؤمن، وللجاحد والمعاند قبل المُذعن، ونعرف أن كلَّ تصوير له حدّ، وكلَّ عقيدة فيه تحييز، وكلَّ مذهب إليه مقطوع الصلة، فهو لا يُحَدّ، ولا يحويه مذهب أو اعتقاد. 

  إدراك الله الرحمانيّ في الذَّات يُذَوِّبُ النفس ويصْهرُها في رأفةٍ، ويجعلها تقف موقفًا منغمسًا في الرحمة تجاه الخلق المتكاثر بالله، فالمخلوقات على تنوُّعها وتدرُّجها وترتُّبها تظهر لعارف الله في نفسِه على أنّها آثارُ الله الإلهيّة المباشرة، وعلى أنّها كلمات الله وأنفاسه في العالَم. إنّ الله – في مفهوم المتصوفة – هو الكنز المخفيّ الذي ظهر للعالَم في العالَم بالعالَم. استُلْهِمَ مفهومُ الكنز المخفيّ من حديث قدسيّ يقول: «كنتُ كنزًا لم أُعْرَف، فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ، وتعرَّفتُ إليهم فعرفوني». تكاثَر الوجودُ الواحدُ في مخلوقاته العديدة إذن، وعمَّت أنفاسُه التجديديّة المُتَّصِلَة الكونَ كلّه. ورغم أنَّ الصوفيّة يرون الطُرُقَ إلى الله على عدد أنفاس الخلائق كما يجري على ألسنتهم، إلّا أنَّ من أقصر طرقه إليه وأشدّها لصوقًا بالإنسان استبطانُ الذّات ومعرفة الله كامنًا فيها، يداخلها فيُخارجُها، يُباطنِها ويظاهرها، ويفترق عنها إذ يتّصل بها. 

  وجدتُ الرفاعيَّ يرمي إلى ذلك في مشروعه الفكري؛ أنْ يجدَ الإنسانُ نفسَه، وأن يعرف اللهَ فيها، وأن يسلك بالله سلوكًا رحمانيًّا في العالَم، ولا يتحقّق هذا إلّا بفهم بديل عن الدين حاول إبرازَ معالمِه، ووضع أيدينا على مفهوم الرّحمة كمفهوم مركزيّ لفهم الدين، ومفهوم مفتاحيّ لمعالجة القرآن والتّعاطي معه. يقول: «رأيتُ الرحمةَ تمثّل مفتاحَ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن، فقد اتخذت الرحمةُ فضاءً واسعًا في القرآنِ الكريم لم تتخذه في الكتابِ المقدّس وغيرِه من نصوص الأديان، إذ وردت بصيغٍ متنوّعة في القرآن تصرّح بشمولِها كلَّ شَيْءٍ وعدمِ خروجِ أيّ شَيْءٍ عنها، وهو ما تحدّثتْ به آياتٌ متعددةٌ»، بل وإنِ احتُسِبَت البسملةُ آيةً في كلِّ سورة من سور القرآن كما يرى جماعةٌ من المفسِّرين، فهذا يعني أنَّها «تبوح بلغة الرحمة التي يتأطَّرُ بها المضمونُ الكليُّ [لِسُوَر القرآن]، و[أن] معناها يتنوّع بتنوّع مقاصد السور وما ترمِي إليه مفاهيمُها… إنّها حاكمة على كلِّ المفاهيم التي تتحدَّث عنها آياتُ [أيّ سورة]… إنّ افتتاحَ كلِّ سورة بالبسملةِ يعني أن الرحمةَ الناطقةَ بها البسملةُ مهيمنةٌ على المدلول العامّ للسورة».

  يؤسِّس الرفاعي فهمه للدين إذن على «إعادةِ تعريف الإنسان، وإعادةِ تعريف الدين، وإعادةِ قراءة نصوصه في أفق العصر، وإعادةِ تحديد وظيفته في الحياة، والكشف عمَّا يمكن أن يقدّمَه الدينُ للإنسان من احتياجاتٍ روحيَّة وأخلاقية وجمالية، وما يترقبه الإنسانُ من عواطفٍ ورفقٍ وشفقة ورحمة يمنحها الدينُ للحياة، وما يُلهِمَه للروح من سكينة، وللقلب من طمأنينة». وفي ضوء ذلك يعيد تعريفَه الخاصّ للدين «بوصفه حياةً في أُفق المعنى؛ تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية».   

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات