المحبشي يغرق في بحر بين الإسكندرية وأمستردام .. بقلم: د. قاسم المحبشي

في لحظة انكشاف المعنى واختبار المفاهيم

( اللغة والثقافة يحجبان معاني الكلمات أكثر من الجغرافيا والسياسة) ق.م.

خص الدكتور قاسم المحبشي مجلة تفكير بتفاصيل زيارته لأمستردام التي ننشرها تباعا في المجلة.

بقلم: د. قاسم المحبشي

أستاذ فلسفة الحضارة

اليمن

 المحبشي يغرق في بحر بين الإسكندرية وأمستردام .. بقلم: د. قاسم المحبشي

            يحدث أحيانًا أن تتسلل بعض الكلمات والمفاهيم والعبارات إلى أذهاننا دون وعي منًا لاسيما نحن الذين درسنا فلسفة التاريخ والحضارة وتلقفنا معظم المفاهيم التي نستخدمها من سياقات ثقافية واجتماعية غربية مغايرة لم نعشها قط. وربما وجدنا التحليل النفسي ما يشبع ويروى لفهم هذه الظاهرة. 

إذ أن عالم التحليل النفسي سيجموند فرويد، في كتابه المهم، تفسير الأحلام قد أكد بأن كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال وأحلام وأفكار وأوهام وعبارات وكلام يمكن فهمه وتفسيره بإعادته إلى أسبابه والأسباب أربعة: (قريبة وبعيدة وظاهرة وخفية) حتى زلات اللسان لها معنى حينما تصدر عن الإنسان دون إرادته. 

والحلم سر الشخصية بحسب اريك فروم. لا يحلم الكائن الحالم إلا بالأشياء الحيوية التي عجز عن إشباعها في الواقع. فالجائع لا يحلم إلا بالخبز والعطشان لا يحلم بما يروي عطشه والمسجون يحلم بالحرية والمحصور يحلم بالحمام والمحروم يحلم بموضوع حرمانه والخائف يحلم بالأمان والحزين يحلم بموضوعات حزنه والمظلوم يحلم بالعدل والمقهور يحلم بموت قاهره ..الخ. وهكذا هي الأحلام لا يمكن تفسيرها وفهمها إلا بما قبلها وفي سياق حاضرها الحي الفوري المباشر. 

في ذات السياق يمكن لي ولكم فهم معنى كلمة (فيما يشبه) التي أدمنت كتابتها في عناوين مقالاتي دون وعي في كثير من الأحيان إذ ما أن أبدأ بكتابة أي شيء يتصل بالحياة العامة في مجتمعنا العربي الإسلامي حتى تقفز تلك اللازمة (فيما شبه) مثل البسملة. 

في دراستي لفلسفة التاريخ الغربية استوقفني مفهوم التقدم التاريخي إذ لاحظت كيف أفضت التحولات التاريخية التي شاهدتها أوروبا منذ بدء عصر النهضة، إلى تبلور مفهوم جديد لمعنى التاريخ وحركته وتطوره، هو مفهوم التقدم الإنساني الذي لا حدود له ويرى (تشارلز ريد) “انه ليس هناك فكرة اخطر من فكرة التقدم مارست تأثيراً كبيرا في الثقافة الحديثة أو من المرجح إن تمارس تأثيراً اكبر منها في المستقبل”.

كتبت فيما يشبه الفرح وفيما يشبه التهنئة وفيما يشبه الاحتفاء وفيما يشبه الاعتذار وفيما يشبه الحياة وفيما يشبه الوطن وفيما يشبه الأمل وفيما يشبه الحرية وفيما يشبه الشعر وفيما يشبه الحب وفيما يشبه الحلم وفيما يشبه التفكير وفيما يشبه الحزن وفيما يشبه المؤسسات وفيما يشبه الجامعة وفيما يشبه الجودة وفيما يشبه المدينة وفيما يشبه الثورة وفيما يشبه الدولة وفيما يشبه الثقافة وفيما يشبه البشر فيما يشبه الجيوش وفيما يشبه الصلاة وفيما يشبه الحرب وفيما يشبه الثقة وفيما يشبه الصدق وفيما يشبه العلم وفيما يشبه الحقيقة.. الخ. 

نعم كتبتها في عناوين مقالاتي المنشورة. ولم أكون على دراية واعية بحضورها الكثيف بهذا النحو . وربما يعود الفضل لأخي العزيز، أستاذ صالح أبو مهيب الذي نبهني إلى تكرارها بشكل مستفز فيما معظم ما أكتبه وأنشره في صفحتي. 

سؤال أخي صالح 

ذات يوم سألني صالح أخي أبو مهيب: لماذا تكتب كلمة (فيما يشبه) بعناوين منشوراتك ومقالاتك؟ تلعثمت ولم أجد جوابًا منطقيًا حينها وأتذكر أنني قلت له: لا أعرف لماذا علقت بذهني هذه اللازمة اللغوية؟ 

وحينما خلوت بنفسي أخذت أتأمل في الأمر فأخذتني الذاكرة إلى زمن مضى ربما لعقدين من الزمن منذ بدأت استخدم تلك العبارة دون أن أكون واعيًا بها. وهذا ما جعلني أتفحص الدلالة في هذا العبارة العالقة بذهني. إنها يا سادة نابعة من إحساس عميق بان تلك الحياة التي نعيشها في هذه الأصقاع المسممة بالبؤس والخراب والظلام والخوف والجريمة ليست حياة طبيعية للكائن الإنساني. أنها فقط فيما يشبه الحياة. وجودنا فيما يشبه الوجود أحلامنا فيما يشبه الأحلام أفراحنا فيما يشبه الأفراح، لاشى طبيعي وراسخ ويبعث على الاطمئنان والثقة والحلم والأمان في هذا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الراهنة.

إننا نعيش في حالة وجودية عبثية تعي قوة التمييز والحكم. وتلك هي السمة العامة التي تتسم بها المجتمعات التي تضيق فيها حدود الحرية (حرية الضمير والفكر والاعتقاد والعمل) إذ يندر أن تجد فيها أشخاص طبيعيين يتصرفون على طبيعتهم ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجيتهم الحقيقية، بل تسود ثقافة وقيم ازدواجية الشخصية بين الظاهر والباطن وتزدهر قيم التكلف والتزلف والنفاق والمراءاة واللف والدوران والكذب والأحقاد والضغائن والخيانات والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم والتفاهم والفصام وسرعة التقلب من حال إلى حال والجمع بين المتناقضات دون الشعور بالتناقض وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم، واختلاط المعايير وغياب الحدود بين الغث والسمين بين الجيد والردى

ويمكنكم تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياتكم وتجاربكم الشخصية. أتمنى أنني استطعت أن أجيب على السؤال ولو بالحد الأدنى. في ذات السياق جاءت فكرة كتاب فيما يُشبه الانتظار بوصفها فكرة محملة بكنانة شاملة من التمني والأمل والترقب والصبر والرجاء وحينما يعجز الواقع عن إشباع حاجات الذات الملحة تضطر أخيرا إلى الحلم والأمل.

d8a7d984d985d8add8a8d8b4d98a-d988d8b9d985d8a7d8af-d8b9d8a8d8af-d8a7d984d985d8b3d98ad8ad المحبشي يغرق في بحر بين الإسكندرية وأمستردام .. بقلم: د. قاسم المحبشي

من الإسكندرية إلى أمستردام: 

تداعت تلك الخاطرة إلى ذهني وأنا في الطابق الحادي عشر من المبنى الرئيسي لجامعة أمستردام الحرة أو VU University Amsterdam التي أسسها القس أبراهام كايبر سنة 1880 في الضاحية الجنوبية للمدينة. 

كنت بمعية الصديق العزيز الدكتور عماد عبدالمسيح أستاذ الفلسفة واللاهوت فيها. حمدت الله وشكرته أنه منحني تلك الفرصة السانحة لزيارة دولة أوروبية تعد بحق خلاصة المعنى للحضارة الإنسانية الحديثة. أتيتها بخارطة مفاهيمية مجردة لم تسنح لي الفرصة باختبارها والتحقق من صدقها أو زيفها؟ لا في مجتمعنا العربي الإسلامي الذي وفدت إليه من خارجها إذ نرى أن هناك مشكلة حقيقية في نمط تلقفنا لمعظم المفاهيم الحداثية وتحولاتها وتعريفها وتأويلها وسياقات دلالاتها وهذا ناجم عن اختلاف السياق الثقافي التاريخي لمجتمعنا عن سياق المجتمع الغربي الحديث الذي صاغ تلك المفاهيم وعرفها ونشرها وتقبلها وفهمها بعدها مصطلحات تنتمي إلى فضاءه الابيسمولوجي  الغربي أو إلى باردايم محدد، أي نموذج تصوري وثقافي متكامل خاص بالحضارة الأوروبية.

إذ أنه يصعب التوافر على فهم عميق لمعاني المفهوم، فالمفاهيم المجردة بمعزل عن السياقات التاريخية التي أنتجتها. 

التاريخ وفلسفة التقدم

ففي دراستي لفلسفة التاريخ الغربية استوقفني مفهوم التقدم التاريخي إذ لاحظت كيف أفضت التحولات التاريخية التي شاهدتها أوروبا منذ بدء عصر النهضة، إلى تبلور مفهوم جديد لمعنى التاريخ وحركته وتطوره، هو مفهوم التقدم الإنساني الذي لا حدود له ويرى (تشارلز ريد) “انه ليس هناك فكرة اخطر من فكرة التقدم مارست تأثيراً كبيرا في الثقافة الحديثة أو من المرجح إن تمارس تأثيراً اكبر منها في المستقبل”.

ونحن هنا سوف نسلط الضوء للكشف عن البدايات الأولى لنشؤ فلسفة التقدم وتبلورها في القرن الثامن عشر؛ فكيف ظهرت فكرة التقدم ومن أول القائلين بها، وكيف جرت صياغتها وما هي دلالاتها وما هي نتائجها؟

في الواقع لم تنشأ فلسفة التقدم في الفراغ، بل نشأت في السياق التاريخي الحي لحركة المجتمع وتطوره، على الصعد الحضارية، والثقافية والمدنية كافة، وبهذا المعنى نفهم قول صاحب كتاب “فكرة التقدم” “انه ما كان لنظرية التقدم الإنساني أن تتوطد بالحجج المجردة، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل الذي يقدمه التاريخ نفسه”. 

أن الحاجة إلى رؤية فلسفية جديدة كانت تستمد مقوماتها وحوافزها مما كان يجري في العملية التاريخية في الحاضر الأوروبي من متغيرات وأحداث تقدمية وبما كان يبشر بها المستقبل هناك من آفاق ابعد غوراً أو أكثر تقدماً، وكانت قوى البرجوازية الصاعدة، ترى في التقدم مسيرتها وترسم عليه مستقبلها، إذ أخذت فكرة التقدم تنتشر وتشيع في نسيج الثقافة الأوروبية عقيدة عامة وفلسفة شاملة في ذلك العصر. 

وهذا ما يراه احمد محمود صبحي بقوله: “إن نظرية التقدم لم تكن مجرد أراء يرددها مفكرون وإنما كانت اقتناعاً عاما لدى أهل ذلك العصر”  

وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من تأكيد قيمة الإنسان وقدرته على صناعة التاريخ، فأنها في بدء الأمر قد اكتسبت بعدين أساسين:- 

البعد الأول يتمثل في نقد كل ما يحول دون انطلاقة الإنسان ويكبل قواه وهذا ما شهده القرن السابع عشر، الذي يعد قرن تحطيم الأوثان، إذ كان ملتون في ملحمة “الفردوس المفقود” يهاجم بلا هوادة المؤسسات التقليدية، ويرى “أن أعظم عبء في العالم هو الخرافة، ليست المتعلقة بالطقوس الكنسية وحدها، بل بالآثام المتخلية وبفزاعات الإثم في البيت أيضا”  

وفي كتابه “الاوثان” 1651 سار هوبز بهذه النزعة النقدية ضد الخرافات والأوثان إلى نهايتها المنطقية فالوثنية كما يقول هوبز عبارة عن عبادة الوثنيين لأفكارهم ذاتها، ولم تكن تلك العبادة ممكنة لولا أن الوثنيين الغارقين في ضلال الجهل لم يدركوا أن أفكارهم ليست مكتفية بذاتها، بل سببتها الأشياء الخارجية وتوسطتها ملكة التمثيل”. 

الحضارة ونظرية التحدي والاستجابة من منظور نقدي.. د. قاسم المحبشي، صالون تفكير

لقد كانت الثورة النقدية الحاسمة ضد الخرافات والأفكار المطلقة قد اكتملت عند جون لوك وهيوم، وانتقلت إلى فرنسا إذ تلقفها الفلاسفة الماديون أمثال كوندياك وهلفسيوس ودولباخ، الذين ارجعوا كل أفكار الناس إلى الخبرة الحسية المادية. 

وفي كتابه “رسالة في الإحساسات عام 1754” يذهب كوندياك إلى أن أفكارنا تنتجها دائما قوى مادية لا وجود لـ عقل أو روح مستقل عن الحواس والخبرة الحسية.

إن اعادة المكانة للإنسان الكائن الحاس وتأكيد أهمية العالم الحسي ونقد أفكار العرق المورثة وتحطيم الخرافات، كان له بالغ الأثر في صعيد تبلور فكرة التقدم التي وجدت أول صياغة لها على يد المفكر الفرنسي الديكارتي (فونتيل) في كراسه “محاورات الاموت عام 1683” الذي أكد فيه قدرة الإنسان الخلاقة على الحلم والتقدم والكمال، “فلا حدود لتقدم المعرفة الإنسانية والإنسان لن يشيخ بل يتجاوز نفسه باستمرار. 

وفي كتابيه “استطراد حول القدماء والمحدثين وحول تعدد العوالم 1686 ذهب فونتيل إلى إن الإعجاب المفرط بالقدماء هو احد العوائق الرئيسة للتقدم الإنساني الذي يصعب إيقافه أبدا”(7. وإذا كانت فلسفة التقدم قد انطلقت من نقد الماضي ونقد تقديس القدماء وتحطيم الأصنام، فأنما أرادت تمهيد السبيل لتصور جديد للتاريخ يقوم على أساس من تأكيد الحاضر واستشراف المستقبل، بل إن نقد الماضي وتقاليده الذي ساد في عصر التنوير كان شرطاً ضرورياً لتسويغ الحاضر وقيمة المعرفية والحضارية والمدنية. 

d981d988d984d8aad98ad8b1 المحبشي يغرق في بحر بين الإسكندرية وأمستردام .. بقلم: د. قاسم المحبشي

فولتير وفلسفة التاريخ

وكان المنور الفرنسي فولتير (1694-1778م) بين اشد المثابرين في هذا المشروع، وكان شعاره (اسحقوا الأباطيل) صيحة الحرب ضد المؤسسة التقليدية. ويعد فولتير أول من استخدم كلمة “فلسفة التاريخ” بالمعنى الحديث للكلمة، من حيث هي فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية، تدرس التاريخ دراسة عقلية ناقدة، ترفض الخرافات والأوهام والأساطير والمبالغات.

وتعود أهمية فولتير هنا لما كان يمثله في عصر التنوير من قيمة نقدية مهمة، ففي شخصيته وأدبه الجاد والساخر وفي منهجه النقدي العنيف، وأسلوبه اللاذع وقوة أفكاره كان خير من عبر بعمق عن مزاج عصر التنوير وأتجاهاته التقدمية، وكان شديد التفاؤل في قدرة الإنسان وعقله في التقدم. 

إذ يقول: “يمكننا إن نعتقد إن العقل والصناعة سوف يتقدمان دائما أكثر فأكثر وان الفنون المفيدة ستتحسن، وان المفاسد التي حلت بالإنسان سوف تختفي بالتدرج”. 

ويرى فولتير أن الإنسان يتقدم من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية بفضل ما يمتلكه من عقل طبيعي وان الإنسان خيّر بطبعه هناك أمل في ارتقائه وبلوغه حد الكمال في حالة المدنية المنظمة تنظيماً عقلياً، وكان من أشد المنتقدين للتعصب والانغلاق العقائدي. 

محنة الفيلسوف أبو بكر السقاف، د. قاسم عبد عوض المحبشي.. اليمن.. صالون تفكير

كوندورسية ومعالم التقدم

أما الفيلسوف الأخر الذي أجاد التعبير عن عقيدة التقدم الحديثة فهو كوندورسيه (1743-1794م) الذي عاش عهد الثورة الفرنسية عام 1789م هذه الثورة التي نادى لسان الكون في العالم من خلالها، لابـ “الخمول والانقباض” بل بالتحرر والتقدم والكمال، إذ ينزوي هذا الفيلسوف في فندق صغير خارج باريس هرباً من بطش الطاغية روبسبير، ليكتب “معالم صورة تاريخية لمظاهر التقدم في الفكر البشري” مشيراً إلى انه “ليس هناك حدود مرسومة لتقدم الملكات الإنسانية لأنه لا حد على الإطلاق لقبول الإنسان للكمال… وأن مسيرة الإنسان نحو الكمال لن تعرف حداً ولا نهاية… وسيأتي زمن لن تشرق فيه الشمس إلا على الأمم الحرة وحدها، الأمم التي لا تعترف بسيد أخر غير عقلها، ولن يجد الطغاة ولا العبيد ولا الكهنة وأتباعهم الأغبياء المنافقون أي مكان لهم، اللهم إلا على صفحات التاريخ وخشبة المسرح.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات