المحكم والمتشابه دراسة تحليلية..بقلم: أحمد خفاجي

screenshot-2024-09-15-at-17.51.13 المحكم والمتشابه دراسة تحليلية..بقلم: أحمد خفاجي

مقدمة

النواة الصلبة للثقافة العربية هي القرآن، و النواة الصلبة للقرآن هي اللغة.

و قد أكد القرآن في أكثر من موضع على عربيته بطريقة دفعت البعض للتساؤل: ما سر هذا الإلحاح القرآني على بيان أمر بديهي من قبيل “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”؟

هنا يبدو أن اشتباك القرآن: نصًا و خطابًا مع خصوم رسالته ممن يقفون على ذات الأرضية “الكتابية” بدأ من اليوم الأول.

إذ لم تكن مكة منعزلة عن العالم المحيط بها عربيًا أو عجميًا، الأول بحكم مركزها الديني، و الثاني بحكم مكانتها التجارية.

لكن خروج العرب بجيوشهم ولغتهم و “كتابهم” إلى حضارات أخرى كان مرحلة حاسمة في تشكيل حضارتهم هم أنفسهم.

ثمة عوامل عديدة ودوافع كثيرة وراء نشأة (علوم) الإسلام، لكن يأتي على رأسها ذلك الاشتباك الممتد من اللحظة الأولى لنزول الوحي إلى ما تلاها من لحظات فارقة في تاريخ المسلمين.

هذه الرحلة يبدو أنها كانت متعسرة فيما يخص ما سُمي بـ “علوم القرآن”، إذ تعددت أسماء المجال المعرفي: علوم القرآن- علوم التفسير- أصول التفسير- قواعد التفسير- ..إلخ، وفيما يخص المفاهيم والأدوات ذاتها، فقد استلهم الدارسون مفاهيمهم وأدواتهم من علوم أسبق وبخاصة “أصول الفقه”، ولأنه لم يبق لعلوم القرآن إلا تحديد الموضوع، فقد كانت المفارقة هي أن “القرآن” كان موضوعًا لعدد كبير جدًا من (العلوم).

وبوسع الدارس أن يضع يده على أيٍ من مفاهيم ومصطلحات “علوم القرآن” ليكتشف أن جذوره تُشكل أغصانًا لعلوم أُخر، وأنه من الصعوبة بمكان اكتشاف الخصائص المائزة لمنهج تناوله في علوم القرآن عن غيرها.

ومن هذه المفاهيم والمصطلحات شديدة الأهمية في أصول الفقه وأصول الدين وأصول التفسير على السواء، مصطلحا “المحكم والمتشابه”

 المرجع في تفسير القرآن

لم يكن الاستشهاد بأشعار العرب ثمرة تأكيد القرآن على عربيته فحسب، وإنما لأن التفسير وغيره من علوم المسلمين قد ظهرت في بيئة تعتز و تتأسس على العروبة عرقًا والعربية لغة. 

لقد كانت تلك العلوم في أحد تجلياتها جسرًا لعبور”الموالي” من غير العرب إلى مساحات الشرف والثراء، وإن ظلت هناك حدود لم يكن من السهل تجاوزها، في ظل ثقافة تعتز أيما اعتزاز بأنسابها و عرقها، و من هنا كان التغلب على عجمة العرق بتعريب اللسان، و الشواهد على ذلك كثيرة.

و هنا كانت المفارقة الأظهر: إذ إن انتقال العرب/ المسلمين إلى ساحات الحواضر الأعجمية في الشرق والغرب، صاحبه جمع وتقعيد لعربية “البدو” شارك فيه نفر من العجم أنفسهم: عجم العرق لا اللسان بالطبع، و من الملفت أن تكون أهم مدرستين لأهم علوم العربية “النحو” هما مدرستا البصرة والكوفة بالعراق، أي خارج البادية التي منها جُمعت اللغة. 

وهنا اجتمعت “البداوة” المادة الخام للغة ولهجاتها، بـ “الحضارة”، العمود المؤسس لعلوم المسلمين بأدواتها ومفاهيمها ومناهجها، فتحولت اللغة من كائن أحادي البعد إلى كائن ثنائي وثلاثي الأبعاد.

 و جاءت علوم القرآن أو التفسير لتجمع كل ذلك في علم واحد لم تتهيأ العوامل التي تجعله يصل – أزعم أنه إلى لحظتنا هذه- إلى منظومة واحدة مترابطة و متميزة منهجيًا ومفاهيميًا.

  المدخل اللغوي: لبيان المحكم والمتشابه، من خلال الرجوع إلى لغة العرب، حيث يدل جذر الكلمة الأولى على “المنع” ولازمه “الإتقان” والمأخوذ – كعادة المفاهيم الذهنية والمعنوية – من أصله المادي: حَكَمة الفرس. بينما يدل جذر الكلمة الثانية على “التماثل” ولازمه الالتباس، والمأخوذ من الشبه وهو النحاس الذي يُماثل الذهب في لونه، أو شجر الصمغ الذي يشبه السمُر. ومن هنا انصب الحديث في هذا الجانب على “الوضوح” و “الغموض” في النص القرآني، وبذا أيضًا دخلت الحروف المقطعة في أوائل السور في مساحة المتشابه. 

المدخل التاريخي: حيث يتم استحضار أسباب نزول الآيات الأولى من سورة آل عمران، بشأن جدال النبي مع وفد نجران النصراني، و القول بأنهم حاولوا استغلال “تشابه” ما لديهم من نصوص كتابية، بما وقع في القرآن، لدعم عقيدتهم، ومن هنا وُلد الجدل اللاهوتي لأول مرة بين الإسلام وقرآنه والنصرانية وأناجيلها. ومن هنا انصب الحديث على صفات الخالق ومعنى الروح والكلمة..إلخ

المدخل الفقهي: إذ تم توظيف المفهومين القرآنيين في سياق العمل الدءوب لفقهاء المسلمين على ضبط سلوك الداخلين في الإسلام من غير العرب، أسوة بما تم من ضبط ألسنتهم عبر علوم النحو والبلاغة، فأصبح المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ، و هنا يتداخل الفقهي بالتاريخي.

 فهل نجحت تلك المحاولات في الوصول إلى طموحها الكبير، بتأسيس نظرية عربية في تأويل القرآن بخاصة، أو تأويل النصوص بعامة؟ هناك –في زعمنا- محاولات لم تنضج بعدُ، شأن نظرية التأويل العربية القديمة، التي ظلت -إلى حدٍ ما- ترواح مكانها، بعد جهود أصحاب نظرية النظم في القرآن. 

 نحنُ إذن بإزاء ثلاثة مداخل على الأقل، بشأن الوصول إلى حل لمعضلة تباين وتفاوت الأقوال في تحديد مفهومي المحكم والمتشابه من جهة، والوصول إلى نظرية عربية في التأويل من جهة أخرى..هذا إذا اعتبرنا أن تعدد الأقوال والنظريات معضلة في حد ذاته، و أنا لستُ من أنصار تلك الرؤية.

لكن على أية حال: 

  هناك أولًا النظرة اللسانية التي تكتفي بتناول ظواهر النص، متسلحة بما وصل إليه العلم الحديث في مجال الدراسات اللسانية. وتجاهل ما حف بالنص من روايات تاريخية، وأحيانًا تفسيرية، و خاصة تلك الروايات التي تتناول الأطوار الأولى لتشكل النص.

و هناك ثانيًا النظرة التاريخية التي تحاول إعادة بناء السياق الأول لنزول القرآن لاستعادته في بنيته الأصلية كمجموعة من الخطابات، أدى تحولها إلى نص مغلق إلى انسداد المعنى من جهة و تشظيه من جهة أخرى.

و هناك ثالثًا النظرة الفقهية المقاصدية التي تتشابك/ تتقاطع  مع التاريخية في سعيها إلى الوصول عبر ما أسمته “لسان النص” وفق مفهومها الخاص للسان، لا وفق المعروف في علوم اللسان، لتصل إلى تشكيل منظومة فقهية صالحة للحلول محل المنظومات التراثية التي لم تعد صالحة لهذا العصر. 

و قد حرصنا على أن يخلو هذا النص من ذكر الأعلام أو النصوص المقتبسة أو التواريخ؛ لأننا نعتبره مجرد خواطر، ربما نسعى في قابل الأيام إلى طرحها في شكل علمي أكثر منهجية.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات