المحكم والمتشابه دراسة تحليلية..بقلم: أحمد خفاجي
أحمد خفاجي

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) آل عمران
مقدمة
النواة الصلبة للثقافة العربية هي القرآن، و النواة الصلبة للقرآن هي اللغة.
و قد أكد القرآن في أكثر من موضع على عربيته بطريقة دفعت البعض للتساؤل: ما سر هذا الإلحاح القرآني على بيان أمر بديهي من قبيل “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”؟
هنا يبدو أن اشتباك القرآن: نصًا و خطابًا مع خصوم رسالته ممن يقفون على ذات الأرضية “الكتابية” بدأ من اليوم الأول.
إذ لم تكن مكة منعزلة عن العالم المحيط بها عربيًا أو عجميًا، الأول بحكم مركزها الديني، و الثاني بحكم مكانتها التجارية.
لكن خروج العرب بجيوشهم ولغتهم و “كتابهم” إلى حضارات أخرى كان مرحلة حاسمة في تشكيل حضارتهم هم أنفسهم.
ثمة عوامل عديدة ودوافع كثيرة وراء نشأة (علوم) الإسلام، لكن يأتي على رأسها ذلك الاشتباك الممتد من اللحظة الأولى لنزول الوحي إلى ما تلاها من لحظات فارقة في تاريخ المسلمين.
ومن تلك (العلوم) الناشئة جاءت “علوم القرآن”، لكنها ولدت عبر تلاقح علوم أخرى أسبق منها نشأة واكتمالًا، كالنحو والبلاغة واللغة والتفسير وأصول الفقه..إلخ
و من المعروف في تاريخ العلوم عامة أن بذرتها الأولى هي وجود الإشكال الداعي إلى التفكير، ثم بزوغ الأفكار والمفاهيم في الأذهان قلقة مضطربة، باحثة عن ألفاظ تتجسد من خلالها، ثم ترتبط تلك المفاهيم بعدد كبير من الألفاظ، حتى يتم الاصطلاح على “مصطلح بعينه” فيجُّب ما قبله، ليسود بين المتخصصين في هذا العلم، وباجتماع المفاهيم وتوحيد الموضوع وتشكيل المنهج يصل العلم إلى نضجه واستوائه.
هذه الرحلة يبدو أنها كانت متعسرة فيما يخص ما سُمي بـ “علوم القرآن”، إذ تعددت أسماء المجال المعرفي: علوم القرآن- علوم التفسير- أصول التفسير- قواعد التفسير- ..إلخ، وفيما يخص المفاهيم والأدوات ذاتها، فقد استلهم الدارسون مفاهيمهم وأدواتهم من علوم أسبق وبخاصة “أصول الفقه”، ولأنه لم يبق لعلوم القرآن إلا تحديد الموضوع، فقد كانت المفارقة هي أن “القرآن” كان موضوعًا لعدد كبير جدًا من (العلوم).
وبوسع الدارس أن يضع يده على أيٍ من مفاهيم ومصطلحات “علوم القرآن” ليكتشف أن جذوره تُشكل أغصانًا لعلوم أُخر، وأنه من الصعوبة بمكان اكتشاف الخصائص المائزة لمنهج تناوله في علوم القرآن عن غيرها.
ومن هذه المفاهيم والمصطلحات شديدة الأهمية في أصول الفقه وأصول الدين وأصول التفسير على السواء، مصطلحا “المحكم والمتشابه”
المرجع في تفسير القرآن
لم يكن الاستشهاد بأشعار العرب ثمرة تأكيد القرآن على عربيته فحسب، وإنما لأن التفسير وغيره من علوم المسلمين قد ظهرت في بيئة تعتز و تتأسس على العروبة عرقًا والعربية لغة.
لقد كانت تلك العلوم في أحد تجلياتها جسرًا لعبور”الموالي” من غير العرب إلى مساحات الشرف والثراء، وإن ظلت هناك حدود لم يكن من السهل تجاوزها، في ظل ثقافة تعتز أيما اعتزاز بأنسابها و عرقها، و من هنا كان التغلب على عجمة العرق بتعريب اللسان، و الشواهد على ذلك كثيرة.
و هنا كانت المفارقة الأظهر: إذ إن انتقال العرب/ المسلمين إلى ساحات الحواضر الأعجمية في الشرق والغرب، صاحبه جمع وتقعيد لعربية “البدو” شارك فيه نفر من العجم أنفسهم: عجم العرق لا اللسان بالطبع، و من الملفت أن تكون أهم مدرستين لأهم علوم العربية “النحو” هما مدرستا البصرة والكوفة بالعراق، أي خارج البادية التي منها جُمعت اللغة.
وهنا اجتمعت “البداوة” المادة الخام للغة ولهجاتها، بـ “الحضارة”، العمود المؤسس لعلوم المسلمين بأدواتها ومفاهيمها ومناهجها، فتحولت اللغة من كائن أحادي البعد إلى كائن ثنائي وثلاثي الأبعاد.
ففي البيئة التي نزل فيها القرآن على مدار 22 عامًا وأكثر كانت العربية تدور في بعدي الحقيقة والمجاز، على وفق ما ألف العرب، لكن ما حدث بعد ذلك، ونتيجة احتكاك العرب بغيرهم من الأمم و الشعوب، صار للحقيقة اللغوية أكثر من بعد، زد على هذا أن تحول القرآن من مجموعة خطابات شفهية إلى نص واحد بين دفتين، كان قد زاد الأمر تعقيدًا، فتعددت المداخل إلى هذا الخطاب/ النص من اللغة إلى التاريخ إلى الفقه و هلم جرًا.
و جاءت علوم القرآن أو التفسير لتجمع كل ذلك في علم واحد لم تتهيأ العوامل التي تجعله يصل – أزعم أنه إلى لحظتنا هذه- إلى منظومة واحدة مترابطة و متميزة منهجيًا ومفاهيميًا.
و دراسة مفهومي المحكم والمتشابه تعطينا الأدلة على ما سبق أن قررت، فبمجرد أن تطلع على ما قيل في شأنها في مصادر علوم القرآن والتفسير تجد ما يلي:
المدخل اللغوي: لبيان المحكم والمتشابه، من خلال الرجوع إلى لغة العرب، حيث يدل جذر الكلمة الأولى على “المنع” ولازمه “الإتقان” والمأخوذ – كعادة المفاهيم الذهنية والمعنوية – من أصله المادي: حَكَمة الفرس. بينما يدل جذر الكلمة الثانية على “التماثل” ولازمه الالتباس، والمأخوذ من الشبه وهو النحاس الذي يُماثل الذهب في لونه، أو شجر الصمغ الذي يشبه السمُر. ومن هنا انصب الحديث في هذا الجانب على “الوضوح” و “الغموض” في النص القرآني، وبذا أيضًا دخلت الحروف المقطعة في أوائل السور في مساحة المتشابه.
المدخل التاريخي: حيث يتم استحضار أسباب نزول الآيات الأولى من سورة آل عمران، بشأن جدال النبي مع وفد نجران النصراني، و القول بأنهم حاولوا استغلال “تشابه” ما لديهم من نصوص كتابية، بما وقع في القرآن، لدعم عقيدتهم، ومن هنا وُلد الجدل اللاهوتي لأول مرة بين الإسلام وقرآنه والنصرانية وأناجيلها. ومن هنا انصب الحديث على صفات الخالق ومعنى الروح والكلمة..إلخ
المدخل الفقهي: إذ تم توظيف المفهومين القرآنيين في سياق العمل الدءوب لفقهاء المسلمين على ضبط سلوك الداخلين في الإسلام من غير العرب، أسوة بما تم من ضبط ألسنتهم عبر علوم النحو والبلاغة، فأصبح المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ، و هنا يتداخل الفقهي بالتاريخي.
لقد جرت دراسات كثيرة في العصر الحديث لمحاولة الخروج من هذه الدوامات المفاهيمية، لكنها كانت تدور في معظمها في إطار التعامل مع القرآن كأنه توراة أخرى نزلت دفعة واحدة، على خلاف ما يعرفه الكثيرون، ثم تطورت الدراسات لتصل إلى مرحلة التعامل مع “القرآن” باعتباره يختلف عن “الوحي” من جهة، وعن “المصحف” من جهة أخرى. ، فظهرت ألوان من الخطابات هي استعادة وتطوير للقديم من خلال التناول اللغوي، والتاريخي، والفقهي.
فهل نجحت تلك المحاولات في الوصول إلى طموحها الكبير، بتأسيس نظرية عربية في تأويل القرآن بخاصة، أو تأويل النصوص بعامة؟ هناك –في زعمنا- محاولات لم تنضج بعدُ، شأن نظرية التأويل العربية القديمة، التي ظلت -إلى حدٍ ما- ترواح مكانها، بعد جهود أصحاب نظرية النظم في القرآن.
نحنُ إذن بإزاء ثلاثة مداخل على الأقل، بشأن الوصول إلى حل لمعضلة تباين وتفاوت الأقوال في تحديد مفهومي المحكم والمتشابه من جهة، والوصول إلى نظرية عربية في التأويل من جهة أخرى..هذا إذا اعتبرنا أن تعدد الأقوال والنظريات معضلة في حد ذاته، و أنا لستُ من أنصار تلك الرؤية.
لكن على أية حال:
هناك أولًا النظرة اللسانية التي تكتفي بتناول ظواهر النص، متسلحة بما وصل إليه العلم الحديث في مجال الدراسات اللسانية. وتجاهل ما حف بالنص من روايات تاريخية، وأحيانًا تفسيرية، و خاصة تلك الروايات التي تتناول الأطوار الأولى لتشكل النص.
و هناك ثانيًا النظرة التاريخية التي تحاول إعادة بناء السياق الأول لنزول القرآن لاستعادته في بنيته الأصلية كمجموعة من الخطابات، أدى تحولها إلى نص مغلق إلى انسداد المعنى من جهة و تشظيه من جهة أخرى.
و هناك ثالثًا النظرة الفقهية المقاصدية التي تتشابك/ تتقاطع مع التاريخية في سعيها إلى الوصول عبر ما أسمته “لسان النص” وفق مفهومها الخاص للسان، لا وفق المعروف في علوم اللسان، لتصل إلى تشكيل منظومة فقهية صالحة للحلول محل المنظومات التراثية التي لم تعد صالحة لهذا العصر.
في النهاية، تظل محاولتنا المتواضعة تلك خطوة قصيرة في سبيل استكشاف ما تم من جهود في السابق، و اكتشاف ما عساه أن يحمله لنا الحاضر والمستقبل من وعود بشأن سعينا إلى الوصول إلى منهج جديد لتناول القرآن نصًا أو خطابًا، وفق المعرفة العلمية المنضبطة والمنهجية، و التي يجب أن تسبق أية أهداف أخرى.
و قد حرصنا على أن يخلو هذا النص من ذكر الأعلام أو النصوص المقتبسة أو التواريخ؛ لأننا نعتبره مجرد خواطر، ربما نسعى في قابل الأيام إلى طرحها في شكل علمي أكثر منهجية.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد