المدخل الفلسفي لفهم القرأن الكريم…. بقلم: أنسام النجار
أود من خلال هذا المقال أن أتعرض لبعض محاولات
المفكرين العرب تاريخيا التوفيق بين الفلسفة والشريعة
من خلال التركيز على نموذجين هما الفيلسوف ابن رشد
والفيلسوف ابن عربى، وبداية علينا أن نقدم تعريفا لكلمة
فلسفة حيث أنها وافدة إلينا من الإغريق وليست أحد
منتوجات الشرق الفكرية.
بقلم : أنسام النجار

ظهرت الفلسفة ما قبل الميلاد وقد كانت غير ممنهجة
أول الأمر ثم مرت فيما بعد بمراحل جعلتها أكثر نضجا.
كلمة فلسفة هي اختصار لكلمتين يونانيتين هما فيلو
وتعني حب ،صوفيا وتعني الحكمة .أي محبة الحكمة.
وينسب هذا التعريف إلى فيثاغورس الذي أطلق على
نفسه (فيلسوف) رغبة منه في تمييز نفسه عن
السفسطائيين الذين يدعون الحكمة. يرى آخرون أنه
يعود إلى أفلاطون حيث استخدمها في وصف سولون
وسقراط.
أما الفارابي فيرى أنها تعني (العلم بالموجودات. بما هي
موجودة)، أما الكندي فقد عرفها أنها علم الأشياء
بحقائقها الكلية حيث يؤكد أن الكلية هي إحدى خصائص
الفلسفة الجوهرية التي تميزها عن غيرها من العلوم
الإنسانية. يرى ابن رشد أن التفكير في الموجودات
يكون على اعتبار أنها مصنوعات، وكلما كانت المعرفة
بالمصنوعات أتم كانت المعرفة بالصانع أتم.
ايمانويل كانط قال عنها أنها المعرفة الصادرة من العقل
أما ديكارت فيرى أنها علم المبادئ العامة وقال أيضا
أنها دراسة الحكمة ،ألنها تهتم بعلم األصول فيدخل فيها
علم الله وعلوم الإنسان والطبيعة وركيزة الفلسفة عند
ديكارت هي الفكر المدرك لذاته الذي يدرك شمولية
الوجود وأن مصدره من الله.

ووصفها براند ولسون بأنها عبارة عن مجموعة من
المشكلات والمحاولات لحلها، وهذه المشكالت تدور
حول الله والفضيلة والإدراك والمعنى والعلم وما إلى
ذلك.
مع توسع الإمبراطورية الإسلامية و دخول العديد من
الشعوب والحضارات والثقافات إلى الإسلام فقد تم
استيعابها ضمن النسيج المعرفي للمسلمين والإضافة
عليها فقد ترجمت العديد من كتب الفلسفة والمنطق
وغيرها من الفنون والعلوم من اللغات المختلفة إلى اللغة
العربية، ويرجع الفضل الأكبر إلى العباسيين في هذا
الأمر إذ أنهم نظموا الترجمة وشجعوها وقاموا باستخدام
طائفة من الفرس والهنود الصابئة الذين كانوا على
اتصال وثيق بالدراسات القديمة، فقاموا بنقل كتب
الفلاسفة اليونان وعلوم الهند والفرس وفلسفاتهم وعندما
قرأ العرب هذه الكتب لم يرق لهم تعارضها مع الدين
ولا تتفق إليه بحال من الأحوال فكرسوا حياتهم للرد
عليها مثلما فعل الغزالي والرازي. والبعض أعجب بها
واعتقد أن بمقدورهم التوفيق أو المواءمة بين الحكمة
والعقيدة، أو بين الفلسفة والدين وأن يبينوا للناس أن
الوعي ال يناقض العقل وأن العقيدة الصحيحة إذا
استنارت بنور الحكمة تمكنت من النفوس وثبتت أمام
الخصوم.
إلا أنه من نجح منهم في خلق حلول وسطى لم يسلم من
االتهام فقد تم اعتبارهم قد قدموا تصورا بعد كثيرا عن
الصور الثابتة المأثورة.
يمكننا أن نلاحظ أن هؤلاء الذين حاولوا التوفيق ما بين
الفلسفة والشريعة قد اتبعوا نهجين:
الأول: التأويل للنصوص والحقائق الشرعية بما يتفق مع
الآراء الفلسفية، ومعنى هذا إخضاع تلك النصوص
والحقائق إلى هذه الآراء حتى تسايرها وتتماشى معها،
شرح النصوص والحقائق الشرعية باآلراء والنظريات
الفلسفية ومؤدى هذا أن تضغط الفلسفة على الدين
وتتحكم في نصوصه.
النهج الثاني: قام أتباع هذا الفريق بوضع الآراء الفلسفية
أمام عينيه ثم نظر من خاللها الى القران الكريم فبدال من
شرح القرآن وجدنا أنفسنا أمام شروح للنظريات
الفلسفية.

محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638 ه:
محيي الدين بن عربي كنموذج على النهج الذي قام فيه
الفيلسوف أو المفكر بتأويل النصوص والحقائق بما يتفق
مع أرائه الفلسفية.
لم يكن ابن عربي مجرد فيلسوف صوفي اهتم بالجانب
النظري الثيوصوفي بل كان إلى جانب هذا من أرباب
المواجد والأذواق، لقد تكلم بلسان الكشف والإشراق كما
تكلم بلسان العقل.
جمع ابن عربي بين القول بوحدة الوجود والقول بوحدة
الشهود، ويبدو هنا التأثر الظاهر لثالثة تيارات (نظرية
أفلوطين السكندري في الواحد والكثيرين، نظرية
الإلشارة في الجوهر والأعراض ،نظرية الحلاج في
اللاهوت والناسوت إذ أن الناسوت عند الحلاج هو
المظهر الخارجي اللاهوت) .
حاول ابن عربي أن يفسر العلاقة بين الواحد والكثير
ويلجأ إلى ضروب التمثيل والتشبيه فقد تعين البعض
على فهم هذه المشكلة المعقدة، فقد مثل الذات الإلهية
بالواحد العددي والكثرة الوجودية لسائر الأعداد التي
تستمد وجودها من الواحد، أو تمثيل الذات الإلهية
بالجسد والكثرة الوجودية أعضاء الجسم التي لا وجود
لها و لا كيان لها بدون الجسد.
العالم الخارجي بالنسبة لإبن عربي ليس سوى مجموعة
من المظاهر التي تتجلى فيها الذات الإلهية، مجموع
صفاته الظاهرة.
اقتباس “لما شاء الحق من حيث أسماؤه الحسنى التي لا
يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها وإن شئت قلت أن يرى
عينه في كون جامع صير الأمر كله لكونه متصفا
بالوجود وما يظهر سره سره إليه: فإن رؤيه الشيء
نفسه بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في آخر يكون له
كالمرآه، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل
المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير هذا المحل ولا
تجليه له” انتهى االقتباس.
اسم الجبار عنده مشتق من الجبر، الغفار من غفر بمعنى
غطى والحق غفار بمعنى أنه “يغطي” ذاته في صور
أعيان الممكنات واسم العدل مشتق من عدل بمعنى مال
والحق عدل لأنه مال من حضرة الوجوب الذاتي إلى
حضرة الوجوب بالغير.
وفي تفسير “يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله” عرف
الفقراء بأنهم من يفتقرون إلى كل شيء من حيث أن ذلك
الشيء هو مسمى الله فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر لغير الله
وقد أخبر الله أن الناس فقراء إليه على اإلطالق ،والفقر
حاصل فيهم فعلمنا أن الحق ظهر في صورة كل ما يفتقر
إليه فعلا .
اتبع ابن عربي نفس الطريقة لعرض معان دينية عميقة
في صور جديده لا عهد لمفكري الإسلام بها مثل
(العبودية-الألوهية، الرحمة، المحبة).
لهذا يبدو ابن عربي للكثيرين بعيد كل البعد عن التأويل
والتفسير كما عهده المفكرون الإسلاميون تاريخيا.
الفيلسوف ابن رشد (أبو الوليد بن محمد بن رشد)
المتوفى 1198 م:
دافع ابن رشد كثيرا عن الفلسفة وخاصة في كتابه
(تهافت التهافت) الذي ألفه ردا على الهجوم الشديد الذي
وجهه الإمام الغزالي لأفكار وآراء بعض الفلاسفة في
كتابه “تهافت الفالسفة”.

عمل ابن رشد على تصحيح أفكار بعض الفلاسفة
السابقين أمثال ابن سينا والفارابي في فهمهم لبعض
نظريات أفلاطون وأرسطو. لقد أراد ابن رشد تحقيق
انسجام بين ما وصل إليه بعقله وبين الدين (كما ورثه
من الآباء والأجداد) ربما تجنبا لغضب الفقهاء الذين
يرون كل تفكير عقلي حر هو ضربة موجهة للدين.
أراد ابن رشد محو الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه
“تهافت الفالسفة( فقد خصص رسالته )فصل المقال فيما
بين الحكمة والشريعة من الإتصال) لهذا الغرض.
وضع ابن رشد أصوال للتوفيق بين الفلسفة والشريعة
سنتناول البعض منها.
-1 الإستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي
والإنتفاع بما في تراث الإغريق من خير، فقد ساق في
كتابه “فصل المقال” دليلا بقوله تعالى (اعتبروا يا أولي
الأبصار) فهو يرى أن الإعتبار هنا هو استنباط
المجهول من المعلوم وذلك هو القياس.
-2 بيان أن الناس مختلفون في العقول والإستعدادات،
انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن، فوجود آيات وأحاديث
البد من صرفها عن ظاهرها وتأويلها لنعرف المعاني
الخفية المرادة منها، وسبب انقسام الشرع لظاهر وباطن
هو أن الناس مختلفون في الفطر والعقول ولهذا تختلف
حاالتهم في فهم النصوص وإدراك ما يراد بها كما
تختلف وسائلهم في التصديق به من أمور هذا العالم
الحاضر والعالم الآخر ومن وجود الله وما يتصل به من
سائر ما جاء به الدين من معتقدات.
-3 وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من
نصوص الشرع لبيان متى يكون التأويل ولمن يكون
ولمن يصرح به. لقد ختم ابن رشد كتابه (الكشف عن
مناهج الأدلة) القانون الذي وضع به حدا للتأويلات التي
كثرت وذاعت وتناولها الجميع حتى حدثت عنها
اعتقادات غريبه وبعيده عن ظاهر الشريعة ووجد بسببها
فرق كثيرة في الإسلام تتناحر وتكفر بعضها البعض
ولتجنب ذلك –اال يصرح بالتأويل وبخاصة ما يحتاج
منها إلى برهان لغير أهلها وهم القادرون على البرهان
والإستدلال بالمنطق.
كما يجب الا يبث منها شيئا في الكتب الخطابية الجدلية
الموضوعة للعامة، فإننا لو مثلنا نعيم الجنة للعامة بأنه
مادي من جنة فيها أنهار من ماء غير آسن ولبن لم يتغير
طعمه وأنهار من خمر وعسل مصفى فإن ذلك يدفع
للخير ويحث على الفضيلة وإنه لخير لهم من تشكيكهم
في هذا الجزاء المادي المحسوس وأن ما جاء في القرآن
ما هو إال رموز وأمثال وأن هذا هو الثواب الذي وعد به
األخيار ليس إلا جزاء معنويا.
قدمنا نموذجين لإثنين من الفلاسفة أحدهما علمه للخاصة
كما أشار ابن رشد وأنه بعرضه لفكره على العوام لن
يستفيد الناس شيئا ولن يكون دافعا لهم للقيام بأعمال
فاضلة لأن إدراكهم العقلي لا يعرف إلا الجزاء الحسي
الذي هو وحده الدافع وراء حرصهم على عمل الخير.
ولهذا أرى أن ابن رشد قد قدم بفكره الفلسفة بمعنى
(محبة الحكمة) ليس في الطرح وحده ولكن بإدراك
الحكمة وراء ما يجب أن يعرفه العامة من الخاصة في
ظل عدم امتلاك العامة إلى قواعد االإستدلال المنطقي
التي ستمكنهم من تقديم الحجة على رأيهم مما سيؤدي
في النهاية لمزيد من االإنقسام.. رغم محاوالت ابن رشد
التوفيق بين الفلسفة والدين وإدراكه لمعنى الخاصة
والعامة في تلقي الفهم والتأويل إلا أنه حكم عليه كغيره
بحرق كتبه..
في النهاية إن كان وعي الناس قادرا على منع نشر أفكار
في مرحلة زمنية معينة والحكم عليها بالموت إلا أن
للأفكار ذاتها أجنحة قادرة أن تحلق عبر الزمان والمكان
لتستقر بوجدان الشعوب التي قدرت هذه الأفكار
وأدركتها ومن ثم انتفعت بها وهو فعليا ما حدث مع
الفيلسوف ابن رشد.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد