المعجزة عند جورج طرابيشي .. بقلم: آية قطب

في كتاب “المعجزة أوسبات العقل في الإسلام”، يحاول جورج طرابيشي النظر لمعجزات النبي، بشكل مختلف عما هو متعارف عليه بين المسلمين وسنحاول في هذا المقال عرض لما جاء في الكتاب.

آية قطب
أخصائية تحاليل طبية، ماجستير في الكيمياء الفيزيائية، مهتمة بالتجديد في الفكر الديني.

326516857_718942259951039_4119175793627024998_n المعجزة عند جورج طرابيشي .. بقلم: آية قطب

ينتشر بين المسلمين ذكر معجزات النبي محمد عليه الصلاة والسلام. وقد أصبح الإيمان بحدوث تلك المعجزات يكاد يكون ركن من أركان الدين الإسلامي، ومن لم يؤمن بحدوث تلك المعجزات فإنه مشكوك في إيمانه، ولكن في كتاب “المعجزة أوسبات العقل في الإسلام”، يحاول فيه جورج طرابيشي النظر لمعجزات النبي، بشكل مختلف عما هو متعارف عليه بين المسلمين وسنحاول في هذا المقال عرض لما جاء في الكتاب.

يناقش جورج طرابيشي في هذا الكتاب معنى المعجزة في الإسلام وهل الإسلام دين كبقية الأديان أتى رسوله بمعجزة أم هو القرآن فقط، فهو ينفي حدوث أي معجزة عينية مادية متعلقة بالنبي محمد، هو نبي بلا معجزة ودليله الوحيد الذي أتى به للبشر هو القرآن والكتاب مليء بالآيات القرآنية التي تؤيد فكرته في عدم وجود معجزة مادية.

image-1 المعجزة عند جورج طرابيشي .. بقلم: آية قطب

جورج طرابيشي

يتحدث جورج طرابيشي في الفصل الأول من الكتاب وهو الفصل الأساسي والأكبر عن المعجزة وعن وجود المعجزة مع الأنبياء الذين بعثوا قبل النبي محمد، ولكن النبي محمد هو نبي بدون معجزة، فقط القرآن هو الوسيلة الذي يقنع بها متبعيه للإيمان برسالته.

ففي الوسط الذي بعث فيه النبي محمد انتشرت فيه أخبار بعض المعجزات التي حدثت للأنبياء من قبله كما كان من المنتظر ظهور خاتم النبيين كما بشرت به الكتب السابقة، فكان الناس يتوقعون بعث نبي جديد بمعجزة جديدة.

ومع ظهور النبي بدأ الناس يسألونه عن معجزته ليصدقوا أنه نبي من عند الله وهو في كل مرة يقول لهم إن الآيات عند الله وأنه بشر رسول ليس بيده شىء وهنا كان يزداد شك الكافرين به.

شرح آية قطب لورقتها المقدمة في دورة توتر القرآن 3

والله دائما ما كان يتحدث للنبي أن لا يكن في شك من رسالته ولا يكن من الممترين “ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ” البقرة (147)، وأنه هو النبي والرسول الخاتم وحتى عندما تأخر الوحي عن النزول إليه  بسبب أنه تسرع في وعد المشركين بأن يأتيهم بالإجابة بدون الاستعانة بالمشيئة وهو ليس بيده أي شىء لا لنفسه ولا لغيره ونزل له جبريل بالآية:

“وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا” الكهف (٢٣، ٢٤).

 ويؤكد الرسول أنه ليس بيده حول ولا قوة: “قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون” الأعراف(١٨٨)، ويؤكد على بشريته دائما (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) فصلت(٦)، ويؤكد على أن الآيات عند الله وهو ليس بيده شىء (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) العنكبوت (٥٠)، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) الرعد(٢٧).

فنرى أن الأميين الذي أرسل إليهم في شبه الجزيرة العربية يسألوه معجزات مادية؛ مال أو أرض أو أنهار وكلها متعلقة بظروفهم البيئة من حيث اهتمامهم بالتجارة وبسبب صعوبة العيش في هذه البلاد الجبلية، فيسألونه عن الأشياء التي يفتقدونها ويتمنونها.

(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) الإسراء (90 – 93).

أما أهل الكتاب فكانت أسئلتهم له أسئلة لاهوتيه كأنه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة كالتوراة والإنجيل ويسألوه عن الروح وعن القيامة وأسئلتهم مرتبطة بمعارف سابقة لهم مرتبطة بمعلومات ذكرت في كتبهم ليختبروا صدقه أو لتعجيزه.

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)

وكل الأسئلة التي كان يواجهها النبي كان يرد عليها بأن العلم عند الله وأنه ليس معه معجزة مادية كما لبقية الأنبياء.

وكل الآيات التي نزلت في القرآن تؤكد هذه الإجابة هو نبي بدون معجزة، فقط القرآن.

وتؤكد أن الأمم السابقة كفرت بالرغم من وجود المعجزات لها، وأنه أرحم بهم الإيمان بدون معجزة لأن من تأتيه المعجزة ويكفر بها فعقابه أليم ومباشر على تكذيبه لها فيقول الله (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) الإسراء(٥٩) ، ويؤكد أيضا أنه لو نزل الآيات فمن الممكن أن يكفروا بها كما فعل من قبلهم (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) الأنعام(109 – 111).

كما يذكرهم بالمعجزات اليومية التي يرونها في السماء والارض وفي خلقهم ونرى صورة الرحمن مليئة بهذه الآيات، ولكن من ناحيتهم يروا أن هذه المعجزات تشهد بواحدانية الله ولا تشهد بصدق الرسول المبعوث بالرسالة.

ولكن الرسالة فقط كانت في القرآن ذاته، والتحدي كان في القرآن ذاته ولكن لم تذكر كلمة معجز أو إعجاز عن القرآن وكانت الآيات في هذا الجزء

(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء(٨٨).

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) الطور (34).

(أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍۢمِّثْلِهِۦمُفْتَرَيَٰتٍۢوَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ) هود(١٣).

(أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍۢمِّثْلِهِۦوَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ) يونس(٣٨).

وهذا التحدي يرى الكاتب أنه مستمر عبر العصور من خلال الكتب والعلوم التي قامت حول القرآن فإلى الآن النص يتم دراسة النص وإنتاج الأبحاث عنه.

ثم ينتقل بنا في الفصل الثاني من كتابه عن المعجزات التي ذُكرت في الكتب عن النبي الكريم ووضعها الكاتب في إطار زمني تصاعدي طبقا للتاريخ الهجري ويلاحظ فيها أن المعجزات تتضخم وتزداد ازديادا طرديا طبقا للزمن..

 فنجد في سيرة ابن هشام التي كُتبت في القرن الثالث الهجري عدد معجزات النبي هي عشر معجزات فقط (سلام الحجر والشجر عليه، تحريك الشجرة، أعماء القرشيين، سيف عكاشة، معجزة الكدية، عين قتادة، تكثير الثمر، تكثير الطعام، تحطيم الأصنام، نبع الماء من بين أصابعه).

ثم نجد في كتاب أعلام النبوة للماوردي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري عدد المعجزات تضاعف أربع مرات ليصل إلى أربعين معجزة، وأكثر هذه المعجزات ينحصر بتكثير الطعام أو تفجير عيون الماء أو شفاء العيون المصابة أو إنطاق الحيوانات أو تحريك الجمادات وستتكرر هذه المعجزات عند كُتاب السير اللاحقين.

ونجد بعض المعجزات الملحقة بالنبي موجودة عند الماوردي وانفرد بها وهي تحويل الأرض الجافة القاحلة وغرس سهمه فيها فيظهر فيها الماء وكما يقول هذا نظير ما أُعطي موسى كالحجر الذي انفجرت منه العيون الاثنى عشر، وكعبور الوادي في غزوة خيبر وهذا نظير ما أُعطي موسى من عبور البحر، تكثير الطعام، تسبيح الحصى بين يديه، شفاء المجذومين وإحياء الموتى وهذا نظير ما أُعطيّ عيسى، تحويل المياه المالحة لمياه عذبة.

ثم ينتقل بنا للبيهقي الذي كان يعاصر الماوردي وهنا يمتلىء كتابه بالمعجزات ولكن سنجد أنه يتوسع في المعجزة وشرحها والمزايدة عليها ويأتي بروايات متعددة للمعجزة الواحدة، فالمعجزة التي تأخذ عند بن هشام أربعة أسطر وهي سلام الحجر والشجر على النبي الكريم يفرد لها البيهقي باب كامل.

ولم يتوقف البيهقي عن إلحاق المعجزات بالنبي فقط بل كانت تُلحق بصحبته أيضا  ونجد فيها خرق للقوانين الفيزيائية والبيولوجية فنجد أنه روي أن بعض الصحابة كانت أصابعهم وعصيهم تضيء لهم الطريق بالليل أو عن من تحدث بعد موته.

ويتعجب الكاتب من كتاب دلائل مع النبوة للبيهقي الذي يفتتح كتابه بتعظيم القرآن وأنه كلام إلهي ويقر ببشرية النبي ولكنه يُسودْ ثلاث آلاف صفحة بمعجزات النبي الخارقة للطبيعة ولا يتأتى لبشر أن يفعلها وبذلك يناقض ما قاله في البداية عن بشرية الرسول إلهية القرآن بل ويطمس هذه البشرية بهذه المعجزات الخوارق التي ذكرها بل وبذكرها والتركيز عليها نقلل من قيمة القرآن الأساسية والتي يبنى عليها الإسلام ونركز في ثانوية المعجزة التي لا  تمثل دعامة قوية لتأكيد صحة الدين.

ثم ينتقل بنا إلى القاضي عياض في النصف الأول من القرن السادس في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، فنجد أن معجزات بن هشام العشرة تتضاعف اثنى عشر مرة لتصل إلى مائة وعشرين معجزة وهي مليئة بالمعجزات التي تشبه المعجزات المذكورة في كتب من سبقوه بل تزداد تفسيرا وتوسعا في نفس المعجزة ويورد فيها المعجزات الإيجابية من تأييد النبي بشيء مادي أو إستجابة دعوته بشكل إيجابي أي عندما يدعي دعاء بالخير لأحد، لأن هناك معجزات سلبية وهي دعاؤه على شخص فقد دعا على صبي قطع عليه صلاته أن يقطع الله  أثره فأُقعد.

ولم يكتف القاضي العياض بذلك بل ألحق المعجزة والقدرة الخارقة والتعظيم ليس بأفعاله وأقواله فقط بل بأشياءه وكل ما يلمسه أو يلبسه وبافرازاته بعرقه وبصاقه ونخامه وماء وضوءه وشعره وكل ما يتعلق ويخص النبي الكريم.ثم انتقل بنا الكاتب إلى بن كثير وكتابه البداية والنهاية وهو لم يزد في عدد المعجزات بل انتهج منهج آخر وهو ذكر للمعجزة الواحدة كل الروايات التي ذكرتها حتى ولو عشرة روايات.

والسبب في ذكر ذلك كما ذكر الماوردي في كتابه دلائل النبوة أن المعجزات هي من أخبار الآحاد ومعروف أن أخبار الآحاد في المعرفة الإسلامية موضع جدل، والذي رمى إليه بن كثير من وراء ذكره لكل الروايات، هو أن عندما تتعدد أخبار الآحاد عن المعجزة الواحدة فكأن تعددها ذلك يوحي من وراءه يقينا وتأكيدا.

ونجد عند ابن كثير معجزات تكثير الطعام وإنباع المياه وتكثيرها الكثير من الروايات وهي تفوق وأكثر غرائبية مما وُجد عند القاضي العياض، وتلك المعجزات تتناسب مع الجو العام القائم في ذلك العصر من شح الماء وقلة الطعام كدليل على النبوة.

ثم يفرد أبواب لتحريك الجمادات وتحدث الحيوانات.

ونجد ابن كثير يفرد بابا للمقارنة والمفاضلة بين معجزات النبي وبقية الأنبياء وفيها يحاول أن يثبت أن النبي أتى من المعجزات ما تشبه الأنبياء الآخرين بل وتفوق عليهم وبذلك يتفوق النبي الخاتم على بقية الأنبياء في كل شيء أتي به (٦٣-٦٤-٦٥-٦٦).

ثم يذهب بن كثير إلى الحديث عن المعجزات القولية وأخبار النبي بالغيب وبأحداث مستقبلية بالرغم أن القرآن يجزم أن الغيب لله (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) يونس(٢٠)، (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا) الجن(٢٦)، (قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) الأنعام(٥٠).

ونلاحظ أن تسعة أعشار هذه النبوءات المنسوبة للنبي نراها تنبؤات سياسية متعلقة بالخلافة الراشدة والأموية والعباسية وما لازمها من حروب وفتن طائفية، فهنا نجد كل فرقة سياسية تحاول شرعنة نفسها بإسم الدين وتوظيف الدين لخدمتها.

فنجد أنه يذكر أكثر من رواية لمقتل الحسين في العراق وهي إشارة لإستبعاد عترته عن المناصب الدنيوية فلا تجوز لهم الإمامة الدنيوية فكما خير النبي بين الدنيا والآخرة وأختار الآخرة فيسير حفيده على نفس النهج وإلا سيقتل كما حدث له نتيجة عن تنبؤ النبي.

ونجد بعض النبوءات عن موقعتي الجمل وصفين وأن الاثنتان  ظاهرهما يدعوان للإسلام أنما أنقلابهما لأمر من أمور الملك.

كما أدرج نبوءات عن الإنقلاب الأموي ومفادها أن الخلافة ستنتهي بعده بثلاثين عاما ويحل محلها الملك ويوكلها للمشيئة الإلهية ثم يؤتي الله ملكه لمن يشاء، (الخلافة في المدينة والملك في الشام).

واختلفت النبوءات طبقا للراوي إذا كان من أهل المدينة والحجاز المتضررون من الانقلاب الأموي فالرواية تكون على أن بني أمية سيفسدون في الأرض، أما لو كانت لأحد من المنتفعين بالأمويين فنجد في الرواية ما يعلو من قيمة معاوية ومدح النبي له.

وبالنسبة للخلافة الراشدة نجد أن بسبب توجه بن كثير السني يذكر الروايات التي تتحدث عن أبي بكر وعمر وعثمان ولا تذكر علي بالرغم من وجود مرويات تذكر سيدنا علي لكن اتجاهه الفكري هو الذي حكمه في إتيانه بالمرويات التي تناسب توجهه.

وهنا نجد أن النبوءات عند بن كثير تتجاوز عصر الصحابة إلى التابعين وتابعي التابعين فلا تتنبأ بقيام الدولة الأموية فقط بل بمجيء آل عباس.

ثم انتقل الكاتب إلى الكلام عن السيرة الحلبية المُصنفة في العصر الحادي عشر الهجري التي استفادت من كل التراكمات في أدبيات السيرة لترقى بعملية الأسطورة إلى مستوى غير مسبوق لتحيط بهالتها لا النبي قبل وبعد بعثته بل قبيلته ومرضعته وجده وأمه وروايات عن المعجزات التي حدثت أثناء ولادته من تكلمه بعد مولده وحديثه لأمه وهو في رحمها ومن أنه وُلد مختونا، وأن أحد ثدي مرضعته لم يكن يأتي بالحليب ولكن لما وضعته في فم النبي نزل منه الحليب، والكثير من الأشياء المشابهة.

وذكر أيضا الحلبي معجزة شق القمر وخروج الطاووس من الشجرة كمعجزات للنبي بناءا على طلب المشركين إليه لأن يثبت صدقه لهم.

ثم انتقل للكلام عن المعجزات عند الخصيبي، وهو يلاحظ غياب المعجزات عن علي بن طالب في الأدبيات السنية، ولكنه يجدها بكثرة عند الأدبيات الشيعية، ولكن نجد العقلانية في الأدبيات السنية عنها من الأدبيات الشيعية وذلك يعود لاستئثار الغالبية السنية بالحكم عن الفئة الشيعية، وبسبب ذلك ألجأ الفئة الشيعية للمغالاة في عالم الخيال لأنه لا تجد ذلك في الواقع.

ونجد فيها التعظيم الشديد لسيدنا علي بن أبي طالب وتفضيل النبي له عن بقية صحابته ونجد أن كثير من المرويات ذكرت لتؤيد هذه الفكرة وهي معجزات خاصة بسيدنا علي كرد الشمس بعد غروبها أو أن يقوم سيدنا علي بالمعجزة نيابة عن النبي بعد أن يأخذ أمره منه فتتحقق المعجزة على يد علي نيابة عن النبي.

وهنا نجد أيضا أن المرويات السنية ترتكز على الخلافة الراشدة لأبي بكر وعمر وعثمان ثم تؤول للدولة الاموية ثم بني عباس ولا نجد هنا ذكر لسيدنا علي، نجد أن المرويات الشيعية على العكس تركز على خلافة علي ووراثة ذريته له من فاطمة إلى أن تصل للإمام الثاني عشر محمد المهدي.

الفصل الثالث  والفصل الرابع في الكتاب يتحدث عن المعجزات الإمامية، وفي هذا الفصل يذكر الكثير الكثير من المعجزات والكرامات المتعلقة بالإمام علي وورثته من الأئمة الأثنى عشر ومعجزات متعلقة بالسيدة فاطمة، الذين ورثوا العلم والقدرة والحكمة والعصمة عن جدهم النبي سيدنا محمد والحجج البالغة لله في أرضه ليقيموا حجتهم على الناس ويدعوهم للهداية كما فعل جدهم وبقية الأنبياء ونجد ذلك في كتاب محمد بن جرير الطبري الشيعي وليس الطبري السني.

ونجد أن فكرة الإمامة في الإسلام الشيعي قائم على الاضطهاد فأغلب الأئمة ماتوا مسمومين وذلك ما كان السبب في توطيد منطق المعجزة فالمعجزة سلاح من لا سلاح له، وكما قلنا فبسبب سيطرة الإسلام السني على الحكم في أغلب الفترات فنجد أن منطق المعجزة عنده أقل من الإسلام الشيعي وأكثر عقلانية وأغلبها قائم على نسب المعجزات للنبي ومرويات أقل عن بعض الصحابة وخصوصا الثلاث خلفاء الراشدين باستثناء علي، ولكن الإسلام الشيعي يلجأ للمعجزة لكي يحصل على ما تمناه في عالم الخيال  لأنه لم يحصل عليه في عالم الواقع، كما إن الإسلام الشيعي كان صراعا لاهوتيا بجانب أنه صراعا سياسيا لأن الإمامة ليست من أركان الدين الخمسة في الإسلام السني بينما هي ركنه الأول في الإسلام الشيعي وهم اثنا عشر إماما وارثين للنبي عليه الصلاة والسلام ولهم معجزات وخوارق كما للنبي وهم حاملين لواء الدعوة من بعده لأن الإمامة عندهم هي المكملة للنبوة وهؤلاء الأئمة هم

علي بن أبي طالب، الحسن بن علي، الحسين بن علي ، علي زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق ،موسى الكاظم، علي الرضا، محمد الجواد النقي، علي الهادي النقي، حسن الزكي العسكري ،محمد المهدي.

وكانت المعجزات لهؤلاء الأئمة تندرج تحت تحدي قوانين الكون والطبيعة الكبرى كرد لشمس وتكليمها، وتهدئة الزلازل، وتحريك الجبال، واستنزال النجوم، والتحكم بمسار الأنهار، وقوانين الطبيعة الصغرى وهي القوانين البيولوجية فقد يتكلم الإمام وهو في رحم أمه وقد يمشي وهو بن أربعين يوماً أو قد يشهد لنفسه بالإمامة منذ ساعة مولده وقد لا يموت الإمام بالسم بسهولة حتى لو أخذ جرعة كافية للقضاء على عشرين من البشر غيره، والإلغاء العجائبي  للحواجز بين الحياة والموت ومنها أحياء الإمام للموتى وأحياء الأنبياء ومشاهير الأبطال التاريخيين ليشهدوا بإمامة الإمام أمام الناس.

وهناك الكثير من المعجزات المذكورة في الفصلين تفصيلا يمكن الرجوع إليها.

ثم في الفصل الأخير من الكتاب يحاول الكاتب تفسير منطق المعجزة وهو يرى أن في الصدر الأول من الإسلام كان القرآن هو المعجزة الاساسية وهو بلسان عربي وأرسل لقوم يفهمون العربية، أما مع توسع الإسلام وابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني الهجري دخل الكثير من الأعاجم الإسلام ولم تكون معجزة القرآن وحدها لتصمد وحدها مع قوم لا يفقهون العربية فتم إضافة طابع المعجزات الحسية وإلصاقها بالنبي ، وصورة النبي الصانع للمعجزات التي لا تقترن بشرط اللغة هي التي غلبت في إسلام الفتوحات وتم رفع قيمة المعجزات فيه والتعظيم للنبي والتعظيم للأحاديث بل يجوز بعض الأصوليين نسخ القرآن بالسنة، وبالرغم أن صحف الحديث الأولى ما كانت تحوي بين دفتيها إلا عشرات فقط نجد أن في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري قد تعدت الأربعين ألف حديث.

ثم تحدث الكاتب في الخاتمة على أهمية حدوث ثورة كوبرنيكية على التراث العربي تكون معتمدة على العقل وتنقية التراث من الأشياء الكثيرة الخارجة عن العقل كمنطق المعجزة المنسوب إلى النبي، وأن يبدأ العقل العربي في التعامل مع القرآن كرسالة من عند الله وأن يتخلص من الخرافات والأيدلوجيات المتوارثة وغير المعتمدة على العقل، لكي يبدأ في عصر عقلي جديد كما قامت قبل ذلك تلك الثورة في أوروبا لانتزاع سلطة الكنيسة ويحل محلها سلطة العلم وتفسير الأشياء على أساس عقلي علمي لكي ننهض بالبلاد.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات