المنهج الصوفي في المجاز والتأويل… بقلم: علي غرس الله
ثلاثة من المريدين كانوا يتجولون في السوق سمعوا زعتر برّي، فكل واحد منهم فسرها حسب ما يفقه وحسب سيره في الطريق، حيث قال المبتدئ أنه سمعها اسعى ترى بِرِّي، ثم المتوسط في السير أو الأكثر خبرة بمعالم الطريق سمعها السّاعة ترى بِرِّي، والذي أنهى سيره قال يا لَسعةَ بِرّي
بقلم: علي غرس الله
مهندس مهتم بالفكر الإسلامي
تونس

إختلاف الفرق وتعددها منذ فجر الإسلام من أكبر الأدلة على توتر القرآن الكريم، حيث تناولت كل فرقة القرآن الكريم حسب ما تراه هو وجه الحق، فمنهج السنة في تناول هذا الموضوع يرى أن القرآن يفسر بالقرآن ومن خلال سنة الرسول الكريم، ثم نرى منهج الشيعة ومنهج الإباضية ومنهج الصوفية، ثم الإتجاه الأدبي اللغوي أحد ممثلي هذا التيار في هذا العصر هو محمد هداية، ثم المنهج الفقهي و إستخراجه للأحكام، وهناك المنهج العلمي التجريبي الذي يوظف العلوم العصرية والإكتشافات الحديثة في تناوله لهذا التوتر، أحد ممثلي هذا التيار هو منصور الكيالي، وهناك من يجمع أكثر من نهج واحد أو ثلاثة في محاولة لفظ هذا التوتر كالدكتور عدنان إبراهيم وهو من الاشاعرة الصوفيين. الصوفيون أيضا تعاملوا مع فضّ التوتر القرآني من خلال المجاز والإشارات والرموز مثال من أمثلة تأويل الصوفية “اذهب الى فرعون انه طغى” أنه إشارة إلى القلب وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان، وفي قوله تعالى “وان الق عصاك” اي كل ما يتوكّأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه،
كما أسلفنا سابقا مرت الصوفية الإسلامية بتطور تدريجي في أفكارها نتبينه من خلال تفسيرهم الذي ما انفك تدريجيا عن ظاهر الآيات، فآنقسم مفسروا الصوفية في تفاسيرهم من ناحية التفسير الإشاري إلى أقسام خمسة : الأول من أعرض كل الإعراض عن هذا اللون من التفسير ولا تجد له فيه ذكرا، والثاني من إلتزم في أكثر تفسيره التفسير بالظاهر مع إشارات قليلة إلى التفسير الإشاري ومثاله تفسير النيسابوري، والثالث من جعل غالب همّه في التفسير الإشاري لكن يضيف إليه بقلة التفسير الظاهر كتفسير سهل التستري، والرابع من جعل همه كله في التفسير الإشاري ولا يشير مطلقا إلى التفسير الظاهر كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي، والخامس من جمع بين التفسير الإشاري والتفسير الصوفي النظري مع الإعراض كل الإعراض عن التفسير بالظاهر وذلك مثل تفسير ابن عربي، الحلّ التوفيقي الذي طرحه ابن عربي هو الاعتماد على الخيال الذي هو قوة وسيطة بين الحس والعقل (فلسفة التأويل لنصر حامد أبو زيد).

إبن عطاء الله الإسكندري في لطائفه نقلا عن بعض مشائخه (يهب لمن يشاء إناثا) أولها على أنها الحسنات، “ويهب لمن يشاء الذكور” قال أن المقصود منها العلوم، “ويجعل من يشاء عقيما” قال أنها تعني لا علم ولا حسنة، ثم فسر الشيخ الآية “ان الله يامركم ان تذبحوا بقرة” على أن بقرة كل إنسان نفسه، بعض مشائخ الصوفية قالوا عن الصلاة أنها عبارة عن واحدية الحق تعالى وإقامتها إشارة إلى إقامة ناموس الواحدية بالإتصاف بسائر الأسماء والصّفات، والطّهر عبارة عن الطهارة من النقائص الكونية وقراءة الفاتحة إشارة إلى وجود كماله في الإنسان لأن الإنسان هو فاتحة الوجود، وأما الزكاة فهي عبارة عن التزكي بإيثار الحق على الخلق، وأما الصوم فعلى قدر ما يمتنع الانسان أي يصوم عن المقتضيات البشرية تظهر آثار الحق فيه، وأما الحج إشارة إلى إستمرار القصد في طلب الله تعالى، والإحرام إشارة الى ترك شهود المخلوقات، ثم ترك حلق الرأس إشارة إلى ترك الرياسة البشرية وحب الوجاهة والسلطة.
حسب إبن عربي أيضا أن “الم” تشير حول الحروف التي هي كل الوجود، حيث هو كل لآن (أ) إشارة إلى ذات الله الذي هو أول الوجود و (ل) إلى العقل الفعّال المسمّى جبريل وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته وتتصل بأولها ولهذا ختم. كذلك بالنسبة لإبن عربي، العرش هو أول علم الأجسام وهو الجسم الكل الذي يمثل آخر مراتب عالم الأمر وأول مراتب عالم الخلق وهي ذاتها تمثل عالم الخلق.
إستعمالهم للرمز والإشارة في مذاكراتهم مثل مذاكرة زعتر برّي حيث ثلاثة من المريدين كانوا يتجولون في السوق سمعوا زعتر برّي، فكل واحد منهم فسرها حسب ما يفقه وحسب سيره في الطريق، حيث قال المبتدئ أنه سمعها اسعى ترى بِرِّي، ثم المتوسط في السير أو الأكثر خبرة بمعالم الطريق سمعها السّاعة ترى بِرِّي، والذي أنهى سيره قال يا لَسعةَ بِرّي. كما أنه واضح من كتابات فضل الرحماني والشبستري ومحمد محمود طه ومحمد شحرور، أنهم متأثرين بالمفاهيم الإشراقية والعلوم الصوفية. الرمز يمثل حل من حلول تفسير توتر القرآن عبر الزمن، حتى أن منهم من قال أن القرآن الذي يوجد بيننا اليوم ليس بالقرآن الحقيقي كلام الله إنما هو كلام منزل على حسب الوعي والإدراك الإنساني وإدراكه لماهيّة كلام الله.
حسب هنري كوربان في كتاب فلسفة التأويل لنصر حامد أبو زيد أن إبن عربي تأثر بمنهجان نتيجة تنقله بين الشرق والغرب، ولقاءاته خاصة مع إبن رشد والخضر هما منهج الإشراق كما مثله إبن سينا والسهروردي والشيعة، ومنهج العقل كما مثله إبن رشد وشرّاح أرسطو، لا سيما أن إبن رشد كان صديقا حميما لعلي بن عربي الذي هو والد إبن عربي، وكثيرا ما جمعته لقاءات مع إبن عربي، فابن عربي يمثل الفقيه العقلاني من جهة والمتصوف من جهة أخرى، وهذا واضح من خلال علاقته الطيبة مع إبن رشد وتأثر وإندهاش إبن رشد من كتابات إبن عربي عندما عرضها صديقه علي إبن عربي عليه، فقد حاول إبن عربي التغلب على مشاكل عصره بقدر هائل من الوسطية التوفيقية، فكانت توفيقيّته تستهدف خلق إطار موحّد يسمح بمشروعية كل الأفكار والتأويلات بإعتبارها تجليات مختلفة للحقيقة المطلقة المتعالية عن التقييد والحصر.
من هذا المنطلق قد نجد في فكر إبن عربي تشابهات كثيرة مع أفكار كثيرة قد ترتد في بعضها إلى الأفلاطونية المحدثة أو إلى الأرسطية أو إلى المعتزلة والأشاعرة أو إلى الشيعة. وقد ترتد بعض هذه الأفكار إلى الفكر المسيحي أو اليهودي أو الغنوصي. والحق أننا نجد لكل هذه العناصر وجودا في فكر إبن العربي وفلسفته، لكن هذه العناصر تتحول في مشروع إبن عربي إلى مركب جديد له قدر من الجدة والأصالة والتجديد. ومن هنا يصدق القول مع أبي العلا العفيفي أن لإبن عربي “في كل معسكر قدم”. فلو أن المعتزلة مثلا أدركوا أن الوجود الإلهي في حقيقته هو وجود لا بشرط، لما استحال لديهم القول بتعدد الصفات وثبوتها أو أزلية القرآن أو إمكانية الرؤية في الدار الآخرة، فإبن عربي وكأنه قام بتطوير فكر المعتزلة إلى المرحلة التالية ليخرج به من قفص المحدود إلى رحابة اللامحدود، أليس وجود الحق مطلقا حتى عن قيد الإطلاق فكيف يمتنع عليه تعالى تجليه الذاتي من خلال صفاته وكمالاته اللامتناهية أو تجليه الخارجي الفائق من وراء حجاب الحروف والكلمات البشرية أو ظهوره المعجز في مجالي “الصورة الخالدة” في ظلال نعيم السّماء،
وإذا كان المعتزلة لم يستطيعوا الوصول إلى هكذا حلول لأنهم في بداية نشأتهم كانوا أصحاب موقف من الواقع يحاولون صياغة موقفهم صياغة دينية، أما إبن عربي على العكس من ذلك رغم تأثره بهم، يحاول أن يفسر الواقع على ماهو عليه ويضفي عليه مسحة من الجمال تخفي قبحه، فصاغ فلسفته هذه على المستوى الوجودي والمعرفي والديني، إذ أنه العالم الذي يتضمن كل التناقضات والثنائيات والثنائيات إعتبارات مختلفة لحقيقة واحدة مطلقة فتزول الخلافات حينها داخل الدين الواحد وبين كافة الأديان أيضا، ويصل بذلك إبن عربي إلى الدين الكلي الشامل دين الحقيقة والحب الذي يسع كل أشكال العبادات وصورها ويؤكد ذلك في شعره (لقد صارَ قلبي قابِلا كُلَّ صورةٍ * فمرعًى لغزلانٍ وَديْرٌ لرُهبانِ * وبيتٌ لِأَوثانٍ وكعبةُ طائٍف * وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قُرآنِ * أَدينُ بدينِ الحُبِّ أَنّى َتَوجَّهَتْ * ركائِبُهُ فالحُبُّ ديني وَإِيماني)، ويعتبر أن هذه المعرفة معرفة ذوقية حدسية ينكرها العقل والحس لكن المنكرون معذورون لأن حقيقة الوجود تتجلى لهم على قدرهم.
جماع القول تتبدى أهمية إبن عربي في حقيقة أنه يمثل همزة الوصل بين التراث الصوفي والفلسفي السابق عليه كله، فحسب كتاب نصر حامد أبو زيد (فلسفة التأويل) تأثير إبن عربي لم يكن قاصرا على الجانب النظري للتصوف فحسب، بل إمتد بعمق إلى صياغة الحياة الصوفية كلها، فمن خلال الرومي في الشرق وأبي الحسن الشاذلي في الغرب تشكلت بتعاليم إبن عربي طريقتان من أكبر الطرق الصوفية. ومن أظهر الأدلة على أثر إبن عربي ذلك العدد الهائل من التعليقات والشّروح التي ألفت على كتبه. تجاوز تأثير إبن عربي الفكري عند حدود الثقافة الإسلامية في الشرق والغرب، بل يتجاوز ذلك إلى الفلسفة المسيحية الغربية كما أشار إلى ذلك أسين بلاسيوس في أبحاث كثيرة متنوعة، و مثل أيضا تأثيره في ريمون لول وتأثيره في دانتي أليجيري مؤلف الكوميديا الإلهية، حيث أثر في الأول بمفهومه عن الأسماء الإلهية وحضراتها، وأثر في الثاني بمفهومه عن الجنة والنار ومراتبها المختلفة،
ومنطلقات إبن عربي هذه تأسس لمفهوم الإنسانية الحقّة وتدعوا إلى إحترام الآخر والعيش المشترك الذي هو أساس الثقافة الغربية اليوم، وخاصة في زمن العولمة الإقتصادية والسياسية الذي أصبح فيه العالم قرية واحدة وذابت فيه الحدود الدولية بين الدول، فإبن عربي كان سابقا لزمانه وأثر في كثير من الفلسفات العصرية وفي بروز التنمية البشرية الحديثة.
ومن مآخذ الفرق الأخرى على الصوفية وتنكيرهم عليهم وإعتبارهم أنهم مبتدعة متأثرين بالفلاسفة والملاحدة انه لا يوجد نص حرفي في القرآن أو السنة يذكر فيها المقامات (الأكوان، الفناء، البقاء….) ومفهوم السير إلى الله بمختلف تعاليمه والسير في الله الذي تحدث عنه الصوفية، كما أنه لا يوجد نص واضح يؤكد على أهمية إتباع الطرق و أن كل طريقة مسؤول عنها شيخ يدعى شيخ التربية، إضافة إلى طريقة الذكر الصوفي (ما يطلق عليه العمارة يقولون عنها أن المريد فيها يحضر مع ربه ويشحن فيها قلبه بأنوار الذكر وكذلك طريقة ذكر الإسم الأعظم بالمدّ والتّعظيم لم تمارس من قبل الرسول أو من الصحابة حسب رأيهم)، ثم إنه لا يوجد دليل قوي لا يرضح للشك يؤكد على وجود السلسلة حيث تتواصل إلى ما لا نهاية من مشايخ أخذوا العهد من بعضهم البعض وصولا إلى الرسول الكريم، لأن بعض الفرق يشككون في صحتها ويعتبرون أحاديث الرسول التي إستندوا عليها أحاديث ضعيفة ولا يأخذون بها، فعلماء الحديث إستخرجوا من كتاب الإحياء فقط لأبي حامد أكثر من 600 حديث صنفوه على أنه ضعيف، وذلك لأن الصوفية الإسلامية فعلا هي وليدة الكثير من العوامل الداخلية والخارجية كما أسلفنا سابقا.
المقالة 1 دور المعتزلة في الفكر الإسلامي
المقال الثاني: النهج اصوفي ودوره في الفكر الإسلامي
المقال الثالث: نشأة التصوف الإسلامي وتطوره عبر القرون
المقال الرابع : المنهج الصوفي في المجاز والتأويل
المقال الخامس : التعبير عن التجربة الصوفية والتمية البشرية
دورة التصوف في المدينة الحديثة بأكاديمية تفكير قدمها د. وليد الخشاب
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
0 comments