المهلبية في زمن الحرب.. قصة تأليف: جون ت. سلاديك…. ترجمة: أنطونيوس نبيل

أنطونيوس نبيل
شاعر وملحن.

d8a7d986d8b7d988d986d98ad988d8b3-d986d8a8d98ad984-d8b4d8a7d8b9d8b1-d988d985d984d8add986 المهلبية في زمن الحرب.. قصة تأليف: جون ت. سلاديك.... ترجمة: أنطونيوس نبيل

المهلبية في زمن الحرب

كانتْ أجنيس قد أمضتْ يومَها بأَكْمَلِهِ تتمنَّى أَنْ يكونَ لها طِفْلًا؛ لذا لم تعترها الدَّهْشَةُ حينما اِخْتَلَسَتْ النَّظْرِ عَبْرَ الباب الزجاجيّ للفُرْنِ فوجدتْ طفلًا بداخِلِه. مُقَمَّطًا بنسيجٍ قُطْنِيٍّ نظيفٍ، غفا الطفلُ على الرفِّ السِّلْكيِّ، بينما كانتْ تُنَظِّفُ القِنِّينَاتِ الغَبْرَاءَ وتُعِدُّ رَضْعَةً صِنَاعيَّة وتُنْزِلُ المَهْدَ مِنَ السَّنْدَرَةِ. وبينما كانتْ تُعْطِي الطِّفْلَ رَضْعَتَهُ الأُولَى، أَتَى جلين المنزلَ عائدًا مِنَ العَمَلِ.

صاحتْ “انظرْ، طفلٌ!”
“يا إلهي، مِن أينَ لكِ به؟ إنَّكِ على عِلْمٍ تامٍّ بأنَّ إنجابَ الأطفالِ مخالفٌ للقانون.” قال هذا وقد اِمْتقَعَ وجهُهُ النَّاضِرُ المُتَوَرِّدُ.
“لقد عثرتُ عليه، لِمَ يكونُ هذا مخالفًا للقانون؟”
هَمَسَ قائلًا “إنَّ كُلَّ شيءٍ مخالفٌ للقانون.” فَتَحَ ثُغْرَةً بينَ السَّتَائِرِ لينظرَ خُلْسَةً إلى الخَارِج. “قبَّحَهُ الله، إنَّهُ قريبٌ.” بَدَا وجهُهُ، المُلْتَصِقُ بِرَأْسٍ وَرْدِيٍّ مُكَعَّبٍ، مُكْفَهِرًا يَعْلُوهُ الاصفرارُ.

“ما الأمرُ؟”
“لَا شيءَ.” قالَها بغضبٍ. “إنَّنا مقبلون على حربٍ مِنْ حروبِ الغاز، هذا كُلُّ ما في الأمرِ.”
كان جلين في حالةٍ يُرثَى لها وهو يتحرَّك بشكلٍ حَذِرٍ خشيةَ أن يُقَعَ ظلُهُ عَلَى السَّتائِر.ِ كانتْ سُتْرَتُهُ البلاستيكيَّةً البَّرَاقَةُ الضَّيِّقَةُ بعيدةً كُلَّ البُعْدِ عَنْ أَنْ تَكُونَ ضيِّقَةً عَلَيْهِ، وحتَّى عباءتُهُ بَدَتْ فضفاضةٌ على نحوٍ مُفْرِط.
“هل هذا كلُّ ما في الأمرِ؟”
“لا، انظري لجارنا ما يزالُ يُلَمْلِمُ أوراق الشَّجْرِ لدَهْرٍ من الزَّمَنِ.”
“أجبني، ما المشكلةُ؟ هل وَقَعَ أمرٌ في المكتب؟”
“كلُّ الأمورِ وقعتْ، أوراقُ النَّسْخِ الكَرْبُونِيَّةُ والطَّوَابِعُ ومَشَابِكُ الورقِ كُلُّها أَخَذَتْ في الاختفاءِ، وأخشى أنَّهم سيلقونَ التَبِعَةَ عليَّ. ورئيسي في العمل عازمٌ على شراءِ حاسوبٍ، ليقتفيَ أثرَ المفقودات. وفي القطار نَشَلَ شخصٌ بطاقةَ تمويني، فأُفَاجَأُ بأنَّني أَحْمِلُ عِوضًا عنها جَرِيدَةَ الأُسبوعِ المُنْصَرِمِ. وآي بي إم أَسْهمُها آخذةٌ في الهبوطِ هبوطًا خَجُولًا. وقد أصابتني نزلةُ بردٍ أو عِلَّةٌ على شاكلتِها. ونظام ديوي العشريّ للتصنيف قد شرعوا في إلغائِهِ.”
“إنَّ أعصابَكَ مُتَوَتِّرةُ مِن فَرْطِ الإجهادِ، لِمَ لا تجلسُ وتهدهدُ طفلَنا الجديدَ على ركبتَيْكَ، بينما أُعِدُّ سريعًا بعضَ العشاءِ”

“سرقة الطعام! يا لَهُ مِن أمرٍ مُخْزٍ”
“حبيبي، الناسُ كلُّهم يقومون بسرقةِ الطعامِ. هل عَلِمْتَ بأنَّني عثرتُ على الطفل في الفُرْنِ؟”
“لا.”
“أجل وَقَعَ هذ الأمرُ الذي لا مثيلَ له في غرابتِهِ. كنتُ أتمنَّى أن يكونَ لي طفلًا، وإذ بِي أَجِدُهُ في الفُرنِ.”
“وما حالُ الأجهزةِ المنزليَّةِ الأخرى؟”
“الغسَّالةُ الآليَّة حاولتْ ابتلاعي. وغسالة الأطباق على وشك التَّوَقُّفِ؛ لا بُدَّ أننا نَسِيَنا أَنْ نُسَدِّدَ قسطًا من أقساطِها.”
قال مُتأوِّهًا “نعم، إنَّنا مُثْقَلَانِ بالدُّيون.”
“مطحنةُ القمامةِ تبدو مُتَرَهِّلة.”
مُتَرَهِّلة؟”
“ها هي ذي هناك.”
لم ينظرْ إلى المَوْضِعِ الذي أشارتْ إليه، بل ظَلَّ يختلسُ النَّظرَ عبرَ النَّافِذَة إلى الخارج، حيث كانتْ حالةُ الطَّقْسِ تَزْدَادُ سُوءًا على على نحوٍ مُطَّردٍ، وكانت عربةُ تَرْحِيبٍ تسويقيَّة تسيرُ ببطءٍ في الشَّارعِ، لم يَتَمَكَّنْ مِنْ قراءةِ شِعَارِها ولكنَّه تنبَّه إلى دروعِها المُصَفَّحَةِ وميَّزَ الفوهاتِ المًزْرَقَّةَ لأسلحتِها الرشَّاشة.
“ها هي ذي تجلسُ مُتَرَهِّلةً في الحوضِ، لا تُريدُ أن تأكلُ أيَّ شيءٍ، إلا أنها قد أكلتْ شهادة ضمانها.”
توقَّفَ الجار، الذي يبدو رجًلا مألوفًا وساذَجًا، عن جَمْعِ أوراقِ الشَّجْرِ؛ ليدوِّنَ رقمَ الرُّخْصَةِ الذي تَحْمِلُهُ عربةُ الترحيبِ التسويقيَّة.
قالَ جلين “ليست مترهلة يا حبيبتي، بل مُتَجَهِّمَة.”
“إنَّك تمتلكُ مخزونًا من الألفاظِ المُفَخَّمَةِ على الرغم مِن أنَّك لا تتصفَّح كتابَ (كيف تُبْدِعُ ألفاظًا مُفَخَّمةً) أبدًا”
اعترفَ لها قائلًا “إنَّني أقرأُ جريدةَ (الموجز الوجوديّ) حينما يَتَوَفَّرُ لي الوقتُ، ولكنَّني في الأُسبوعِ السَّالِفِ خَضَعْتُ لاختبارِهم فعرفتُ أنَّني لَسْتُ مُغْتَرِبًا وجوديًّا بِقَدْرٍ كَافٍ؛ ولذلك أنا فخورٌ غايةَ الفخرِ بأطفالنا”
“جيني وبيتر؟”
“على حدٍّ سواء.”
تنهدتْ أجنيس. “إنني أرغبُ في قراءة جريدةَ البريد الأيرلندي (أيْريش ميل) في وقتٍ ما. على فكرة، البطاطسُ مسمومةٌ مُجَدَّدًا، كُلُّ بَرَاعِمِها سَامَّةٌ.” مَضَتْ إلى غرفةِ النَّومِ ووضعتْ الطفلَ في مَهْدِهِ.

“سأنزلُ وأقوم بصُنْعِ شيءٍ على المِخْرَطَةِ.”
“انزعْ عنكَ عباءتَك أوَّلًا، أَمَا تتذكَّر قوانينَ الأمانِ التي تَعَلَّمناها في رابطةِ الآباءِ والمُعَلِّمِين؟”
“يا رَبِّ، هل بمقدوري أَنْ أنساها؟ أَطْفِئْ الشُّمُوعَ كُلَّها، لا تَقِفْ في كانو (زَوْرَقٌ خشبيٌّ صغيرٌ) ولا في حوضِ الاستحمام. لا تُعْطِ أحدًا إلَّا اسمَك ورُتْبَتَك ورَقَمَك التَّسَلْسُلِي فحسب. لا تَقْبَلْ مِنَ الشِّيكَاتِ إلَّا المُوَقَّعَةَ فِي حُضُورِكَ. لا تَسْمَحْ للفئران بأَنْ تَمْضُغَ أعوادَ الثِّقَابِ إنْ اشْتَهَتْ ذلك.”

اختفى جلين في ذاتِ اللَّحْظَةِ التي وَصَلَ فيها بيتر وجيني إلى المنزلِ عائدَيْنِ مِنَ المدرسةِ، مطالبَيْنِ بوجبةٍ خفيفةٍ. قدَّمتْ لهما أجنيس حساءً مَجَرِيًّا وخبزًا وزبدةً وقهوةً وفطيرةَ تفاحٍ. مَنَحَها كُلٌّ منهما 95 سِنْتًا ثمنًا للوجبةِ الواحدة ونَفَحَها كلٌّ منهما بقشيشًا قَدْرَهُ 15 سنتًا. كانا في الثامنةِ من عمرهما شَرِسَيْنِ عنيدَيْنِ، يكادان لا ينبسان بكلمةٍ بينما يأكلان، وكانت أجنيس تخشاهما بعضَ الخشيةِ. بعد أَنْ تناولا وجبتَهما الخفيفةَ، تمنطقا بأحزمةِ المسدساتِ. خرجا سريعًا ليطاردا الأطفال الآخرين، قبل أَنْ يَحِلَّ الظلامُ ويصيرا عَاجِزَيْنِ عن رؤيتهم.

تنهدتْ أجنيس وجلستْ إلى جهازِ الإرسالِ السِّري الخاصِّ بها، وأرسلتْ “الخالة وردة متوقع وصولها على متن قطار الظهيرة، لقد قُمْتُ بالترتيبات المتعلقة بأزهار الجلاديولس. تحقَّقْ مِن أَنْ حلوى الفَدْج ستستقبل طائرة باريس 0400 بالشموع. البُستانيُّ أَعْوَزَهُ الجاروف السَّريع.”

جاءها الرَّدُّ في هُنَيْهَةٍ “قُمتُ بالتريبات المتعلقة بالجاروف. حلوى الفّدج ليس، أُكرِّرُ، ليس لديها شموعٌ. سأستعمل المبيدَ الحَشَريّ. احتجزي وردة حتَّى تصلني أخبارٌ عن بنفسجة.”

دائمًا ذاتُ الرسائلِ المكرورةِ التي لا طرافةَ فيها ولا معنى لها. حينما شعرتْ أجنيس بجلين يرتقي السُّلم صاعدًا، أخفتْ جهاز الإرسال في قارورةِ الكوكيز (كُعيكات مُحَلَّاة ومُزيَّنة بحبات الشيكولاتة). كان جلين يمتلكُ في القبوِ جهازَ إرسالٍ خاصًّا به، هذا ما لا يُساورُها شكٌّ فيه. وكُلُّ ما أَمْكَنَهَا أَنْ تقولَهُ هو إنَّ الشخصَ الذي تتواصل معه كُلَّ مساءٍ، لم يكن سوى جلين.

“انظري إلى هذا” قالها مَزْهُوًّا بنفسِهِ وهو يكشفُ لها عن قائمةِ الدَّرابزين التي أتمَّ صُنْعَها. وفي الخارج أسقطتْ طائرةٌ منشوراتٍ، فهُرِعَ إليها الجار؛ ليجمعَها في كومةٍ ويحرقَها.

قال جلين وهو يَكزُّ على أسنانِهِ مُتَجَهِّمًا “كلَّ ليلةٍ يحدثُ الأمرُ اللعينُ ذاتُهُ، كُلَّ ليلةٍ هُم يُسقطونَ منشواراتٍ تطالبُنا بالاستسلام، وكلَّ ليلةٍ ذلك الزَّنِيمُ يحرقُ كلَّ المنشوراتِ. إنْ استمرَّ الأمرُ على هذا المنوال فلن نعرف أبدًا مَنْ يكونون هُم.”
تساءلتْ أجنيس “هل الأمرُ على هذا القَدْرِ من الأهميةِ؟” فلم يُجِبْ. “هلمَّ، لا تكنْ مُتَرَهِّلًا، سأخبرك بما أُرِيدُ أَنْ أفعلَهُ. أريدُ ركوبَ قطار السِّكة الحقيقيَّة.”
“السكة الحديديَّة.” قال مصحِّحًا لها. “لا يُمْكِنُك أن تفعلي هذا؛ فهيئةُ الصِّحَّةِ العَامَّةِ تقولُ أَنَّ السَّفَرَ بسرعةٍ تفوقُ الثلاثين ميلًا في الساعةِ، له دَورٌ بالغُ الأهميَّةِ في الإصابةِ بالسرطان.”

“ما أَشَدَّ اكتراثَكَ بما يحدثُ لي!”
مُذْعِنًا طأطأ جلين رأسَهُ الضَّخْمَ المُكَعَّبَ أمامَ التلفاز ثُمَّ قالَ “سوف تلاحظين أنَّها تبدو كأنَّها محضُ مباراةٍ بريئةٍ لكُرَةِ القَدَمِ بين الجيش والبحريَّة، وقد يكونُ هذا حقيقةَ أمرِها. رُبَّما لن تنفجر الكُرة حين يركلُها اللاعب. رُبَّما تكونُ مجموعةُ الاستراتيجياتِ المُتَّبَعَةِ في هذه اللعبة، هي مجرَّد مصادفاتٍ لا أكثرَ.”
غمغمتْ أجنيس “اللاعبُ رَقْمُ سبعةٍ وعشرين يتراجعُ عن خطِّ الاشتباك ليقوم بتمرير الكُرةِ. أتساءلُ حقًّا ما معنى هذا؟”
أحسَّ جلين بيدِها تمتدُّ لتلمسَ يدَهُ، فأمسكَ بيدها في عتمةِ غرفةِ المعيشة، بعد أَنْ تيَّقنَ مِن أنَّها لا ترتدي خَاتَمَها المسموم.
تمتمَ “نزلةُ بردٍ، هكذا يدعونها نزلةَ بردٍ، بالمناسبة، هل أخبرتُكِ بأنَّنا نازلانِ إلى قَعْر الإفلاسِ وغارقانِ في الدُّيون.”
“نعم، إنها تلك السيارة اللعينة. هل نحن في حاجةٍ حقًّا إلى كُلَّ تلك المزايا الخاصَّة التي سوف تطلب إضافتها للسيارة؟”
“البازوكا (قاذف للصواريخ المضادة للمركبات) في شنطة السيارة؟ جهاز تحديد الاتِّجاهات بالموجات الصوتية؟ بُرج المدفع؟ كلُّ الناسِ امتلكوا هذه الأشياء منذ سنوات بعيدة. كيف لي أن أتصرّف إن شرعت الشُّرطة في ملاحقتي؟ كيف لي أَنْ أَفُوقَهم سُرعةً وأتمكَّنَ مِن الفرار بينما أقودُ سيارةً تَبْهَظُها كُلُّ تلك الدروع المصفَّحة؟”

قالت “لا أعرفُ كيف سنَجِدُ قوتَ يومِنَا.”
“بمقدورنا أن نقتات على الطوابع الخضراء، إلى أن…”
“لا، لقد قاموا بمصادرتها هذا الصباح، ونسيتُ أَنْ أخبرَكِ”

دَخَلَ الطفلانِ المنزلَ، كأنَّهما في اقتحامٍ عسكريٍّ تفوحُ منهما رائحةُ الوَحْلِ والكوردايت (نوع من البارود شحيح الدُّخْان). كانتْ جيني مُصَابةً، إذ أنَّ حاجزًا من السلكِ الشائكِ خَدَشَ رُكبتَها. وضعتْ أجنيس ضُمَّادةً لاصقةً على ركبةِ جيني، وقدمتْ للطفلَيْنِ القهوةَ والدُّونَتْس (كعكات محلَّاة حلقيَّة الشكل)، وذلك في مقابل 15 سِنتًا. ثُمَّ أرسلتهما إلى الدور العلوي ليُنَظِّفا أسنانهما.
صاحَ جلين “بالله عليكما، لا تستخدما ماءَ الصنبور، فإنَّ بِهِ شيئًا ما.” دخل جلين إلى الغرفة التي كانَ فيها الطفلُ غافيًا، وقبل أَنْ تمرَّ دقيقةٌ عاد وهو يهزُّ رأسَهُ قائلًا “أقسمُ أنَّني سمعتُ قلبه يَخْفِقُ مُصْدِرًا صوتَ تكتكةٍ.”

“آهٍ يا جلين، هلمَّ بنا ننطلق لبضعِ أيامٍ. دعنا نذهب إلى الريف.”
بالطبعِ. سنقطعُ مسافةَ عشرين ميلًا فوقَ طُرُقٍ ملغومةٍ، لنشاهد كومتَيْنِ من رَوَثِ البَّقرِ فحسب. إنَّكِ لن تتجاسري على الخروجِ مِنْ السَّيارةِ رُعْبًا من الأفاعي المُمِيتة. إنَّهم قد بذروا التُّربةَ لبلابًا سامُّا وفيروساتٍ عملاقةً.”
“إنني لن أُبالي بهذا! لا أريدُ إلَّا استنشاقَ الهواء الطَّلق…”
“بالطبعِ. غازُ الأعصاب، غازُ الخردل، غازٌ مسيلٌ للدموع، حبوبُ اللقاح، إن تَمَكَّنَا مِنَ البقاءِ أحياءً بعد كُلِّ هذا، فسيُقبضُ علينا لا محالةَ. ففي هذه الأيام، لم يَعُدْ يذهبُ إلى الريف إلَّا تُجَّارَ الممنوعاتِ؛ ليُفَتِّشُوا عن التَّبْغِ البَّرِّي.
أجهشتْ أجنيس بالبكاءِ. كُلُّ شخصٍ كان شخصًا آخرَ، ولا أحدَ كان نفسَهُ. كان جامعُ القمامة يفحص بدقَّةٍ رسائلَهَا إلى بائعِ الحليب. وفي الحديقة، الحمائمُ كلُّها ترتدي كبسولاتٍ معدنيَّةً مُلْصَقَةً إلى سيقانها. وفي الريفِ ستجدُ أكوامًا مِن روثِ البقرِ، ولكن لا بقرَ هناك. حتَّى في السوبر ماركت، يتحتَّمُ عليك أَنْ تتوخَّى الحِيْطَةَ؛ فإنَّك لو انتقيتَ أشياءَ يبدو أنَّها قد تُشكِّلُ نمطًا من الأنماطِ…

سألها جلين “هل بَقِيَ لدينا شيءٌ مِن المَصَّاصَاتِ المُثَلَّجة؟”
“لا، ليس هناك شيءٌ في الثلَّاجةِ غيرَ بَقِيَّةٍ مِن المهلبية. ولكن ليس بمقدورنا أَنْ نأكلها لأنَّ في باطِنِها خريطةً مخبوءةً. جلين، ما الذي سنأكله؟”
“لا أعلم، ماذا عن… الطفل؟ لا تَرْمُقِيني بتلك النظرة! ألم تَجِدِيهِ في الفُرنِ؟ فلنفترض أنَّك أَوْقَدْتِ الفُرنَ دونَ أَنْ تنظري إلى داخله.”
“لا، لن أتخلى عن طفلي كي تَتَبَنَّاهُ- كسرولةُ! (قِدْرٌ للطَّبْخِ)”
“لا بأس، لا بأس، كان هذا مجرَّد مقترحٍ لا أكثرَ، هذا كُلُّ ما في الأمرِ.”

الظلامُ الآن مُسْتَشْرٍ في جَوْفِ المنزلِ، المصنوعةِ جدرانُهُ من مَعْدِنِ الرَّصاصِ، ما خلا المطبخَ وَحْدَهُ. ومن النافذةِ، المصنوعةِ مِنَ الكوارتز، يُرى الغَسَقُ مُخَيِّمًا على الفَّنَاءِ المُعْشَوْشِبِ، وعلى الجَسَدِ الجامد للجَارِ الذي يدَّعي أنَّهُ رجلٌ مألوفٌ وساذَج. والتلفازُ يعرضُ ندوةً يتساءلُ فيها أطباءٌ نَطَاسيُّونَ عمَّا إذا كان السَّبَبُ الرَّئيسيُّ للجنونِ هو تناولَ الطَّعَامِ.

دُقَّ البابُ الأماميُّ، فذهبتْ أجنيس لتفتحه، بينما عاد جلين إلى المطبخ. قال الكاهن على الباب لأجنيس “اغفري لي يا بُنَيَّتي، فأنا في زيارةٍ لمُدْنَفٍ يُحْتضَرُ، وقد أعارني شخصٌ صالحٌ شاحنتَه التي تُقدِّمُ الخدماتِ المتعلقةَ بالحفاضات، ولكنني أخشى أنها قد تعطلتْ، لذا أتساءلُ هل تسمحين لي باستخدام الهاتف لإجراء مكالمة أنا في مسيس الحاجة إليها؟”

“بالتأكيد يا أبانا. الهاتفُ مراقبٌ بالطَّبعِ.”
“بالطَّبعِ.”
تنحَّتْ جانبًا لتسمحَ للكاهن بأَنْ يَمُرَّ إلى الداخل، وفي ذات اللحظةِ صاح جلين “الطفلُ! مُنْكَبٌّ على المهلبية!”
هُرِعَ الكاهن وأجنيس، ليَنْظُرَا ما الأمر. في المطبخ النضيفِ جيِّدِ الإضاءةِ، كان جلين واقفًا فاغِرَ الفَمِ أمام الثلاجةِ المفتوحةِ. بطريقةٍ ما، استطاعَ الطفلُ أن يَفْتَحَها. فالآن في وسعِ أجنيس أن ترى مؤخرة الطفل التي تُغَطِّيها الحفاضةُ، وأصابعَ  قَدَمَيْهِ ورديَّة اللون ناتئةً مِن الرَّفِ السُّفلي للثلاجة.
قالت “لا بُدَّ أنَّهُ جائعٌ.”
قال جلين صارًّا على أسنانِهِ “دَقِّقي النظرَ.”

مالتْ أجنيس؛ لتنظرَ مِنْ قُرْبٍ، فرأتْ الطفلَ قد انتزعَ الخريطةَ من المهلبية، وأخذَ يلتقطُ لها صُوَرًا بكاميرا ذاتِ حَجْمٍ بالغِ الضَّآلةِ.
قالت وهي مبهورةُ الأنفاسِ “ميكروفيلم!”
سألَ جلين الكاهنَ “مَن أنتَ؟”
“أنا…”
“انتظر لحظةً، إنَّك تبدو لي خِلَافَ ما تريدُ أَنْ تُظْهِرَه بردائك الكهنوتيِّ هذا”
رأتْ أجنيس في الضوء أنَّ هذا حقيقيٌّ؛ فقد أحدثَ تيارُ الهواءِ صوتَ خشخشةٍ حينما مَرَّ عبرَ ردائه الكنهوتي المصنوعِ مِن أوراقِ النَّسخِ الكربونيَّة التي جُمِعَ شَمْلُها بمشابكِ الورقِ. وكان وشاحُهُ الكهنوتيُّ عندَ تدقيقِ النَّظرِ يتكشَّفُ عن شريطٍ مِنَ الطَّوابعِ أُرْجُوَانيَّةِ اللونِ.

استطرد جلين قائلًا “إن كنت كاهنًا بالفعل، فلِمَ ياقتُكَ الكهنوتيَّةُ تحملُ اسمَ مكتبي وعنوانه؟”
“يا لكَ مِن أريب!” قالها الرجلُ وهو يسحب مسدسًا مِنْ كُمِّهِ. “إنني أُرْثِي أنَّك فَطِنتَ إلى كُنْهِ خُدْعتِنا، إنَّني أُرثِي لك، هذا كُلُّ ما في الأمر.”
“خُدعتنا!” رددها جلين وهو يلتفتُ إلى الطفل. “انتظر لحظةً. أجنيس، أخبريني ما نوعُ السَّيارة التي قادها إلى هنا؟”
“شاحنةُ حفاضاتٍ.”
“آها! لقد انتظرتُ زمنًا مديدًا حتَّى أتمكَّنَ مِن إدراكك- يا رجل الحفاضاتِ. يبدو أن سيرتَك المهنيَّةَ التي تَتَّسِمُ بالتقلُّبِ قد عَمَّرَتْ أطولَ ممَّا ينبغي.”
“آه، إذن فإنَّكما قد تَعَرَّفتُمَا عليَّ وعلى مساعدي الذي يمتلكُ رُكْبَتَيْنِ لهما غَمَّازَتَانِ، أليس كذلك؟ ولكنِّي أخشى أَنْ هذا لن يفيدكما بشيءٍ. أَلَا تريان أنَّ الصُوَرَ في حَوْزَتِنَا بالفعلِ، وإنَّنا قد ادَّخرنا رصاصةً لكُلٍّ منكما؛ فلا تُحاولا رَدْعَنَا!”

رَفَعَ الكاهنُ الزَّائفُ الطِّفْلَ بين يَدَيهِ بينما كانت عيناه تراقبان جلين وأجنيس، ثُمَّ تَوَجَّه لهما قائلًا “أعتقد أنَّه من الأفضلِ أَنْ أقتلكما على أيِّ حالٍ؛ فإنكما حقًّا تعرفان عن منهجي في العملِ أكثرَ ممَّا قد يُبيحُ لكما البقاءَ أحياءً.” والطفلُ بينَ ذراعيه يُلَوِّحُ بالكاميرا مُبْتَهِجًا بإغاظتِهما، صادحًا بصيحاتِ التَّهَكُّمِ.
قال رجلُ الحفاضاتِ “حسنًا، مِن فضلكما استديرا وواجها الحائط.”
قال جلين “الآن!” ووثبَ نحو المسدس، وفي ذاتِ اللحظةِ ركلتْ أجنيس برشاقةٍ الكاميرا مِن قبضةِ الطفلِ البَّضَّةِ.
بدا الطفلُ الجاسوسُ مصعوقًا مِن الدهشةِ، ولكنه تصرَّفَ سريعًا بحركةٍ طفيفةٍ مبهمةٍ. انتزعَ ملءَ قبضتين من المهلبية، وقذف عَيْنَيّ جلين بهما. لاهثًا أسقطَ جلين المسدس مِنْ يَدِهِ بينما انطلقَ الثُّنائيُّ البغيضُ نحو الحُرِّيَّةِ.
قالَ الكاهن الزائف وهو يقفزُ إلى داخل شاحنته “لن تَأْسِرَاني حَيًّا أبدًا.”
قالَ جلين “فلنتركهما يذهبان.” وبينما يتذوَّق المهلبية أكمل قائلًا “كان يَجِبُ عليَّ مبكرًا أَنْ أفطن إلى أَنَّ صوتَ التكتكةِ الصادرَ عن الطفلِ لم يكن خفقانَ قلبِهِ، بل طقطقةَ نَقَرَاتِهِ على الكاميرا. ولكن فلنتركهما يذهبان؛ فلن يبتعدا كثيرًا على أيِّ حالٍ؛ ونحن قد أنقذنا الخريطة. حتَّى وإن كان الأمرُ لا يستحقُ كُلَّ هذا.”
“حبيبي هل أنت بخير؟”
“بخير، إممم، ما أشهى هذه المهلبية يا أجنيس، سَلِمَتْ يداكِ “
اِحْمَرَّتْ وجنتاها خجلًا مِن إشادتِهِ. وبُغْتَةً سمعا صوتَ انفجارٍ مكتومٍ، كان في وسعهما أَنْ يريا مِن بُعدٍ ألسنةَ لهبٍ ترتفع إلى عنانِ السَّماء.
قال جلين “شركةُ إيسُّو للنفطِ والغازِ تقصفُ بالقنابل محطةَ الوقودِ التابعةَ لشركةِ شِل”. لقد بدأت حربُ الغاز.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات