الموت عطشًا في بلاد النيل … بقلم: إيمان إسماعيل

في أسوان لم أعرف أبدًا ما المقصود بالشتاء والخريف والربيع، كل لياليه صيفية وكل أيامه شمسها حارقة. طقس لم أعتده ولم أفهمه ولم أحبه، ربما فقط أحببت تلك النسمات التي كانت تأتي من النافذة المطلة على السهل الذي يتزين في نهايته بجبل وردي اللون وطريق غير ممهد يشق قلبه متجها إلى المجهول.

بقلم/ إيمان إسماعيل

20240502_221413-1 الموت عطشًا في بلاد النيل ... بقلم: إيمان إسماعيل

كنت أنتظر كل ليلة تلك النسمات لأستمتع بفنجان قهوة يصاحبه تصفح الأهرام أو الأخبار، على حسب ما يجلب زوجي معه من الجامعة كل يوم، لا يهم، لا فارق بينهما، المهم نسمة الهواء والسكون وفنجان القهوة.

في يوم من أيام شهر يوليو سنة ٢٠١٢ النارية أحضر زوجي الأهرام، وضعه على طاولة الطعام، كنت أتحسسه في ذهابي وإيابي، أنتظر اللحظة التي أقلب نفسي بين أخباره، أشم رائحة الحبر التي تفوح منه، ألطخ أناملي بسواده. 

حانت اللحظة أخيرًا وجلست أتصفح الأهرام، لا جديد كالعادة، كلها حكايات مكررة عن انقطاع الكهرباء ونقص البنزين وتوجه سياسة الإخوان نحو التمكين والسيطرة على أجهزة الدولة المختلفة، وقبيل انتهائي من فنجان القهوة وبينما بدأ الملل المعتاد يدق أسوار عقلي، إذا بي ألمح صورة فيها ثلاثة رجال، أعرف أحدهم جيدا، أتذكر حين التقيته في نادي أعضاء هيئة التدريس، تعرفت عليه وعلى زوجه، تكررت لقاءاتنا في النادي، أحيانا كنت ألمحه في السوق، وعند زوايا الطرقات، فأسوان صغيرة، والوجوه فيها تتلاقى دائما.

أمعنت النظر في الصورة، إنه هو بالفعل، صورته يعلوها عنوان “الموت عطشا في بلاد النيل”، أيعقل هذا؟ مات الرجل؟ 

ناديت زوجي، وسألته عن مدى صحة الخبر، يقولون أن الدكتور أحمد محمد أستاذ الجيولوجيا مات عطشا أثناء رحلة استكشافية في صحراء أسوان القاحلة، كيف يموت أستاذ الجيولوجيا الذي خرج في رحلات وبعثات مئات المرات بالعطش؟ 

قرأ زوجي الخبر وأخذته الصدمة بعض الشيء، ثم استفاق وبدأ اتصالاته بزملائه ليؤكدوا موت الدكتور أحمد وتلميذه الدكتور أشرف زكي، لم ينجو من الواقعة إلا سائق السيارة الذي التزم بإجراءات الأمان كما تعلم، بقي بجوار السيارة، حافظ على الماء قدر المستطاع، كان يخلط البول بالماء بقدر معين حتى يتمكن من شربه دون التعرض للتسمم، احتمى من الشمس الحارقة داخل السيارة، فنجى الرجل بعد عدة أيام عندما وجدته بعثة خرجت للبحث عن الفريق.

أما دكتور أحمد ودكتور أشرف فقررا البحث عن الماء والطعام، يحكي السائق أنهم اقتسموا كل شيء، الطعام والشراب والأغطية، توسل إليهم الرجل ألا يغادرا، وأن من الطبيعي أن بعثة ستأتي بحثا عنهم وأن أول خط ستتبعه هو البحث عن السيارة، لكن الرجلان لم يستمعا، أكدا أنهم أعلم بالصحراء منه، وأن الماء قريب، رحلا في مواجهة الموت.

نجا السائق بينما وجدت جثتا الرجلين بعد رحلة بحث شاقة، ماتا عطشا وتركا خلفهما تساؤلات استوقفت الجميع بمن فيهم زملاءهم في الجامعة، كيف لأستاذ دكتور ومدرس مساعد ألا يلتزما بتعليمات السلامة ويرحلا في صحراء قاسية كهذه ويعرضا حياتهما للخطر؟ ماذا تعلما في الجامعة؟ ماذا يعلمان في الجامعة؟ أين الخطأ؟ من المخطئ؟ ما الذي دار في عقليهما ليرحلا؟ ما الذي يمتلكانه من معلومات عن المنطقة جعلت نفسيهما تسول لهما بوجود الماء؟ مات الرجلان ونجا عم محمود السائق وفي نجاته حكاية تقول إن العلم وحده لا ينفع، أو ربما العلم وحده ينفع.

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات