النهج الصوفي ودوره في الفكر الإسلامي .. بقلم: علي غرس الله

علي غرس الله

بقلم: علي غرس الله

مهندس مهتم بالفكر الإسلامي تونس

d8b9d984d98a-d8bad8b1d8b3-d8a7d984d984d987-edited النهج الصوفي ودوره في الفكر الإسلامي .. بقلم: علي غرس الله

تاريخ أصول المنهج الصوفي والمنابع التي استقى منها أفكاره :

الصوفية من جملة الفرق التي ظهرت وتطورت عبر السنين، وبدأت تنفك شيئا فشيئا عن علم الظاهر وتقول بالحقائق من الجنيد البغدادي الذي يعد من الطبقة الأولى ومن أكثر الصوفية تأكيدا على وجوب الالتزام بالشريعة، وهو إمام المدرسة العراقية في التصوف بلا منازع، حيث قال “ليس التصوف بكثرة صيام وصلاة، بل بطمأنينة القلب وتسليم الروح” وصولا إلى محيي الدين إبن عربي، والصوفية بما أن جوهر تجربتها غنوصي ولا يمكن الإفصاح عنه بالعبارات كذلك فإن أصل التجربة النبوية بالأساس هي تجربة غنوصية (التعبد والتحنث في غار حراء قبل النبوة) 

ونتيجة لإتساع رقعة الدولة الإسلامية، ودخول كثير من العادات والتقاليد الغريبة عن الإسلام التي كانت بيئته محصورة في المناخ الصحراوي حيث يتسم العيش فيه بالخشونة والصعوبة، وتخلي المسلمين تدريجيا عن كثير من أمور الدين، والتكاسل عن أداء الفرائض والعبادات مع الإقبال على الملذات والترف والنعيم وشيوع مجالس الخمر والغناء وكثرة أماكن اللّهو، مما كان له أكبر الأثر على وجود تفاوت كبير بين طبقات الأمة، تفاوت بين الغني والفقير وبين الحكام والرعية نتج عنه شعور أفراد الشعب بفارق كبير فيما بينهم وبين حكامهم خاصة حين أصبحت الخلافة وراثية محصورة في أسرة واحدة، وقد أدى ذلك إلى إنبعاث دعوة تدعو إلى محبة الله بكل ما تحمله من معنى وتذكر بعذاب القبر وعذاب الآخرة، فظهرت طائفة زاهدة متبتلة متفقهة كرد فعل للترف والنعيم والبذخ الذي ساد في ذلك الوقت.

كما كانت للظروف الاقتصادية أيضا آثار أخرى على نشأة التصوف، لا سيما عندما يرى الفقير المال والنعمة في يد غيره ويشعر بالحرمان، ومن ثم يلجأ إلى التصوف محدثا نفسه أنه وإن كان قد حرم من نعيم الدنيا فعليه بنعيم الآخرة، بالإضافة إلى أن إزدهار الحياة المادية في المجتمع لا يحول دون تصوّف البعض، كما نرى ذلك في عصرنا إذ يختار كثير من الناس الحياة الصوفية على الرغم من سعة الحال ووفرة المال وتمتعهم بملذات الحياة.

 المستشرق نيكلسون رأى أن التصوف الإسلامي نشأ عن نزعة الزهد التي سادت القرن الأول الهجري في المجتمع الإسلامي، ورأى أبو العلا العفيفي أن التصوف جاء نتيجة خروج الإسلام من حدود البيئة الصحراوية التي نشأ فيها، وإمتزاج تعاليمه بتعاليم وأديان الأمم التي نشر فيها ضوئه، تلك الامم كانت على حظ كبير من الفلسفة والعلم والحياة الروحية العميقة، فالتصوف في حقيقته وليد تاريخ الإسلام الديني والسياسي والعقلي والإجتماعي وليس وليد الإسلام وحده. سياسيا مثل مقتل الخليفة عثمان وقيام الحروب الأهلية بين أنصار علي وأنصار معاوية، وإستشعار بعض الصحابة خطورة هذا الجوّ المشحون بالخلافات والاضطرابات السياسية، فآثرو أن يقفوا بين الفرق المتنازعة موقف حياد، ولعلهم فعلوا ذلك إيثارا للسلامة وإبتعادا عن الفتنة وحبّا في العزلة.

وقد أرجع إبن خلدون التصوف إلى الإتجاه الذي ساد في القرن الثاني وما بعده من الإقبال على الدنيا والإنغماس في ملذاتها، مما دعى إلى نشوء إتجاه مضاد لهذا الإتجاه تمثل في العكوف على العبادة والإنقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الناس من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وعرف أصحاب هذا الإتجاه بالصوفية والمتصوّفة.    

” فالتصوف يوصف بأنه أكبر تيار روحي يسري في الأديان جميعها” ، وبمعنى أشمل يمكن تعريف التصوف بأنه إدراك الحقيقة المطلقة، سواء سمّيت هذه الحقيقة “محبة” أو “معرفة” أو “حكمة” أو “نور” أو “فناء و بقاء”. إن هذه المسمّيات تظل في أحسن حالاتها مجرد معالم في الطريق الصوفي، لأن الغاية عند المتصوّفة حقيقة لا يمكن وصفها، ويمتنع إدراكها أو التعبيرعنها بالمدارك والأساليب العادية، فلا المنطق ولا الفلسفة قادرة على أن تحيط بمفاهيمها، بل بصيرة القلب “الغنوصية” هي التي تجليها، إن الأمر يتطلب تجربة روحانية، لا صلة لها بالمناهج الفكرية أو العقلية، وهي تجربة إن سلكها المريد في بحثه عن الحقيقة المذكورة يهتدي بنور داخلي، يزداد كل ما تحرر من تعلقه بهذا العالم، وكلما صقل مراآة قلبه، كما يقول بذلك المتصوفون، ولا يمكن أن يصل المريد إلى درجة الكشف المطلق via illuminativa التي يوهب فيها الحب والمعرفة الباطنية إلا بعد وقت طويل من التّطهر المعروف ب via purgativa في التصوف المسيحي، وربما يصل بعد ذلك إلى أسمى المطالب الصوفية على الإطلاق، ألا وهو التوحد مع الذات الإلهية  visio beatifica، عندما تبصر الروح كل ما في الوجود مدعومة بنور الله السرمدي، ويمكن وصفه بأنه “كشف حجاب الجهالة” ذلك الحجاب الذي يعوق توحد الذات والخالق أو ذوبان المخلوق في الوجود والخالق.

كما قال الشيخ محمد المداني شيخ الطريقة المدنية في صلاته المسماة بشجرة الأكوان “فٱحجب اللهم بصائرنا عن العدم وكحّل أبصارنا بنور القدم وأوقد لنا نور التوحيد من شجرة” فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ” حتى لا نرضى بصحبة غيرك ولا نراه، فهي الغياب عن عالم الإحساس والتمتع بلذة الأنس الإلهي وإن إليه المنتهى. هذه هي الغاية المنشودة للصوفي حالة مطلقة من المحبة والإنسانية مماثلة لما قاله المسيح عليه السلام والحلّاج حين عذبوهما “ٱعذر جهلهم فهم لا يعرفون”، إذن فالتصوف يمكن أن يعرّف بأنه “الحب المطلق” فبذلك الحب يتميز التصوف الحقيقي عن طقوس الزهد الاخرى.  

أبو العلا عفيفي

d8a7d8a8d988_d8a7d984d8b9d984d8a7_d8b9d981d98ad981d98a النهج الصوفي ودوره في الفكر الإسلامي .. بقلم: علي غرس الله

هناك من العلماء الأوروبيين من إهتم بالبحث عن التأثيرات المسيحية مثل Adalbert Merx و A. J. Wensinck و Margret Smith فقد حاول هؤلاء الكشف عن علاقات النّساك المسلمين الأوائل بالرهبان والنساك الأوائل من المستوطنين النّصارى السريانيين، وأفضل الأعمال في هذا المجال كتبها القسّ السويدي Tor Andrae الذي تناول الدراسة الكلاسيكية عن تطور قدسية محمد عليه السلام في التصوف الإسلامي. إن مفهوم الإتحاد مع الإله هو أمر مركزي في التعاليم الصوفية المسيحية، كما هو الحال في الكابالا الذي هو المذهب الصوفي الرئيسي في اليهودية، عندهم الزوهار « Zohar » والتي هي الممارسة الرئيسية للكابالا تسمى هذه الحالة من الاتحاد « devekut » وتترجم حرفيا “التعلق بالإلهي” وتوصف بأنها حالة من السكون الذهني والفراغ والوجد والخشوع، انها مكان لا تفكير فيه نتجاوز فيه شعورنا الطبيعي بالأنا المزيفة وندرك انسجام ووحدة الكون وكذلك وحدتنا معه، ووفقا للحايسيديم Hasidic فإن الإله موجود في كل شيء بما في ذلك الروح البشرية حيث أن الاله هو روح الرّوح، من هنا يظهر لنا وجوه عديدة من الشّبه بين الصوفية الإسلامية والصوفية اليهودية والمسيحية في كثير من الاقوال.

ثم تأثير التعاليم اللادينية في الشرق الأدنى فقد قال “مال بعض العلماء إلى الإعتقاد بوجود تأثيرات هندوسية على بداية التصوف مثل أ. فون كريمر (1868) و ر. ب. دوزي (1869) أول من قال بذلك، ثم تأثير البوذية كما أوضح ريتشارد هارتمان بالنسبة لبدايات التصوف الإسلامي، وقد سبقه إغناتز غولدتسيهر Ignaz Goldzicher بالإشارة إلى التشابه بين القصص الإسلامي الصوفي والقصص البوذي، مثل تشابه حكاية إبراهيم بن أدهم وحكاية بوذا. ومواصلة في هذا الإطار فقد كان عمر فروخ أول من أراد أن يثبت الآثار الطاوية على الصوفية الاسلامية، كما تكلم العالم الياباني ت. ازيتسو T. Izutsu عن تشابهات بين البناء الفكري للعقيدة الطاوية وبين نظام إبن عربي.

 لنفهم أصول ظاهرة التنوير بمفهومي الفناء والبقاء علينا ان نعي ماذا تعني وإلى ماذا تهدف وهل تم التحدث عنهما في الثقافات الأخرى ؟

هدف الصوفية هو الإتحاد مع الإله ليس كتجربة مؤقتة وإنما كحالة دائمة، فكلمة الفناء التي تترجم عادة على أنها الوفاة هي المصطلح الصوفي لتجربة الإستيقاظ المؤقتة التي تتلاشى فيها هوية الشخص وتذوب في إتحاد مع العالم ولا يبقى شيئا إلا النور الإلهي والوحدانية، فمفهوم الفناء هنا يكون مشابها لمفهوم nirvikalpa samadhi في الهندوسية. بالطريقة نفسها التي يتم فيها النظر الى sahaja samadhi كحالة دائمة ومستمرة من السامادهي، فان حالة البقاء في الصوفية أو “الدوام في الله” هي الحالة الأكثر إستقرارا وإستمرارا من حالة الفناء. لا ينقطع الشخص عن الوجود ولكن يذوب كيانه الفردي في كيان الإله مما يعطيه شعورا دائما بأن ذاته تضم كلا من العالم وكينونته الخاصة، فلا يعود لدى الصوفي في حالة البقاء إرادة خاصة به ولكنه يعيش في ومن خلال الإله في حالة من الوجد، فلا يعود لدى الشخص شعور بالحاجة إلى التخطيط لحياته الخاصة أو جعل الأمور تحدث، بهذه الطريقة هناك تشابه قوي مع حالة النشاط غير الفاعل wu wei التي تنشأ عندما نعيش في وئام مع الطاو.  ما يحدث للمريد اذا حسب ما أسلفت هو إنكشاف الحياة على نحو طبيعي وتلقائي بفضل القوة الإلهية وكما والحال في البوذية هناك نقص تام في الرغبة والطموح وعدم إكتراث تام للثناء أو الإزدراء نتيجة لتبدّي مجموعة من الحقائق إزاء هذه التجربة الفردية.

يقوم التصوف اذا بتكريس الإيثار واليقظة التامة الجماعية وكذلك الأمر في التعاليم الصوفية اليهودية فان الشخص المستفيق (المتنور) يتحمل مسؤولية تقاسم حالة اليقظة التامة مع الاخرين ليظهر ذلك في عالم الزمان والمكان حيث أن استفاقته تساهم في صحوة الجنس البشري بكامله. فلو تأملنا في طريقة الأذكار الصوفية الإسلامية وطريقة ذكر الهندوس والبوذيين لوجدتها متطابقة تقريبا، خاصة في طريقة ذكرهم بالإسم الأعظم غالبيتهم يقولون أنه “الله” يشابه كثيرا طريقة ذكر الهندوس « Om » ، الذي هو رمز المطلق بالنسبة لهم.

المقالة 1 دور المعتزلة في الفكر الإسلامي

المقال الثاني: النهج اصوفي ودوره في الفكر الإسلامي

المقال الثالث نشأة التصوف الإسلامي وتطوره عبر القرون

المقال الرابع : المنهج الصوفي في المجاز والتأويل

المقال الخامس : التعبير عن التجربة الصوفية والتمية البشرية

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

0 comments

اترك رد

ندوات