الوحدة البنائية للخطاب القرآني… بقلم: محمد ياسين
العناصر التى جعلها أبو زيد لمفهوم “الخطاب” مغرية بالبحث والدراسة والتعمق، مجتمعين أو كلٌّ على حدة، فدراسة تعدد الاصوات داخل السياق القرآنى وتحليل أنماط الخطاب وغيرها مما سبق يعمق فهمنا لخطاب القرآن
بقلم: محمد ياسين
باحث دكتوراة بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف.

القرآن الكريم كوحدات خطابية متنوعة الموضوعات والسياقات
نزل القرآن الكريم على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – منجّما في بضع وعشرين سنة متوافقة مع الحوادث والأحداث التى مرّت بها الدعوة المحمدية، يسأل السائل ويجيب القرآن، يتعرض المسلمون لمحنة ما فيتنزل القرآن توضيحا وتفصيلا، تمر مواقف فى حياة المسلمين عامة وفي حياة الرسول خاصة فيتحدّث القرآن عنها ويفصل فيها القول.
إذا ، لم يأتِ النبى – صلى الله عليه وسلم – قومه بصحيفة مكتوبة، أو بكتاب مقروء له بداية معروفة ونهاية محددة ويحتوي على فصول او أبواب، وإنما جاءهم وتلا عليهم آيات فى كل مرة يتنزّل عليه الوحى .
والقرآن الكريم ذاته قرّر هذه الحقيقة ( وَقُرْءَانًا فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍۢ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلًا ) ( الإسراء : الآية 106)
بل حكى القرآن عن الكافرين طلبهم أن ينزل القرآن “جملة واحدة” وردّ القرآن عليهم بحكمة نزوله منجّما: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً” ( الآيات 32 : 33 سورة الفرقان )
فالقرآن نزل من أجل الإنسان، وتزكية الإنسان تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالآية تتلوها الآية، وهذا التأثر والتأثير لا يمكن أن يتم عبر كتاب شامل تتم قراءته “جملة واحدة” فهو أشبه بجرعة الدواء اليومية أو بوجبة الغذاء محددة الوقت والقيمة الغذائية لتؤتى أثرها في بناء الجسم.
لذا جاء القرآن منجما كوحدات خطابية وفق الحاجات الحية للإنسان والمجتمع على حد سواء
والترتيل – هنا – هو التتابع فى النزول وفق حكمة الله وعلمه بحاجات النفوس وأحوال القلوب وتقلب الأحوال، وأحوال المخالفين واعتراضاتهم ” وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ”
القرآن الكريم بترتيبه الحالي ( ترتيب التلاوة )
نتج عن ذلك أن صار للقرآن ترتيبان: ترتيب النزول، وترتيب التلاوة، أما ترتيب النزول فهو الذي نزل القرآن به منجما كوحدات خطابية متفاعلا مع الزمان والمكان، فمن أين أتى ترتيب التلاوة وهو ترتيب المصحف الذي بين أيدينا اليوم ؟
هل هو الترتيب الذي اختارته اللجنة التى كوّنها أبو بكر – رضى الله عنه – لجمع القرآن، أم ترتيب مصحف عثمان الذى تمّ جمعه فيما بعد؟
بمعنى آخر هل ترتيب الآيات والسور هو جزء من الوحي له معنى ومضمون؟ ام هو اختيار بشرى من الصحابة الذين قاموا بجمع القرآن ؟
أما ما جاءت به المرويات والسنن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا نزل عليه جبرئيل بالآية أو الآيات فيرشده إلى موضعها من سورتها، ثم يقرؤها الرسول ويتلوها على كتّاب الوحي في موضع كذا من سورة كذا وثبت أنه – صلى الله عليه وسلم – كان جبريل يعارضه ( يراجع معه ) القرآن فى كل عام مرّة وفى العام الذى تُوفّى فيه عارضه مرتين ( روى ذلك البخاري بسنده عن ابن عباس) وفق الترتيب الذي حفظه الصحابة وحملوه فى صدورهم .
ومن المؤكّد أن تداول القرآن الكريم ظلّ شفاهيا، ليس فقط على عهد الجمع الأول والثانى بل لقرونٍ طويلة بعد الجمعين، وهذا التداول الشفهي اعتمد على الحفظ فى الصدور وإنما جاء الجمع المكتوب لتوثيق ما حوته الصدور، وبالتالى فإن الجمع المكتوب لم يُنشِئ واقعا لم يكن موجودا، لامن حيث ترتيب الآيات ولا حتى من حيث ترتيب السور.
الاختيار الذى اختارته لجنة الجمع الأولى – فى عهد أبى بكر – هو الكتابة بلهجة قريش حتى لايختلف القرّاء فى القراءات، ومما ذكره الإمام الزركشي فى “البرهان” أن القراءة كانت مباحة في عهد الرسول وأبي بكر بغير لغة قريش، ولما رأى عثمان اختلاف القراء خشى أن يُفضِى ذلك إلى النزاع، فألزم الناس أن تكون القراءة والكتابة بلغة قريش وساعده على ذلك شيوع لهجة قريش بعد ظهور الإسلام.
إشكالية ” التوتر ” بين النص والخطاب
كون القرآن الكريم نزل منجّما على مدار ثلاث وعشرين سنة تقريبا، وكونه نزل فى سياقات مختلفة كوحدات خطابية منفصلة تولّدت عن ذلك مجموعة من التحديات والإشكاليات فى محاولة فهم القرآن ككتاب ونص، فأنت تقرأ السورة الواحدة فتجدها تتحدث فى موضوعات مختلفة بل قد تجد الآيات المتجاورة بعضها مكى والآخر مدنى.
فحين تريد معالجة موضوع محدد مثل موضوع تنزيه الذات الإلهية، فإنك تجد آيات تتحدث عن أن لله يدا ( يد الله فوق أيديهم ) وله استواء على العرش ( الرحمن على العرش استوى ) وله عين ترى وتحرس ( فإنك بأعيننا ) بينما تجد آية تقرر أنه ( ليس كمثله شئٌ وهو السميع البصير). تستطيع أن تقيس على ذلك قضايا كثيرة مثل التعامل مع أهل الكتاب، ودور النبي – صلى الله عليه وسلم – بين السلطة والنبوة، إلى غيرها من القضايا.
هذا عن التوتر بين أجزاء المصحف ذاته،، وهناك توتر آخر بين المصحف من جهة والواقع المتغير والمتطور من جهة أخرى فبينما النصوص ثابتة ومحدودة فإن الوقائع والأحداث متغيرة ومتطورة ولا متناهية.
هذا الخيط التقطه الأستاذ جمال عمر وفصّل القول فيه في كتابه “مقدمة عن توتر القرآن”
حاول جمال عمر فى كتابه القيّم استيعاب محاولات القدماء لرفع التوتر عن أجزاء القرآن المختلفة داخل النص، فمحاولات القدماء كانت تتسم بالانشغال بالنص ذاته، كلٌّ وفق مجال تخصصه فالفقهاء حاولوا رفع التوتر من خلال ثنائيات الناسخ والمنسوخ أو المحكم وامتشابه أو الخاص والعام ، والاصوليون من خلال مبحث مقاصد الشريعة، واللغويون والبلاغيون من خلال ثنائيات اللفظ والمعنى والحقيقة والمجاز، والمتصوفة من خلال التفسير الإشارى إلى غير ذلك من محاولات القدماء .
أما المحدثون فقد اتّسمت محاولاتهم لرفع التوتر ليس بين أجزاء المصحف ذاته وفقط وإنما بين المصحف باعتباره نصا مقدّسا مطلقا وبين الواقع المتغير باعتباره نسبيا ومتطورا.
فكانت محاولات جعل الدين كهوية ثقافية والتى نظرت إلى الإسلام كدين ودولة وليس مجرد عقيدة وشريعة إلى محاولات تحويل نصوص القرآن إلى قانون نضاهي به فلسفة القوانين الغربية، ثم محاولات البعض الخروج بالنص القرآنى ليس فقط من أسر ثقافة العرب وبيئتهم بل من أسر اللغة العربية ذاتها فى محاولة لجعل القرآن نصا إنسانيا.
ويرى جمال عمر أن الإشكال – هنا – هو أنه تمّ تحويل مانطق به الرسول على أكثر من عقدين من الزمن كخطابات، إلى نصوص، ثم جمع هذه الدفعات من النصوص بين دفتين ثم النظر إليها على أنها كتاب، هذا التعامل ولّد مجموعة من التحديات والمشكلات التى يحاول المفكر المسلم حلّها، ويشبّه جمال عمر ذلك بخطيب ألقى على مسامع الناس خطبة كل أسبوع على مدار عشرين عاما ثم جمع هذه الخطب وصنّفها ووضعها بين دفّتى كتاب، وبدأ يتعامل معها على أنها كتاب يبحث فيه عن معنى مركزى أو عن مقصد كلّى.
وهنا تظهر إشكالية أخرى: هى إشكالية مقاربة الخطاب القرآني بالخطاب البشرى فى محدودية رؤيته أو عطاءاته، فقد يصلح المثال السابق فى النصوص النبوية باعتبارها خطابا بشريا، أما الخطاب القرآني فإن إلهية مصدره تجعل منه خطابا مفارقا لخطاب البشر ليس فقط فى نظمه وإنما في مآلاته وغاياته، ولايطعن فى هذا كون الخطاب الإلهي تفاعل مع البشرى زمانا ومكانا، إذ أن هذا التفاعل مع لغة العرب وبيئاتهم وثقافتهم بل وأحداث حياتهم ينبغى أن يُفهَم فى سياق مصدر التلقّى ومحور الرسالة وغايتها الكبرى، فإذا كان القرآن الكريم قد جاء لهداية الإنسان على حدّ تعريفه بغايته (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ( البقرة : الآية 2 ) ولتقويم الناس أفرادا وجماعات ( إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ) ( النساء : الآية 105 )
فإن ذلك لا يحدث فى الفراغ، ولا يتم بتعليمات مجردة، وإنما لابدّ من واقع بشرى تشتبك معه هذه القيم وتعيد صياغته، لكن هذا الخطاب قادر على استيعاب هذا الواقع البشرى المعاصر ثم تجاوزه دون أن يتقيد به أو يصير مرهونا بأحداثه، صحيح أن فهمنا للخطاب القرآني لا يتم إلا بمعرفتنا للواقع الذي نزل فيه هذا الخطاب لغة وثقافة وبيئة وأحداث، بل ودراسته وفهمه لنعرف كيف تفاعل جيل التلقي مع الخطاب القرآني، وما هى القضايا التى جاء ليعالجها، فالخطاب القرآني خطابٌ منفتح على حركة الزمن وحركة الفعل الانسانى.
ولاشكّ أن هناك تغييرا هائلا أحدثه القرآن فى تاريخ وواقع العرب وفي تاريخ وواقع الأمم المتصلة بهم والمجاورة لهم.
يقول د. طه جابر العلوانى (1935- 2016 م )
” ولعل الخطاب القرآني لم يكن مجرد اختبار لعقلية العربى الجاهلىّ ونفسيته، بل كان تحديا هائلا فرض عليه مناقشة المنظومة القِيَميّة الجاهلية كلها، فلم يعُد يغنى عنه شيئا إعراضه عن القرآن، أو عدم استماعه له أو صمّ أذنيه وغضّ عينيه عنه، ولك أن تتصور “الخطاب القرآني” هنا مقاتلا مغورا أو فارسا كامل الفروسية يحاول اختراق حصن حصين مصمت ليصل إلى عقل وقلب هذا الإنسان، فهو يستخدم كل الوسائل، كما انه يستغلّ كل ثغرة أو فرجة ليصل إلى مايريد، وهنا تجد نفسك أمام خطة استرتيجية دقيقة ومحكمة، ومخطّط فى غاية الدقة تبدو غايته، ومعالم سياساته المرحلية – حتى بلوغ الغاية – ولذلك فإنه حين تبدو للقارئ بعض التعارضات الموهومة على سطح الخطاب فإنها لا تنمّ إلا عن طبيعة المجاوزات المرحلية التى يمر بها الخطاب وهو يشقّ طريقه حاملاً المعنى الذى حُمِّل به إلى عقل المخاطَب ونفسه ووجدانه”
( نحو موقف قرآني من النسخ : د. طه العلواني ص 66& 67 بتصرف )
فالخطاب القرآني يتفاعل مع الواقع فيتصل به وينفصل عنه مستوعبا إياه، ومتجاوزا له توجيها وتربية فهو لا يرتبط به إلا بمقدار ما يقوم بترقيته وتزكيته ثم يتجاوزه إلى المستقبل، فكأنه يخاطب الواقع: هذا ما أنت عليه، وهكذا ينبغي ان تكون، وهو فى سبيل ذلك يطرق أساليب البيان المختلفة والمعروفة لدى المخاطَب مبتدئا من واقعه ومرتفعا به إلى الأفق السامى الذى تتطلبه الهداية القرآنية فـ “السياق” هنا تكتيك مرحلى للوصول إلى الغاية القرآنية، وهنا تبدو أهمية التعامل مع القرآن كـ ” خطاب ” وليس مجرد نص، خطاب يتضح من خلاله الأهداف المرحلية والأهداف العامة الكلية، فحين يقول القرآن “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران : الآية 102)
ثم يقول في آية أخرى ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ) (التغابن : الآية 16 ) ، فإن لكل من الآيتين وظيفة نفسية واجتماعية وتاريخية.
فالآية الأولى تفتح الأفق نحو الكمالات الإنسانية، والقدرات الهائلة والممكنة لدى المخاطب والتى ينبغى أن يسعى لاستكمالها وتفعيلها بينما السياق في الآية الثانية أن الجزاء لن يتعلق إلا بالعمل أو بمعطيات الواقع وليس بمجرد الخواطر.
ومثل ذلك آية البقرة ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه ) ، فإنها جاءت لإعلاء طاقة الإنسان على المراقبة لله – تعالى – والإحساس بحضوره الدائم كحديث البخاري ( اعبد الله كأنك تراه ) وليس لتحديد مناط التكليف الإلهي للإنسان .
ومثل ذلك الآيات التى تتحدث عن الرحمة والعفو (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ( سورة الأعراف : الآية 199 ) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( سورة الأنبياء : الآية 107 ) بينما تتحدث آية السيف فى سورة التوبة عن وجوب قتال المخالفين كافة فإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: الآية 5 ). ( وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة )
فآيات الرحمة نص عام مفتوح يمثل روح الخطاب القرآنى ولبّه ومحوره، ليس باعتباره كتابا يبحث قارئه عن بؤرة للمعنى يركز عليها ويهمش ماعداها وإنما باعتباره الروح الغالبة فى الخطاب القرآنى، بينما آية السيف تتعلق بواقعة محددة مع مشركي العرب الذين تعرضت سورة التوبة لسائر التفاصيل المتعلقة بهم، وللأسباب الكثيرة المعتبرة التى أدّت إلى صدور ذلك الحكم بحقهم، بل حتى آيات القتال لاتسمح بالمعنى الهجومى الذى يريده البعض، فهو يقسم الجملة قسمين يأخذ بأولها وينسى آخرها فأولها (وقاتلوا المشركين كافّة ) وآخرها (كما يقاتلونكم كافّة ) فأين الحرب الهجومية هنا ؟ !
وثمّت إشكالٌ أو تساؤلٌ آخر: هل حقا تعامل المسلمون مع القرآن ككتاب واحد؟ هل بحثوا فيه عن غاياته الكبرى وأهدافه العظمى ؟ هل بحث المسلمون عن مركز الدلالة في الخطاب القرآني من حيث هو خطاب إلهي للبشر وليس من حيث هو نص يؤيد أهواء البعض ويسير في ركابهم؟ فصدق فى هذا البعض قول القرآن : (الذين جعلوا القرآن عِضِين ) ( الحجر : الآية 91 )
فقديما تمذهب البعض وتوجّهوا بآرائهم ثم طلبوا من القرآن تأييدا لمذاهبهم ودليلا على توجّهاتهم ، فلا تكاد تجد فرقة من الفرق وإلا وهى تستدل بالقرآن .
حتى هؤلاء الذين فهموا من آية كآية السيف وجوب مواجهة المشركين كافة فى كل الأحوال، هل يُتَصوّر أنهم قرأوا القرآن كله وذهبوا إليه متسائلين ؟ أم ذهبوا إليه باحثين عن دليل يؤكد ما استقرّ في أذهانهم مسبّقا ؟!
وقريبا من هذا ظهرت نظريات كثيرة ركّزت على آيات، وهمّشت أخرى أو فسّرتها لتتماشى مع الأولى، وفى مثل هذا يقول الأستاذ جمال عمر فى مقدمة كتابه الرائع ” هكذا تحدّث نصر أبو زيد ”
:” وفي ظل حركة التحرر من الاستعمار ومحاولة استقلال القرار الوطني والتنمية الداخلية، صاحبها خطاب ديني من المؤسسات الدينية الرسمية يُعبر عن المرحلة، مقدِّمًا فهمًا وتفسيرًا للدين يعبر عن المساواة بين البشر، تُصدّر فيه نصوص مثل ” الناس سواسية كأسنان المُشط ” ، وتُوزّع الثروة والمال حتى لا يكون المال: (دُولَةً بَيْنَ الْأغَنِيَاءِ مِنْكُمْ) الحشر: الآية ٧) وفي الصراع مع المشروع الصهيوني، كانت آية: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) تتصدر المشهد تعبيرًا عن موقف الدين، مساندًا للخطاب السياسي، وأن القتال شرٌّ لا بد منه (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ) ( البقرة ، الآية : 54) وحينما تغيَّرت بوصلة تحيُّزات الخطاب السياسي في السبعينيات والثمانينيات داعيةً إلى الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية الوطنية، والملِكية الخاصة، وتشجيع القطاع الخاص، تحولت بوصلة الخطاب الدينى لتؤكد أن القرآن تحدَّث عن التفاوت الطبَقي بين الناس( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيٍّا ) ( الزخرف: الآية 32) وحين اتجه النظام السياسي إلى التعاهد مع العدو، تتصدر المشهد ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفالا : الآية 61 ) ” ( جمال عمر : هكذا تحدّث نصر أبو زيد ، ج1 ، ص11،12 )
أريد أن أقول أن دراسة الخطاب القرآني على أنه وحدات خطابية منفصلة – وفقا لنزوله منجّما – بالإضافة إلى كونه غير ممكن واقعا لعدم معرفتنا بترتيب النزول على وجه اليقين لجميع آيات القرآن، إلا أنه لايقودنا إلى معرفة غاية الخطاب القرآنى وآليات تأثيره وطريقة عمله فى الأنفس والجماعات ، لكنه يبقى مهما جدا أن نَعِىَ أن القرآن ليس نصّا مغلقا.
وإذا كان المرحوم الدكتور نصر أبو زيد قد تحدث عن إعادة تعريفه للقرآن من كونه نصا إلى كونه خطابا أو مجموعة خطابات ، فإنه يعبر عن أن هذه الفكرة كانت – حين إلقاء محاضرته – في طور التشكيل مازالت والسبب وراء ذلك انه يأخذ مستمعيه إلى مطبخ الأفكار ولا يعطيهم الوجبة بعد نضجها – :” أنني ما أزال في المطبخ. في مسألة الانتقال من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب ، فالفكرة لم تكتمل بعدُ بشكل أستطيع أن أقدمها لكم فى صورة وجبة. فمضطر أن آخذكم معي إلى المطبخ الذي أنا غارق فيه في هذه النقلة من النص إلى الخطاب.) ( جمال عمر : هكذا تحدّث نصر أبو زيد ، ج1 ، بتصرف 106 )
فإن هذا يعبر عن صعوبة المسألة – لاسيما فى الجانب التطبيقي منها –
وهناك ما أسماه د. نصر المخاتلة الدلالية، أو الخداع الدلالي فى معنى كلمة “نص ” في التراث والذى هو مغاير لمفهوم النص في الدراسات الحديثة، أو في الفكر الحديث ، فـ “النص ” فى الاستخدام التراثى هو : الواضح وضوحًا جليٍّا يُفهم بمجرد أنك تعلم اللغة، يعني جميع الناس تفهمه، تفهم المعنى المباشر لمجرد أنهم يتحدثون اللغة ، ومن هنا جاءت عبارة ” لا اجتهاد مع نص ” و مقولة ” النصوص عزيزة ” أى : نادرة
أما فى الاستخدام المعاصر فنحن نُطلق النص على كتاب كامل؛ النص القصصي، النص الشعري، ومن هنا فحين نقول : ” النص القرآني ” فنحن نتحدث عن مُجمل القرآن.
النص – كما يعرفه أبو زيد – بنية مستقلة بذاتها، بنية كاملة، تتضمن :-
مفهوم المؤلف
القصد
والقارئ الضمني
السياق أو الفضاء الثقافي اللغوي
القارئ الضمني
هناك مؤلف وهناك قصد ، المؤلف يمتلك قصدية ما من إيجاد النص، وقصدية المؤلف لا تعمل في فراغ، تعمل في الفضاء الثقافي اللغوي الذي ينتمي إليه المؤلف، وتخيل كاتب النص للقارئ الذي سيقرأ الكتاب، هذا يُسمى القارئ الضمني
وهنا يتضح – كما قرر أبو زيد – أن ” القرآن ” ليس ” نصا ” على حسب التعريف السابق لمفهوم ” النص ” فنحن لا نستطيع أن نقول إن الله هو مؤلف القرآن، الله مُتكلم بالقرآن، القرآن كلام، قول، وحي، تنزيل، هُدًى، بيان ( وهي تعريفات قرآنية حسب التعريف الوظيفي للقرآن أو التعريف الكلى) وقد ضرب مثلا لذلك بالقصص القرآنى حيث أن فهم القرآن باعتباره نصٍّا لا يدرك مثلًا أن القصص القرآني- باستثناء سورة يوسف – مُشتت في السور. القرآن لا يسرد القصة، قصة موسى وفرعون، أو قصة نوح، لا يسردها سردًا كليٍّا في سياق كلي واحد.
أما الخطاب – وفق د. نصر أبو زيد – فهو بنية تحاورية، تجادليه ، سجالية، تستدعي سياقات وليس سياقًا واحدًا تتضمن :-
المتكلم : وهو يعنى بالمتكلم – هنا – الصوت الذى يتكلم فى القرآن وهنا تُطرح قضية تعدد الأصوات فى القرآن
نمط الخطاب: أو آليات الخطاب هل الخطاب تهديد، هل الخطاب بشرى، هل الخطاب تقرير، هل الخطاب اعتراض، هل الخطاب نفي، هل الخطاب إزاحة؟
فحوى الخطاب :- أى مضمونه ويدخل فيها مستويات كثيرة جدٍّا، ما يقوله الخطاب، وما المسكوت عنه في الخطاب ويُستنبط بالفحوى .
تأثير الخطاب على المتلقي ورد فعل المتلقي

والحقيقة أن هذه العناصر التى جعلها أبو زيد لمفهوم “الخطاب” مغرية بالبحث والدراسة والتعمق، مجتمعين أو كلٌّ على حدة، فدراسة تعدد الاصوات داخل السياق القرآنى وتحليل أنماط الخطاب وغيرها مما سبق يعمق فهمنا لخطاب القرآن ويدخلنا فى عالمه ويساعدنا على ندخل إلى جوّه، وقد ضرب فى محاضرته المنشورة فى كتاب أ/ جمال عمر توضح العناصر السابقة .
وقد ضرب أمثلة على كل عنصر من العناصر السابقة خلص منه إلى أنه يرشح مفهوم الخطاب وليس مفهوم النص، الخطاب يتضح أكثر في الجدل مع أهل الكتاب، في الجدل مع المشركين ، لكنّ أبا زيد يوضح – هنا – نقطة مهمة جدا وهى : أن كل خطاب نص ، وليس كل نص خطابًا .
وأنا – هنا – أريد أن أقف عند عنصر “القصدية ” ، التي جعلها أبوزيد من عناصر النص وليست من عناصر الخطاب، أعتقد أن ربط مبدأ “القصدية” بكون الكلام صادر عن مؤلف، ليس ربطا ضروريا، فالكلام أو البيان له قصد وغاية – يستوى فى هذا خطاب الله وخطاب البشر – فإذا كان المتكلم هو الله فإن الخطابات – مهما تباعد زمنها وتغير سياقها – تنسجم وتترابط لتبني بنيانا محكّما لغاية يريدها الله من المخاطَبين.
أفهم أن يكون الفارق هنا ماطرحه أبو زيد من الفارق بين تصورين فى فهم القصد، أحدهما أن يثق المخاطّب فى قصد المتكلم فيكون أي كلام يصدر عن المتكلم صادقًا، فالقصدية – هنا – معرفة عقلية مسبقة ( والمعتزلة والفلاسفة يقولون هذا ) والآخر هو: أنه لا يمكن الوصول إلى قصد المتكلم إلا من خلال تحليل الكلام، (والفكر الحديث يقول هذا).
الوحدة البنائية للقرآن الكريم
الوحدة البنائية للقرآن الكريم مفهوم بيانى فى الأساس، فهو يعنى ان القرآن الكريم – على تعدد آياته وتنوع سوره واختلاف موضوعاته – بناءٌ واحدٌ محكم ، فهو مثل المبنى العظيم “المكتاسك” الذي تتعدد غرفه وردهاته وتتنوع مساراته وممراته وتزينه الحدائق والجنان من حوله، لكنه يظل بناء واحدا متماسكا.
أو هو على حد تعريف د. طه جابرالعلوانى (1935- 2016 ) : “الوحدة البنائية” للقرآن: أن القرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدّد فيه أو التجزأة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه، ويرفض بعضه الآخر، كما لا يقبل التناقض أو التعارض وغيرهما من عيوب الكلام. فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة، وإذا كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه؛ فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلّم، والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله. فلم يكن في مقدور الإنسان أن يستوعب قرآناً يتصف بكل صفات القرآن جملة واحدة؛ بل عليه أن يأخذه أو يتبنَّاه باعتباره ذا وحدة بنائيَّة لا تختلف عن وحدة الكلمة في حروفها، ووحدة الجملة في كلماتها وأركانها، ووحدة الإنسان في أعضائه، ولو نزل مفرقا .” ( من كتاب : الوحدة البنائية للقرآن المجيد ، د. طه العلواني )
لاشكّ أن التعامل التجزيئي مع القرآن الكريم هو الذى ساد عبر قرون، ويأتي الدكتور محمد عبد الله دراز (1884- 1958)م ليبين الأسباب التي جعلت التعامل التعامل التجزيئي هو السائد ، فذكر ثلاثة أسباب هي:-
أن القرآن بما امتاز به أسلوبه من اجتناب سبل الإطالة، والتزام جانب الإيجاز صار أسرع الكلام تنقلاً بين شؤون القول؛ فهو ينتقل من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى من فنون الكلام، وهذا أمر يجعل الحفاظ على تناسب المعاني وتلازمها أمراً عسيراً.
أن القرآن لم يكن ينزل بهذه المعاني جملة واحدة، بل كان ينزل بها آحاداً متفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة المتنوعة، وهذا الانفصال الزماني بينها، والاختلاف الذاتيُّ بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعاً لانفصال الحديث عنها على ضروب من الاستقلال لا يدع منزعاً للترابط والوحدة.
هو تلك الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السورة من تلك النجوم، وهو – هنا – يعني يالتأليف الضمّ والجمع بين آيات القرآن ليس على حسب ترتيب النزول وإنما على ترتيب التلاوة.
( انظر : النبأ العظيم ، د. محمد عبد الله دراز من ص 182 :186 بتصرف واختزال)
ذكر –رحمه الله- هذه الأسباب الثلاثة المنافية للوحدة، أو المانعة من القول بها قياس على المعهود من كلام البلغاء والفصحاء، ثم عقّب عليه بقوله: “…لو عمدنا إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد – وما أكثرها – وتتبعناها مرحلة مرحلة، وتدبرناها كيف بُدئت وكيف خُتمت !، كيف تقابلت أوضاعها وتعادلت، وكيف تلاقت أركانها وتعانقت… لو تدبرنا ذلك لوجدنا ائتلافاً وتناسباً بين المعاني والمباني، ولبدت لنا السورة وكأنها نزلت في نجم واحد” ( المصدر السابق 188)
فأنت تراه مع استدعائه للاسباب القوية التى تجعل الكلام متنافرا، وهي
عناصر معنوية مختلفة
ظروف زمانية منفصلة
ضم الآيات بطريقة مختلفة عن العنصرين السابقين
ثم بيّن لنا التناسب والترابط والائتلاف في أطول سور القرآن وأكثرها نجوماً، وأغناها تنوعاً في الموضوعات – وهي سورة البقرة .
وفى كتابه القيّم ” النبأ العظيم ” وتحت عنوان ( خصائص القرآن البيانية ) أراد د. دراز – رحمه الله – أن يبيّن الخصائص البيانية فى القرآن الكريم، وذلك على أربعة مراتب :-
القرآن فى قطعةٍ قطعةٍ منه
القرآن فى سورةٍ سورةٍ منه
القرآن فيما بين السور وبعض
القرآن فى جملته
وقد فصّل القول – رحمه الله – فى هذه المرتبتين الأولى والثانية، أما الأولى فقد ركّز فيها على البيان القرآنى فى آية أو قطعة من القرآن وطبّق عليها نظريته القائلة أن ” القرآن تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد مابين أطرافها ” ، ومنها :-
القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى
خطاب العامة وخطاب الخاصة
إقناع العقل وإمتاع العاطفة
البيان والإجمال
وقد اختار لتطبيق ذلك آية ذُكِرت محاجّة بنى إسرائيل من سورة البقرة، وهى آيةٌ يمكن أن توصف تجوّزا أنها من عرض القرآن وليست من الآيات التي تواصى الناس بالإعجاب ببلاغتها وبيانها، وفى معنى قد لا يأبه الناس له، وهي قوله – تعالى – ” وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ” ( البقرة ، الآية : 91)
أما ” وحدة السورة ” فقد ذكر له مثالا أطول سورة فى القرآن ( سورة البقرة ) كما ذكرنا
وانتهى كتاب ” النبأ العظيم ” ولم يُشِر – رحمه الله إلى المرتبتين الأخريين : التناسب بين السور، القرآن في جملته، لكن كتابا آخر ( حصاد قلم ) صدر عام 2001 م جًمِع فيه بعضُ ماكتبه وأذاعه الدكتور دراز ولم يُنشَر، ومنه تكملة بعض ما كان قد بدأه في كتابه “النبأ العظيم” وذكر فيه ما بين السورة والسورة من نهاية التشابه ونهاية التمايُز، وضرب لذلك مثلا بسورتى هود، ويونس ( السورتان متشابهتان في الغرض التىّ سيقت لأجله، بل متشابهتان فى مطالعهما ومقاطعهما، وهما فوق ذلك متجاورتان فى المصحف) وهذا هو علم التناسب أو المناسبات بين السور، وهو جزءٌ متمّمٌ للمقصود بـ ” الوحدة البنائية للقرآن ” .
يقول د. نصر أبو زيد فى نهاية محاضرته السابق ذكرها : ” علم المناسبة علم عظيم؛ لأنه افترض وحدة القرآن، ويدرك أن القرآن وترتيبه حسب هذا الترتيب، ترتيب التلاوة، يحتاج إلى شرح للوحدة ”
( فى كتاب ” حصاد قلم ” نُشِر تقرير أعده د. دراز مرفوع إلى مشيخة الأزهر وهو نقد فنى لمشروع طُرِح آنذاك لترتيب القرآن الكريم حسب نزوله ، لمن أراد أن يرجع إليه)
متى وكيف برزت بذور القول “بالوحدة البنائيّة”؟
الفقهاء
غلبت النظرة الفقهية المعنيّة باستنباط الأحكام الجزئية من أدلتها التفصيلية – على حد تعريف الفقهاء لمعنى الفقه – وذلك لضرورة الاستجابة لمستجدات الحياة المتسارعة، وإعطاء الأحكام المناسبة للنوازل والوقائع لئلا تبقى واقعة من الوقائع دون حكم فقهي مكتسب من الأدلة الشرعية التفصيلية.
يقول د. العلواني :” وعن “النظر الفقهي شاع وانتشر النظر الجزئيُّ في آيات الكتاب الكريم. و “النظر الجزئيُّ” لا يمكن أن يؤدي إلى إدراك المناسبات والروابط وشبكات العلاقات بين الكلمات في إطار الآية، ولا بين الآيات في إطار السورة، ولا بين السور في إطار القرآن كلّه. كما لا يساعد ذلك النوع من النظر على الكشف عن العلاقات بين السور في المحيط القرآنيّ – كلّه – وبالتالي فقد غاب التفكير في “الوحدة البنائيَّة” أو لم تسلط عليها أضواء كافية يمكن أن تلفت الأنظار إليها بمثل القوة التي تلتفت بها إلى الدليل الجزئيّ المباشر.” ( من كتاب : الوحدة البنائية للقرآن المجيد ، د. طه العلواني )
التفسير والمفسرون
انشغلت الكثرة الكاثرة من المفسرين بتفسير الآيات آية آية ، دون النظر إلى السورة ككل متكامل فضلا عن النظرة الكلية للبناء القرآنى، ويكفيك أن تنظر نظرة خاطفة في كتب المفسرين لتدرك ذلك، بل إنني أزعم أن هذه النظرة التفسيرية إلى القرآن كانت من عوامل حدوث ماسمى بـ “التوتر” بين أجزائه، إذا أن انشغال المفسرين الأساسي كان: تفسير الألفاظ والبحث فى مدلولاتها، والبحث عن الأحكام واستنباطها من الآيات.
حتى مدرسة “التفسير الموضوعي” حيث عُني المفسرون فيها بجمع الآيات المتعلّقة بموضوع واحد، لكن لم يلفت ذلك الأنظار إلى الروابط المتينة بين ذلك الموضوع وآيات وسور القرآن الأخرى.
التفسير البيانى / البلاغى
يمكن القول أن “نظرية النظم” عند الجرجاني ( أشرنا إليها فى مقال الدرس الأدبي للقرآن الكريم بشى من التفصيل) ، هي الحاضنة الأم لنظرية “الوحدة البنائية”
لقد كان المفهوم العام لدلالة “النظم القرآني” على الإعجاز في الأجيال الأولى (جيل التلقي) معنى قائماً في العقول والقلوب والنفوس – لم يتداول بحيث يتم إنتاجه، ووضعه في إطار المصطلحات والمفاهيم الفنيّة – شأنه شأن سائر الأمور المعرفيّة الكبرى – حتى جاء الجاحظ ليقع على مفهوم “النظم” (يذكر د. العلوانى ان الجرجاني كتب رسالة في “النظم القرآني” لم تصل إلينا، ولكن ضمّن بعض كتبه الأخرى المتداولة شذرات منها، وبعض إشارات إليها)
صحيحٌ أن عبد القاهر لم ينص على مفهوم “الوحدة البنائيَّة” لكن جهوده في بناء “نظرية النظم” قد شقت الطريق إليها، وأعطى كثيراً من الدلائل الدالة عليها .
نظرية الوحدة البنائية، ونظرية النظم
يجعل د. طه العلواني نظرية “الوحدة البنائية” مكافئة لنظرية النظم عند الجرجاني ، ومن كليهما تتشكل المنظومة الداخلية للخطاب القرآني.
:” إن «نظرية الوحدة البنائية» نظرية لا تقل أهمية وخطورة عن «نظرية النظم»، وهما : أعني «نظرية الوحدة البنائية، ونظرية النظم» يشكلان حجر الزاوية في المنظومة الداخلية التي أودعها الله هذا الكتاب لحفظه وجمعه من داخل، وعصمته من أي تغيير أو تحريف أو إضاعة أو نسيان. و أما الوسائل الخارجية من حفظ في الصدور وفي السطور وكتابة وما إليها فإنها وسائل معضدة معززة تقدم مزيداً من وسائل «الحفظ» والتوثيق.”
( من كتاب : الوحدة البنائية للقرآن المجيد ، د. طه العلواني )
وفى مثل هذا ينقل السيوطي عن ابن العربي قوله: “ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متّسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه، فلمّا لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البَطَلة، ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه” ( الاتقان فى علوم القرآن للإمام السيوطى )
ويقول الإمام الرازي: “…من تأمل في لطائف نظم السور وبديع ترتيبها علم أن القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو – أيضاً- معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته…” ويقول الإمام –أيضاً-: “…أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط…”
( التناسب البيانى فى القرآن ، أحمد أبو زيد )
المحاور الخمسة للقرآن الكريم
فى كتابه ” المحاور الخمسة للقرآن الكريم ” حاول الشيخ محمد الغزالى (1917-1996)م من خلال نظرة كلية للقرآن الكريم أن يحدد المحاور التى يدور حولها البيان القرآنى أو الموضوعات التى يتناولها الخطاب القرآنى:
” وهنا نتحدث عن الموضوعات التى خاض فيها القرآن، وبسط على الناس أطرافها، لنشرح الدليل الآخر على صدق القرآن، وصدوره عن الله وحده، لو أن كتابا ألقته أمواج البحر على الشاطئ لا ندري من أين جاء؟ .. لكان جديرا بنا أن نعرف ماذا فى هذا الكتاب؟ ومن الذي حوته صحائفه ؟ أهو تمجيدٌ لجنس من الأجناس ؟ أهو ثناءٌ على ملك من الملوك؟ أهو نبوءاتٌ مبهمة ؟
ولقد تناولتُ المصحف الذى وصل إلىّ فى هذا العصر، وشرعتُ فى تدبره لأتعرّف على مافيه ! وأحسستُ للقراءة الأولى أن هذا الكتاب الذى بين يدىّ، يُبدِئ ويعيد فى قيادة الناس إلى الله، واستثارة مشاعرهم من الأعماق كي يرتبطوا به ويتوجهوا إليه و يستعدوا للقائه ” ( مقدمة الغزالى لكتاب المحاور الخمسة للقرآن الكريم )
الغزالى – هنا – يجعل القرآن كالبنيان الواحد المتصل أعلاه بأدناه وأوله بآخره لتحقيق غاية سامية وهى – فى الأساس – تعريف الناس بربهم وهدايتهم إليه.
وقد رأى – رحمه الله – أن القرآن يدور حول محاور خمسة لتحقيق غايته تلك
المحور الأول : الله الواحد
المحور الثاني : الكون الدالُّ على خالقه
المحور الثالث : القصص القرآني
المحور الرابع : البعث والجزاء
المحور الخامس : التربية والتشريع
يقول : “هذا الكتاب – يعنى: القرآن يُعرّف الناس بربهم، على أساس من إثارة العقل، وتعميق النظر، ثم يحوّل هذه المعرفة إلى مهابة لله ويقظة فى الضمير ووجل من التقصير واستعداد للحساب “.
القرآن وبناء التصور عن الوجود فى ظلال القرآن
من يقرأ تفسير “الظلال” للأستاذ سيد قطب (1906 – 1966)م يدرك أن قطب ينظر إلى القرآن من منظور الوحدة البنائية، فالقرآن – عنده – جاء لبناء تصور كامل شامل للوجود، لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنسانى، وما تعانيه البشرية اليوم إنما هو نتيجة تنكّبها عن هذه الغاية، وابتعادها عن ذلك التصور. ( انظر : مقدمة الظلال ، الجزء الاول )
وهو لا يفسر القرآن آية آية – كما هى عادة المفسرين – وإنما يقسم السورة إلى مقاطع يحددها بناء على السياق والموضوع.
ويرسم صورة عامة لملامح السورة في بداية تفسيره لكل سورة، يقول في مقدمة سورة البقرة: “يلحظ من يعيش فى ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة، شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حىّ مميّز الملامح والسِّمات والأنفاس ! ولها موضوعٌ رئيسى أو عدة موضوعات مشدودة إلى محور خاص، ولها جوٌّ خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسب بينها وفق هذا الجو، ولها إيقاعٌ موسيقى خاص – قد يتغير أحيانا لمناسبة موضوعية خاصة – وهذا طابعٌ عامٌ فى سور القرآن جميعا، ولا يشِّذّ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السوره ( يعنى : سورة البقرة ) ” ( فى ظلال القرآن ، الجزء الاول )
ولاشك أننا نختلف حول معالجة قطب لبعض القضايا أو استخدامه مصطلحات شائكة فى حديثه عن الجاهلية والطاغوت والحاكمية وغيرها إلا أن الظلال فى مجمله يلتزم بهاتين القاعدتين: الوحدة البنائية ( التصور عن الله والكون والإنسان ) وقاعدة الشخصية المميزة للسورة الواحدة.
القيم القرآنية العليا : التوحيد والتزكية والعمران
قريبٌ من المحاولتين السابقتين جاءت محاولة د. طه جابر العلواني ولكن تحت مسمى “المقاصد أو القيم العليا الحاكمة” التي جاء القرآن الكريم من أجل إرساء دعائمها
فـ ـ ” القرآن بجملته يقوم على أعمدة ثلاثة:-
أولها : التوحيد، فالتوحيد شكَّل العمود الأساس لمعظم سور القرآن المجيد.
ثانيها: التزكية، وهي قيمة عليا تؤهل الإنسان للقيام بمهمة الاستخلاف
ثالثها : العمران، بناء حضارة قائمة على قيم التوحيد والتزكية
فالتوحيد هو الأساس وتدور حوله أوتاد أخرى تتناول التزكية والعمران، وقد يكون عمود السورة التزكية وتربط بالتوحيد والعمران، وقد يكون عمودها العمران ويربط بالتزكية والتوحيد. وهكذا. وإذا سُلَّم هذا فإنّه يصبح من اليسير التسليم بوحدة القرآن البنائيَّة.”
( من كتاب: أفلا يتدبرون القرآن ، وكتاب الوحدة البنائية للقرآن المجيد ـ د. طه العلواني )
لاشكّ أننا بحاجة إلى نظرات أخرى فى الخطاب القرآنى لتتضح لنا معالمه ونهتدى بهديه، وقد رأيتُ أن نظرية “الوحدة البنائية للقرآن الكريم” والنظر للقرآن ككل متكامل وبناء متماسك ووحدة واحدة قد يؤدى بنا إلى فهم أعمق ويزيل التوتر الناشئ عن اتخاذ القرآن “عضين”
فإن القارئ للقرآن – دائرا مع هوى القرآن حيث يدور لا مع هوى نفسه وحمولتها الفكرية والسياسية والعقدية – لن نستطيع أن يهتم بجانب من جوانبه، ويهمل الجوانب الأخرى. فإذا كان فقيها وأراد أن يأخذ آيات الأحكام –وحدها- فجمع كل ما بُدئ بأمر أو نهي من الآيات ليستخرج منه القوانين والأحكام، فإن آيات الأحكام – وحدها – لن تلبّى حاجته ولن تكشف له عن دقائقها، ذلك أنه قد فصل الغصن عن الشجرة ، ونظر إلى الجزء بمعزل عن كلّه، فمعاني الآيات لن تسفر لك عن وجهها حتى تقرأها في سياقها وموقعها وبيئتها، ولن تبلغ الغاية، ولن تدرك المراد حتى تلاحظ سائر العلاقات بين الآية وما قبلها وما بعدها ، وبينها وبين سياق السورة التي وردت فيها، ثم بين ذلك وبين القرآن كله.
:” لأن القرآن بناء محكم واحد، ونظم متفرد واحد، تسري فيه – كله – روح واحدة تحوله إلى كائن حيّ يخاطبك كفاحا، ويشتبك معك في جدل شامل يجيب به عن تساؤلاتك، ويسقط عنك إصر شبهاتك، ويعيد تصميم تصوراتك وبناء قواعد ومنطلقات أفكارك، وتصحيح معتقداتك حتى يضعك على الصراط المستقيم لتستقيم على الطريقة، وتبلغ شاطئ الحقيقة. ”
والله من وراء القصد
محمد ياسين
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد