الوداع … قصة.. بقلم محمد حاتم

بقلم: محمد حاتم

img_20240521_195430_760 الوداع ...  قصة.. بقلم محمد حاتم

خرج من منزله كعادته في يوم الأحد الاول من كل شهر مستمعًا لأغانيه المفضلة وهو يردد كلماتها في رأسه ، لم يلتفت إلا للقليل في طريقه لأنه لم يعد يندهش بما يراه على غرابته ،

كان لديه موعد أول مع صاحب صالون الحلاقة ذلك الرجل الملقب بالفنان لأنه يعمل بمزاج حتى لو استمر في رأس الزبون الواحد لساعتين أو أكثر ويدير كل شئ مع صبيانه ومساعدينه بنظام خاص، حاول أن يسرع من خطواته لأن محل الفنان إذا ازدحم لن يكفيه النهار والليل بطولهما في الانتظار،

وفي تلك الأثناء التقى بصديق قديم له في المنطقة كان دائم السؤال عنه ويتبادلان الأحاديث الشيقة بعد صلاة الفجر حتى الضحى  وصديق آخر ساعده في حياته كثيرا لإيمانه باختلافه عن أصدقاء السوء الذين لم يفلحوا إلا في إثارة الشغب والمشاكل وراجعوا ذكريات المراهقة والشباب وبداية اختلافهم في الطرق والأراء، لا يعلم ما أصابه لكنه شعر بحنين مفاجئ لزيارة والده، ذلك الرجل الذي لم يصل لإجابة فاصلة في علاقته به ولم يعرف هل يحبه أو اختار الكره، علاقة غريبة لم تكن علاماتها الفارقة كثيرة ولم يشعر فيها بالحنان المطلوب أو القسوة الكبيرة لكنها كانت تفتقر للمناقشة بشكل قوي،

لكنه لم ينس أبدًا يوم أن قرر أن يثور على أحد قرارته ولم يتوقع أن تكون هذه بداية النهاية في سيطرة والده على قرارات حياته كنهاية أسطورة الجبلاوي على يد عرفة في رواية “أولاد حارتنا” ومع مرور الوقت تمنى ألا يتحول إلى ايكاروس جديد ويستمر في العناد حتى مع نفسه حتى يكتب نهايته بيده أو ينتهى به الحال ك “عرفة” نفسه وتصبح حياته كلها بلا معنى،

كانت تلك الأفكار تدور في رأسه حتى قرر “ويجز” أن يعلن عن نفسه في قائمة الأغاني ب”كيفي كده” وكانت تلك هي لحظة وصوله للصالون، ألقى السلام على الفنان وعلى من حوله من الزبائن الذين لم يكونوا كُثر لحظه السعيد، رحب به الفنان كما يقوم النبطشي في الأفراح بطريقته اللطيفة المحببة إلى القلوب، كان هذا الصالون يشبه أماكن تجمعات المافيا الإيطالية في الثلاينيات من القرن الماضي حديث عن بيع وشراء وخناقة أولاد العائلات مع بعضهم البعض ورغبة أحدهم في معاشرة جارته سراً أصبح يتشارك فيه أهل المنطقة جميعًا أو على الأقل زبائن الفنان، جلس ينتظر دوره و أشعل سيجارته وسرح مع أنفاسها في ليلة وداع والده لمنزلهم عندما قررت والدته أن هذا يكفي ولن تتمكن من أن تعيش معه مرة أخرى لأن الغلطات كثرت والحياة أصبحت أكثر غمًا، لم يحمل لوالده موقف كراهية شديد على الرغم من وجود الدوافع لذلك لكنه شعر مع الوقت بالتعاطف مع حالته أكثر من السخط ،

لكن العلاقة ارتبكت أكثر ولم يستطع الذهاب لزيارته منذ تلك الليلة وكان بداخله ذلك الصراع الدائم بجدوى زيارته من عدمها وما سيحدث في تلك الزيارة، لوم؟ عتاب؟ ضحكات صغيرة متبادلة على أحاديث تاف.. -ما تاخد لك نفس من السيجارة دي يا نجم هتعجبك – قاطعه الفنان بتلك الجملة ورأى بيده سيجارة علم أن الصبي (ابن المرا) هو من لفها للأسطى تلك اللفة الجميلة المنتظمة، أعتذر عن شربها لكي يحافظ على صورته وسطهم على الرغم من حبه لشرب الحشيش في أوقات الفراغ أو العمل المتأخر لكن لكل فعل في الحياة ثمن يجب أن يُدفع وكان الثمن هذه المرة هو تلك الصورة الذي سعى كثيرا لتكوينها وتثبيتها عند من حوله، هنا الطاسة كانت اتعمرت عند الفنان وقرر أن يشد في عمله لكي يتمكن من رسم لوحاته في رؤوس الزبائن بكل سرعة وخفة ونادى على (ابن المرا) علشان يغير أغاني المهرجانات بنت الوسخة ،

هنا ظهر صوت منير قائلًا “ياللي بتسأل عن الحياة” لتعلو معه صوت تأوهات السلطنة التي تخرج في أوقات النشوة على اختلافها لكن هذه المرة كانت تخرج من الفنان و صحبته تحت تأثير السيجارة وصوت منير ونكهة ألحان محمد عبد الوهاب، في تلك اللحظة تذكر صاحبنا حبيبته التي كانت دائمًا تختلف معه حول قوة أغاني منير من عدمها وتعتبره مجرد محرف للأغاني القديمة  فكانت تثور ثورته لأنه اعتبر ذلك المطرب أيقونة ورمز لمرحلة الشباب والقوة والثورة على كل ما هو قديم بالي ، صوته كان ينادي بكل القوة التي احتاج إليها الشباب فما فائدة سماع تلك الأغنية مثلا بصوت المطرب الأصلي “سعد عبد الوهاب” غير الاستعداد للنوم والدخول في حالة النعاس ،

توسعت دوامة الذكريات لتبتلعه في مقعده وتذكر جدالهم الدائم والمستمر لكن الحب هو ما تطلب أن يستمر طريق العلاقة في مساره حتى انتهى ذلك الحب، زادت المشاكل وكثرت الحجج والاعتذارات وكانت تلك الأمور مجرد مسكنات للكلمة الأصعب في الحياة، الوداع كلمة سخيفة  ووقعها صعب على الأذن ويعتبر هو النصف الأخر لمعادلة كل شئ لأن تلك الكلمة تعمل كمنبه لتعيش كل لحظاتك بكل طاقتك لأنك ستودعها في وقت لا تعلمه ولكنك تعلم بوجود حقيقة كالموت وحقائق أخرى تكتشفها مع الوقت تجعل من الوداع أمر حتمي ولا يمنعك من ذلك سوى الخوف الأخر من الخسارة كما كاد أن يخسر صورته منذ قليل وهو في صراع دائم للموازنة بين طرفي المعادلة، و لكن عندما اقتنعوا بوجود مفترق للطرق قرروا أن ينهوا ذلك الأمر بطريقة حضارية عكس كل شئ يحدث في البلد ، تقابلوا في مكان محبب إلى قلوبهم وجلسوا في هدوء في بداية الأمر لكن أكثر ما كان يخيفهم أنه لا يوجد لوم أو عتاب فاقتنعوا بدواخلهم أنه لا يوجد ما يمكن إصلاحه ولا داعي لأي محاولة طائشة جريئة بعرض إصلاح العلاقة وعودتها كما كانت في بادئ الأمر فقرروا أن يتمنوا للطرف الأخر التوفيق في حياته القادمة وألا يتأثروا بما حدث في تلك العلاقة ولكن ليت الحياة كانت بالتمني!

تمالك نفسه حتى انتهى اللقاء على خير وذهب إلى منزله سريعًا وعندما أغلق باب غرفته شعر بدموعه تنسال على خديه في تدفق قوي وعجيب وحاول ألا يعلو صوته لكن هذه المرة كانت الدموع أقوى من سور حبسها، مع الوقت حاول أن يتصالح مع فكرة صعوبة دوام الأمور وأن يتعود عليها حتى اتهمه كثيرًا ممن حوله بالقسوة وغلظة القلب وكان أخرهم هو والده الذي تعثرت خطوات زيارته له لمدة عام كامل ، لم يقتنع بتلك الفكرة التي يقولها المقربين عنه ولكنه اقتنع بمبدأ الأغنية ” الدنيا ريشة في هوا طيرا بغير جناحين واحنا انهارده سوا وبكره هنكون فين في الدنيا ؟!” ومفيش حاجة مستاهلة، هنا أنقذه الفنان من تلك الذكريات عندما نادى عليه ليأخذ دوره قائلًا بنبرة ! سخرية : ايه يا نجم ريحة السيجارة ودتك فين بس!

انضم مع 3 مشتركين

لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل

salontafker@gmail.com

شارك المحتوى


اكتشاف المزيد من تفكير

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

ندوات