انثروبولوجيا اللاهوت في فكر عبد الجواد ياسين (الجزء الأول)… بقلم: نتاشا العبادي
نتاشا العبادي


استكمالا لاحتفالية صالون تفكير بسبعينية عبدالجواد ياسين عقد صالون تفكير الندوة السابعة بعنوان انثروبولوجيا اللاهوت في فكر عبد الجواد ياسين، حيث قدمها الباحث الأستاذ محمد صلاح وأدار الندوة الكاتب جمال عمر وصمم بوستر الندوة ايمان رفاعي. أقيمت الندوة يوم الثلاثاء السابع عشر من سبتمبر ٢٠٢٤ الساعة الثامنة مساء على زوم .

الأستاذ الباحث محمد صلاح، مهتم بعلم الاجتماع والدراسات الإسلامية حصل على مجموعة دبلومات في الدراسات العليا، ومهتم بالفلسفة والسياسة والسوسيولوجيا، له عدة مقالات عن أزمة الفلسفة في العالم الإسلامي ومراجعات في كتاب السلفي المتخيل مقاربة تحليلية .
في الندوة، تحدث الباحث محمد صلاح عن كيفية تأثير قراءته لكتاب “الدين والتدين” لعبد الجواد ياسين على تكوينه الفكري، وأوضح أنه اختار التحدث عن كتاب “اللاهوت” تحديدًا رغم توقعه أسئلة حول السلطة في الإسلام أو “الدين والتدين”.
تحدث الباحث في الندوة عن انثروبولوجيا اللاهوت في فكر عبد الجواد ياسين من خلال عدة محاور :-
التجديد
سؤال السلطة والإسلام والدين والتدين يدفع الباحثين في التجديد إلى التركيز على جانبي السلطة والتشريع. وفي رأي الباحث محمد صلاح أن النزعة التجديدية بما أنها بنت الحداثة تهتم بالشأن الدنيوي المباشر أكثر من غيره. فهي تطرح سؤال العلمنة الذي هو مرادف الدنيوة. ولذلك فهي لا تعبأ كثيرا بدراسة المسائل الكلامية واللاهوت ولا تهتم بالبحث في مفهوم الألوهية، والصفات، والمسائل الغيبية. يشير الباحث محمد صلاح إلى أن العقل الحداثي يتبنى بعض أفكار الفرق التي أعطت للعقل استقلالية نسبية، مثل أفكار المعتزلة والفلاسفة مثل الكندي، ابن سينا، وابن رشد. والمفارقة تكمن في أن هذه الفرق، تاريخيًا، ركزت على نقد اللاهوت (أي علم الكلام و صفات الله وعلاقة الله بالعالم )، ولم تفكر نقديا بقضايا الشريعة، أي أنها أولت اهتمامًا أكبر بمسائل الألوهية والفكر الفلسفي قبل النظر في الأحكام الشرعية. وأنه بعد القرن الثالث لا تختلف عن غيرهم مثل السنة، والأشاعرة، ونجد ان المتكلمين لا يحتجون بالآحاد في أصول العقائد وكثير منهم يقبلونها في التشريع والفروع ، بل نجد فيلسوفا مثل ابن رشد الفقيه والقاضي نجد أن الشريعة في ذلك الوقت كانت منسجمة مع المناخ الاجتماعي إلى حد كبير ولم تثير تساؤلات لكي يتمكن المتكلمون من نقدها إلا البعض مثل المعتزلة، وليس لدينا المادة العلمية التي تمدنا به إلى أي مدى كانوا أكثر تجديداً في مسألة الشريعة سوى تجديد الشاطبي الذي تكلم عن المقاصد، وأكثرهم راديكالية كان نجم الدين الطوفي وهو حنبلي وليس من المعتزلة، ويشرح الباحث محمد صلاح أن اللاهوت والتحديات جعلت التفكير النقدي النسبي فيه ممكنًا، ومن هنا تأتي أهمية دراسة المستشار عبد الجواد ياسين. من ناحية هو اهتمام نادر في تناوله عن تيار التجديد، باستثناء قلة مثل عبدالجبار الرفاعي (المفكر العراقي)، والسؤال هل هناك حاجة ملحة لدراسة هذا النوع في سياقه الاجتماعي التاريخي تقترب الحاجة لدراسة ونقد مفهوم الشريعة؟
والإجابة في رأي الباحث محمد صلاح هي نعم، لأن تفكيك الفكر اللاهوتي وموضعته في سياقه الاجتماعي والتفريق فيه بين الثابت والمتحول هو الأساس الذي يمكن أن يقود مفهوم حصري في معظم الديانات خاصة الديانات التوحيدية، وإذا تم نقد مفهوم الحصرية وامتلاك الحقيقة المطلقة وتفكيك الدعوة القائلة بأن لاهوت ديانة ما هو بعينه ما يعكس صورة الله في ذاته، وما هو إلا وحي المفارق بمختلف تفاصيله، فإن هذا يساعد على توطين التعددية ووضع الأفكار في إطارها النسبي الإجتماعي ولا يجعلها مطلقة، وهذه رؤية عملية لفائدة الكلام في اللاهوت، وتجديد علم الكلام وفلسفة الدين، وفي البحث في تطور اللاهوت وتجديد فهمنا للاهوت.
ويشير الباحث محمد صلاح أن التيار التجديدي يحب أن يشتبك مع الأمور الدنيوية التي لها صدى في الواقع، فهو يشتبك دائما مع الشريعة ويهمل إلى حد ما اللاهوت، وهم قله ماعدا المفكر عبد الجواد ياسين الذي نقد السلطة في الإسلام ثم نقد الدين والتدين، والشريعة وفرق بين الدين والتدين ثم نقد اللاهوت.
علم الكلام القديم والجديد

يتساءل الباحث محمد صلاح ما هو الوصف المناسب لمشروع عبدالجواد ياسين وكتاب اللاهوت بشكل خاص؟ هل هو مشروع سوسيولوجي وأنثروبولوجيا؟
أم هو ضرب من فلسفة الدين؟
بل هل يمكن وصف كتاب اللاهوت بالتقاطع مع علم الكلام الجديد؟
ويرى الباحث محمد صلاح أن المفكر عبد الجواد ياسين يبدأ من الاجتماع والأنثروبولوجيا حتى يكون علمياً، إضافة أنه يدرس تطور التدين في التاريخ والاجتماع وتعدد مظاهره، وفي نفس الوقت يقدم عبدالجواد ياسين فكراً فلسفياً عندما يعيد تعريف الدين، التدين، الديانة، والوحي، والنبوة، وهذه التعريفات هي أحد مطالب علم الكلام الجديد عند عبدالجبار الرفاعي كمثال. يستند أسس علم الكلام الجديد عنده في إعادة تعريف بعض المفاهيم الأساسية مثل مفهوم الوحي والنبوة ومفهوم الإنسان بطريقة مختلفة عن علم الكلام القديم، وفي نظر الباحث محمد صلاح أن علم الكلام الجديد هو فلسفة الدين التي تستلهم فلسفة الدين الغربية والذي جعلها تنتمي إلى الكلام الجديد أو علم الكلام، وتساءل لماذا لم يطلق عبدالجبار الرفاعي على مشروعه فلسفة الدين ؟ ثم أيقنت أن علم الكلام ينطلق من التسليم الإيماني الذاتي بالله وجوهر الدين والذي نبحث فيه فلسفة الدين ، وهو من الأمور التي بلا ضرورة، لكن علم الكلام الجديد يبحث في هذه الأمور وهو لا ينفي الغيب ويسلم به لكن بطريقة مغايرة عن التسليم التقليدي.
النقد المتعدد الأوجه عند عبد الجواد ياسين
يشير الباحث محمد صلاح إلى أن ياسين لم يكتفي بنقد العقل الديني التقليدي، بل وجه نقده للأنثروبولوجيا الكلاسيكية، والاجتماع الوضعي وحتى الفلسفة المثالية عند هيجل، فهو ليس حداثوي، لا يتبنى التنوير الفولتيري الكلاسيكي الذي يخاصم الدين ويتكلم باندثاره ويتكلم عن التفاؤل عن الوضع الاجتماعي وتقدم العقل .
يري الباحث محمد صلاح أن الحداثة بدأت بهزات عنيفة في مهاجمة العقل الديني ما قبل الحديث والعقل الفلسفي أيضا، لقد تغير البرادايم تماما فحلت بعد نيوتن رؤية ميكانيكية للعالم بدل الرؤية الغائية اليونانية أو المسيحية وأصبح العالم الحديث، عالم الفلسفات المتنوعة، عالما بلا غاية ولا يتجه نحو قدر محدد مستقر، فلم تعد الأرض مركز الكون، ثم يأتي داروين ليؤكد أن الإنسان ليس مميزا جدا بل هو أحد أفراد المملكة الحيوانية، وبناء على هذه النظرة الميكانيكية والآلية تأسست فلسفات ونظريات عمقت هذه النظرة، ثم يأتي فرويد لتأكيد دور اللاوعي في تحريك سلوك الإنسان ثم نيتشه بتفكيكه، وماركس بتأكيده على دور البنية التحتية الاقتصادية المادية في تحريك التاريخ.
وفي وسط هذا الزخم وتغير منظور دراسة الدين ولأول مرة أصبح موضوعا لعلم الاجتماع، أي أنه أصبح ظاهرة اجتماعية وذهب التفاؤل إلى الحد الذي توقع اندثار الدين كلما ازدهر العلم والعقل، حيث ستنتصر المرحلة الوضعية بعد اللاهوت والميتافيزيقية بتعبير أوجست كون، لكن هذه النظرة الوضعية في نظر ياسين فشلت في تفسير حضور المطلق داخل الذات الإنسانية، كمشترك بين الديانات وتجارب التدين المتنوعة، كما فشل العقل الديني التقليدي في تفسير التعدد والتطور في الظاهرة الدينية، حتى بعد تفسير ذلك أنه بسبب الانحرافات والشيطان. إن العقل الديني لا يمكن أن يتقبل الواقع، والواقع أن الديانات والتدين يتعدد ويتطور. بلغة ياسين، الاستقراء لهذا الواقع المشاهد. ويرى أن العقل التقليدي يقر بالتنوع والتعدد، ولكنه يفسر ذلك الانحراف والتحريف وفعل الشيطان. كما يحاجج ياسين أن التعدد والتنوع شديد الصلة باحتلاف البيئة والثقافة، وأن التدين حاضر حتى في المجتمعات ذات النزعة الفردية. مما ينقد نظرية دوركايم، مثلا الجماعة التي غيبت دور الذات لصالح المجتمع الذي ينتج الظاهرة الدينية.
إن ياسين ينقد أيضا العقل الاجتماعي الوضعي والذي ينظر للدين كأنه منتج اجتماعي بحت بما فيه فكرة الله نفسها، وأن كلا من العقل الديني التقليدي والعقل الوضعي الاجتماعي لم يقدما تفسيرا مقنعا للمشترك بين كل هذه الديانات وهذا المشترك كامن في أعماق الذات والتي يرى ياسين أن الذات مكتفية به. يقول الباحث محمد صلاح أن عبد الجواد ياسين يعطي الذات حقها، يقر الاجتماع والعوامل التاريخية والاجتماعية، ولكن يعطي استقلالية للذات حتى لو كانت نسبية، فهو يجعل الذات لا تتماهى في الاجتماع ويعطي للذات الإنسانية حقها في الإيمان الغير مفتقر للبرهان.
قراءة في فكر عبد الجواد ياسين
الباحث محمد صلاح ، في قراءته لفكر عبد الجواد ياسين يشر إلى :-
- إن اللاهوت عند ياسين هو تصورات البشر عن الله، فهو جدد مفهوم اللاهوت لا ليكون البحث في ذات الله وصفاته وأسمائه للدفاع عن تصور معين، بل ليكون وصف لتعدد وتطور التصور عن الله كفكرة مطلقة حاضرة في أعماق ذات الإنسان، إن ياسين يتعدى الوصف إلى وضع فلسفته الخاصة فهو يعيد تعريف اللاهوت بما يتوافق مع تعريفه الفلسفي بين الدين والتدين، وبين المطلق والنسبي، وبين الثابت والمتحرك.
- إن الديانة تبني المؤسسة أحد أشكال التدين والتي تشكلت في التاريخ وتأثرت بمحيطها الثقافي من اللاهوت، وأخلاق، وطقوس. وتشريع، وتمر بمراحل من التأسيس إلى الانغلاق.
- تتقاطع دراسة ياسين مع فلسفة الدين، حيث تتطلب رؤيته إعادة فهم الوحي من تلقي سلبي إلى فاعلية يضفي عليها رسول الديانة بصمته الخاصة وفهمه وتأويله.
- وإن فكرة الوحي تقرأ إما تقليدية أو بصورة أوسع حيث يكشف الله عن وجوده الذاتي فحسب، ثم تتعدد المقاربات بتعدد الثقافات بل بتعدد الذوات.
- ان عبد الجواد ياسين بإستقراءه الواسع لأنماط التدين الكبرى في الشرق الأقصى والشرق الأدنى، يرصد نسقين للتدين هما :-
الأول ثنائي؛ هو تحليل نسق التدين في الشرق الأدنى، وتتشكل فيه اليهودية أم الديانات الإبراهيمية التوحيدية. ومن الديانات المرتبطة بالشرق الأدنى نجد التدين الهندي فنجد وحدة وجود مطلقة فلا حاجة لنبوة ويرصد ياسين التلاقح الفكري والتنقل بين ديانات الشرق الأدنى. وهنا استعان ياسين بالأنثروبولوجيا، فنجد ياسين يتعدى وينقد الأنثروبولوجيا الكلاسيكية والأنثروبولوجيا المعاصرة أي ما بعد الحداثة، وهي أنثروبولوجيا وصفية ولا تحمل هما نهضويا ولا تحديا، ويوظفها ياسين لتدشين فكر تجديدي.
الثاني لا ثنائي؛ هو تحليل نسق للتدين في الشرق الأقصى، يعرض عبدالجواد ياسين فكرة وحدة الذات والموضوع، حيث لا يوجد انفصال واضح بين الله والإنسان. في هذه الرؤية، يكون الإنسان هو الذات المدركة، بينما يُمثل الله الموضوع، ما يعني أن الله والإنسان والعالم يشتركون في وحدة وجود مطلقة. وتعبر عنها الهندوسية من خلال مفهوم “برهمان”، الذي ينقسم إلى “برهمان المطلق”، وهو الذي لا يمكن وصفه أو إدراكه بالكامل، و”برهمان المشروط”، الذي يتفاعل مع البشر بطريقة قريبة من مفهوم الإله الشخصي.
ياسين ينتقد فكرة “برهمان المطلق”، موضحاً أن هذا الكيان لا يمكن أن يكون موضوعًا للوصف البشري، في حين أن “براهمان المشروط” يُمثل العلاقة الأكثر قربًا للإله والذي يخاطب للبشر.
أما بالنسبة للتدين الصيني، يوضح ياسين أن الفلسفات مثل الطاوية والكونفوشيوسية تختلف عن الديانات التوحيدية في أنها لا تدعي النبوة أو أنها تنطق باسم الله. ومع ذلك، تأثرت هذه الفلسفات بقوة النظام الاجتماعي والثقافة، ما أدى إلى تطور الكونفوشيوسية والطاوية بطرق تتجاوز أصولها البسيطة، وتظهر قوة المجتمع في تشكيل الدين والتدين.
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تعليق واحد