بيت القضاة: من المكان إلى المكانة .. بقلم: أحمد خفاجي
الأستاذ أحمد خفاجي يكتب سلسلة مقالات بعنوان “علي عبد الرازق وسؤال السلطة”. وهذا هو المقال الثاني: “بيت القضاة من المكان إلى المكانة”.
بقلم: أحمد خفاجي

في 21 أكتوبر 2020 م نشرت جريدة اليوم السابع خبرا تحت عنوان “المستشار عبد الوهاب عبد الرازق الرئيس الـ 26 لمجلس الشيوخ”. كان المستشار عبد الرازق يشغل قبل هذا التاريخ منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا خلفا للمستشار عدلي منصور.

تعود أصول القاضي الكبير إلى قرية البهنسا مركز بني مزار بمحافظة المنيا أو المنية في مصر الوسطى، تبعد البهنسا عن القاهرة مسافة 250 كم، وهي تقع إلى الغرب من مدينة بني مزار بمسافة 16 كم، والبهنسا الآن اسم يُطلق على قرية تابعة للوحدة المحلية لمجلس مدينة بني مزار، بينما تأرجح وضعها الإداري خلال العصور المختلفة من كونها ولاية أيام المماليك ثم العثمانيين ثم مديرية في عهد محمد علي، وقد يختفي اسمها من التقسيم الإداري ليحل محلها المنيا أو بنو مزار.
تقول إحدى الأساطير إن البهنسا كان يحكمها بطليموس الروماني، وكانت له فتاة ذات حسن وجمال ومن شدة جمالها أطلق عليها “بهاء النساء”، ومن هنا سميت البلدة بـالـ “بهنسا”.
ثمة أساطير وحقائق مثيرة ترتبط بتلك القرية في شمال صعيد مصر، فهنا أقام الفراعنة معابدهم، ومن بينها مسلة كبيرة تحدث عنها السيوطي في كتابه حسن المحاضرة.
وهنا أطلال مسرح روماني يفوق مثيله في الإسكندرية مساحة واتساعا.
وهنا أقامت السيدة مريم وابنها المسيح عليهما السلام يستظلان بشجرة مباركة ويشربان من بئر مقدسة، ما زالا موجودين حتى الآن.
وهنا عشرات بل مئات الأضرحة والمقابر لصحابة كبار من البدريين وغيرهم، وتابعين معروفين شاركوا في فتح المدينة على يد خالد بن الوليد، ومقامات لعلماء وأولياء وقضاة دفنوا بأرض البهنسا “المقدسة”، لذا أطلق شيخ الأزهر المرحوم عبد الحليم محمود على قرية البهنسا لقب “البقيع الثاني”، وأطلق عليها آخرون اسم “أرض الشهداء”.
وفي البهنسا ضريح “السبع بنات” المسيحيات اللاتي ساعدن جنود المسلمين في فتح المدينة بعد قتال مرير، واستشهدن، وبُني لهن ضريح واسع أواخر الدولة العثمانية ما زال قائمًا إلى الآن، يزوره المسلمون ويتمرغون بالرمال المحيطة ببنائه تبركا به.
وهنا في 1896 م اكتُشفت “برديات البهنسا” التي تعود إلى الفترة من 250 ق. م إلى 700 م، وهي عبارة عن 400 ألف بردية تم نقلها إلى لندن، فيها عيون الأدب اليوناني، ونسخ لأناجيل قديمة لم تعرف من قبل.
وهنا في 1922 م اكتشف وليام بيتري 80 ألف قطعة أثرية نقلها إلى متحف بيتري للآثار المصرية في لندن.
ومن البهنسا وما حولها كان يُصدُر القمح المصري إلى روما في العصر الروماني.
على أرض هذا المتحف العالمي المفتوح متعدد الحضارات والثقافات، عاش السيد أحمد القاضي واشتغل قاضيًا على البهنسا عام 1165 هـ/ 1752م، في بيت “تلوح فيه مظاهر النعمة” كما يصفه علي عبد الرازق في مقدمته لكتاب “من آثار مصطفى عبد الرازق”.
تولى السيد أحمد القاضي إذن قضاء البهنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، عندما كانت مصر ولاية عثمانية اسمًا مملوكية حالا وواقعا، ثم تولى القضاء بعده ابنه عبد الرازق بن أحمد القاضي في 1213 هـ/ 1798 م أي في العام نفسه الذي جاءت فيه الحملة الفرنسية إلى مصر، ثم ورثه على قضاء البهنسا ابنه محمد عبد الرازق صديق طاهر باشا والي (حاكم) الفشن.
ثم ورثه ابنه أحمد أفندي عبد الرازق، الذي صحب الخديو سعيد باشا (1822-1863م) في رحلة دراسية إلى إسطنبول، وهناك تعلم التركية، ثم عاد إلى مصر وهو الذي نقل كرسي القضاء من البهنسا إلى الشرق بالقرب من النيل في قرية أبو جرج (بوجرج) مركز بني مزار، حيث استقر هناك، وبنى داره للسكنى والقضاء، وأنشأ في ربض القرية حديقة تبلغ نحو 5 أفدنة، بنى لها ساقية ترويها بالماء، واختار لها أطيب أنواع الفاكهة والأزهار، وقد زاره صديقه محمد سعيد باشا في أبو جرج أكثر من مرة، وكان – الباشا- يُرسي ذهبيته بجوار هذه الحديقة، حيث يجري نهر صغير، كان يومئذ يأخذ مياهه من النيل مباشرة، إلى أن فصلت بينه وبين النيل ترعة الإبراهيمية (التي أنشأها إسماعيل عام 1874م)، وتحتفظ عائلة عبد الرازق برسائل سعيد باشا “بخط يده” إلى صديقه أحمد عبد الرازق.
توفي أحمد هذا ودُفن في البيت الذي مات فيه تكريمًا له، على عادة أهل هذا الزمان فيمن يرون فيه أمارات الولاية “ولي من أولياء الله الصالحين”، تاركًا 5 أبناء و 3 بنات، كان منهم حسن عبد الرازق الذي ولد عام 1844م والذي سنتعرف عليه بالتفصيل فيما بعد.
وقد توفي حسن (باشا) عبدالرازق عام 1907م تاركا سبعة أبناء وبنتين، فأبناؤه على ترتيب سنهم هم: حسن باشا الصغير، وحسين بك، ومحمود باشا، ومصطفى (باشا)، وعلي، وإبراهيم، وإسماعيل. وأم هؤلاء جميعا عدا إبراهيم وأختيه هي السيدة خدوجة بنت الحاج عبد السلام عثمان الشريعي، من عائلة (الشريعي) بسمالوط.
نصل من كل ما سبق إلى أن آل عبد الرازق كانوا قد نشأوا في مكان متميز، له قدسية خاصة لدى المصريين مسلمين ومسيحيين، وأن العائلة كان لها مكانة مرموقة ووجاهة ظاهرة في محيطها، فلُقّب بيت آل عبد الرازق بـ”بيت القضاة”، واستمر هذا الحال من النصف الثاني من القرن الثامن عشر – وربما قبله أيضًا- إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حتى نصل إلى عميد هذه العائلة وصانع مجدها المادي والأدبي حسن باشا عبد الرازق.
فكيف انتقل نجم آل عبد الرازق من قرية أبو جرج بالمنيا، ليصعد إلى آفاق السلطة والنفوذ في سماء القاهرة المحروسة؟
إلى لقاء في المقال الثالث….
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اترك رد