تاريخ المصحف الحالي.. جمال عمر.. الجزء الأول .. إعداد: سماء معاوية
تأتي هذه السلسلة من المقالات ضمن مشروع كتاب عن تاريخ المصحف الحالي للمفكر جمال عمر، كان البحث مجموع في صورة مرئية أو مجموعة فيديوهات على الإنترنت فعملتُ على تحريره وتحويله من صيغته الشفاهية إلى مكتوب، ليتنسى للقارئ الاطلاع عليه والاستفادة منه وإضافة لحقل الدراسات القرآنية باللغة العربية وهذا هو المقال الأول من السلسلة.………………………سماء معاوية
إشكالية تاريخ المصحف
جمال عمر

تقدمة
حث القرآن العقول على البحث والنظر فيه فكان حصنًا لمن آمن به ودليلًا لمن أراد التعمق في دراسته والبحث فيه؛ وعليه اختلفت اتجاهات التعامل مع المصحف الحالي في عملية التأريخ له، رأيتُ أن أبدأ في دراسته بالتعامل مع ما هو موجود بين أيدينا اليوم، بدراسة تاريخ المصحف السائد، بأن أبدأ بالحسي والعيني، منطلقًا منه نحو المجرد والماورائي، فلأي مدى أثرت المراحل والتغيرات التاريخية التي مرت بها هذه النصوص على شكل المصحف الذي بين أيدينا اليوم.
المصحف الحالي بين الاستشراق والتقليد
اهتمت المدراس الاستشراقية في أوروبا خلال القرنين الماضيين بدراسة تاريخ المصحف في محاولة للوصول إلى المخطوط الأصلي وذلك بالاعتماد على الأدلة المادية العينية، ولم يكن الاهتمام هنا منصبًا على المصحف نفسه بل كان الاهتمام الأساسي بالنقد التاريخي للكتاب المقدس من خلال العودة للسياقات التاريخية للغات الحية المحايثة للغات الكتاب المقدس تاريخيا مثل الآرامية واليونانية القديمة والعبرية التي أعاد الإسرائيليون إحياءها، بحيث أصبح التعرض لتاريخ المصحف هو مسار للوصول للأصول التاريخية لنصوص العهد القديم والجديد عبر العودة للسياقات اللغوية والتي كانت اللغة العربية في قلبها. وهنا كان نص المصحف محل بحث باعتباره أول وأقدم كتاب له مخطوطات بالعربية فأحيانا تُقارن القصص الموجودة في القرآن والتوراة في سبيل فهم الكتاب المقدس.
مع بداية القرن العشرين بدأت محاولات الألمان بجمع المخطوطات لعمل نسخة محققة من المصحف عن طريق تجميع كل النسخ المتاحة والبحث عن النسخة الأقدم/ الأصلية ثم اختفت هذه المخطوطات مع الحرب العالمية الثانية ولم تكتمل الجهود بسبب موت بعض الباحثين الذي عملوا على تلك الأبحاث.
أما المسلمون فكان اهتمامهم بدراسة تاريخ المصحف منطلقًا من التصديق بأن القرآن وصل إلينا بالرواية وأنه محفوظ من الله، وعليه يكون كل كلام عن “التشكيك” في طريقة وصول القرآن إلينا هو من قبيل الشبهات التي تستلزم الرد عليها، فالمصحف قد دوّن في عهد النبي كما نطق به، ما يجعلنا نغض الطرف عن أية محاولات للبحث في تاريخية المصحف الحالي، لكن هل نحن نملك اليوم نسخًا من مصاحف دونت فعلًا في عهد النبي أو في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟
تاريخية المصحف الحالي
لو تعرضنا لطريقة كتابة النصوص وشكل جمعها ونظرنا لمصاحف لجنة عثمان نجد أنها مكتوبة بلغة العرب القديمة أي دون تنقيط أو علامات إعراب أو علامات صرفية توضح بنية الكلام، فلو وضعنا أمامنا اليوم نسخة من مصحف عثمان لن نتمكن من قراءتها بسبب اعتيادنا على طريقة كتابة معينة وهي الطريقة القياسية للغة العربية.

هل كان القرآن ينتقل عبر المخطوطات؟
لو تصورنا أن النصوص قد كُتبت في رق ماعز مثلًا مع الدباغة، لا يمكن أن يُتصور عمل كم من النسخ تناسب عدد الراغبين في تعلمه؛ فهي مواد عضوية في النهاية يصعب بقاؤها مدة طويلة وممكن أن تكون عرضة للتلف، بينما المخطوطات التي بين أيدينا اليوم تكونت من الورق، فلو تصورنا أن هناك مصحف كامل صنع من رق الشاه والماعز هذا يعني أنه يتطلب ما يزيد عن سبعمائة رق حتى يحوي كل القرآن وهي عملية مكلفة، ولهذا فلم يتعلم الناس القرآن بالقراءة المباشرة من المصاحف المصنوعة من الرق بل كان عثمان بن عفان يرسل مع كل نسخة قارئ ليقوم بعملية التعليم، ويتعلم الناس القراءة عن طريق القارئ مع وجود نسخة من المصحف لمن أراد النسخ بيده أو للاطلاع عليها.

ماهي الخلفيات التاريخية التي جعلت من مصحف اليوم مصحف موحد لكل العالم؟
أحدثت مطبعة بولاق نقلة نوعية وكمية للعلم في المنطقة العربية بأسرها وبدأت محاولات لطباعة المصحف في القرن التاسع عشر حتى أن مسألة وضع كلام الله المقدس في ماكينة وتمرير عليه الحبر الزفر، لم تكن مستساغة في البداية. ثم ظهرت المطابع الأهلية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فظهرت طبعات من المصاحف، فمثلاً سنة 1890م طبع مصحف المخللاتي، وهو مصحف خال من الزخرفة وفواصل السور كما أنه مكتوب بالرسم العثماني؛ لأن تطور اللغة العربية وقتها سمحت بظهور مصاحف كتبت بقواعد نحو العربية القياسية وليس بالرسم العثماني مثل مصحف ابن البواب، بينما آثر المخللاتي العودة للرسم العثماني آخذًا بفتوى الإمام مالك حتى لا يخرج عما اتفق عليه الصحابة. ويعتبر مصحف المخللاتي مصحف أخرج بجهود فردية.

نظارة المعارف المصرية وطباعة المصحف
لعبت نظارة المعارف المصرية دورًا بالغًا في تشكيل القواعد التي حكمت شكل المصحف الذي طبع في هيئة المساحة سنة 1924 والذي سمي بمصحف المساحة أو مصحف الملك فؤاد وأنا أسميه مصحف القاهرة، وهو مصحف مكتوب برواية حفص عن عاصم برواية وسند الشيخ محمد خلف الحسيني الحداد مباشرة.



لما أرادت نظارة المعارف المصرية طبع نسخة من المصحف حتى يوزع على طلبة المدارس فاجتمعت لجنة برئاسة حفني ناصف بك (1955 – 1919)م، كبير مفتشي اللغة العربية بنظارة المعارف، والشيخ محمد خلف الحسيني الحداد (1965 – 1939)، شيخ مشايخ المقارئ المصرية، والشيخ أحمد علي عمر الإسكندري (1875م – 1938م)، والشيخ مصطفى عناني، وهم خريجي دار علوم ومدرسين بمدرسة المعلمين الناصرية العليا ومن معدي كتب المناهج بنظارة المعارف، والخطاط نصر العادلي رئيس المصححين بالمطبعة الأميرية، ليُكتب المصحف على الرسم العثماني بسلسلة سنده.
لما أحضر مثلا الملك فؤاد الخطاط التركي لكتابة نسخة مصحف له، كان يكتب بشكل فردي، أي دون مراجعة أو ضبط لِمَا يكتب، فلم يكن هناك لجان لكتابة المصحف ومراجعته.
المخاتلة هنا – وأقصد بها خداع قد يكون غير مقصود – أن كل العلوم عند المسلمين قد وصلت عن طريق الرواية، وعبر سلاسل من السند، حتى أتى عصر التدوين وتحول بعض ما هو شفاهي إلى مكتوب، فالقرآن أتانا عبر التاريخ أيضًا بالرواية الشفاهية، ينقلها جيل عن جيل، وكل المعارف عند المسلمين، بما فيها اللغة والشعر الجاهلي والتاريخ قد وصلتنا بالرواية الشفاهية عبر التاريخ.

بعد إنشاء معهد القراءات في مصر، وإنشاء لجنة لمراجعة المصاحف، حاولت دار الكتب المصرية عمل طبعة جديدة من المصحف فتم تشكيل لجنة برئاسة شيخ المشايخ المصرية الشيخ علي محمد الضبّاع (1886- 1961)م وتمت مراجعة المصحف وأدخلت اللجنة بعض التعديلات برئاسته وشارك فيها الشيخ عبد الفتاح القاضي (1907- 1982)م من معهد القراءات وأساتذة من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر وأخرجوا مصحفًا آخر عام 1952م في مصر وهو المصحف الذي قامت عليه كل المصاحف التي أتت بعده.
إشكالية تاريخ المصحف
أرى أن الإشكال في دراسة المسلمين لتاريخ المصحف ودراسة غير المسلمين أن كلًا منهم يحاول إلغاء دور العامل البشري في الجمع والنقل، ويتجاهل كون المصحف الذي بين أيدينا اليوم هو نتيجة مجموعة من الاختيارات بشرية، فبداية من لجنة أبو بكر الصديق والمرويات التي أتت من أسامة بن زيد، مرورًا بلجنة عثمان بن عفان وما قاموا به من خيارات محددة حتى القرن الرابع الهجري، ثم اختيارات ابن مجاهد ت 324هـ للقراءات السبع، تلاه أبو عمرو الداني سنة ت444 هجري ودراساته على القراءات، ثم الشاطبي ت 590هـ ومنظومته في متن الشاطبية، وابن الجزري ت838هـ الذي أضاف ثلاث قراءات على القراءات السبع، ونظم لهم متن الدرة ثم طيبة النشر في القراءات العشر، ودور ابن الجزري الذي بينه وبين النبي أكثر من ثمانمائة عام، ثم وصولًا للشيخ المتولي الكبير ت1895م الذي عاش في فترة حكم محمد علي باشا وأولاده وإليه تعود معظم سلاسل السند في مصر وما تلاه من جهود في القرن العشرين هي كلها جهود بشرية قام بها أفراد تشكل المصحف الذي بين أيدينا اليوم، في المقال التالي أستعرض معكم مصحف مجمع الملك فهد أو مصحف المدنية لنكشف ونتعلم طريقة للبحث وللنبش والحفر والتفكير وراء ما نشاهده الآن.
للاطلاع على الحلقة الأولى من سلسلة تاريخ المصحف الحالي
لمراسلة المجلة بمواد للنشر في صورة ملف word عبر هذا الايميل
salontafker@gmail.com
تابع قناة جمال عمر علي يوتيوب شاهد قناة تفكير علي يوتيوب تابع تسجيلات تفكير الصوتية علي تليجرام انضم لصالون تفكير علي فيسبوك
شارك المحتوى
اكتشاف المزيد من تفكير
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
6 comments